الاسمنت يلتهم أشجار الياسمين و الليمون بأحياء قسنطينة الراقية

تحاول أحياء قسنطينة الراقية التي طالما ارتبطت صورتها بالمنازل الجميلة ذات الهندسة الأوروبية التي تزينها أشجار السفرجل و الليمون و البرتقال، و تعبق منها رائحة الزهر و الياسمين، الصمود في ظل زحف الإسمنت المسلح الذي أتى على جزء هام منها، بعدما تخلى عنها ملاكها الأصليون و حولها سكانها الجدد إلى مجمعات إسمنتية دون هوية عمرانية، أما الشوارع فغزتها محلات الفاست فود، ومقاهي الإنترنت، فما عادت تختلف كثيرا عن الأحياء الشعبية.
روبورتاج : نور الهدى طابي / تصوير : شريف قليب
قضايا الميراث وراء عمليات البيع
أحياء كثيرة  كسيدي مبروك و باب القنطرة، المنظر الجميل، المنصورة و حي المحاربين ظلت لسنوات نموذجا للتحضر، بالنظر إلى نمط الحياة فيها، مواقعها الإستراتيجية و تاريخها في حد ذاته، فضلا عن ارتباطها الدائم بأعرق العائلات القسنطينية، كما أن هذه التجمعات الهادئة،  لطالما تميزت  بخصوصيتها الهندسية التي تبرز جليا من خلال المنازل المستقلة بحدائقها الجميلة التي تزينها الأشجار، وبشوارعها الواسعة و النظيفة،  و هاهي تواجه اليوم خطر الزوال بسبب تراكمات عديدة، أولها  مشكل الانزلاق، بالإضافة إلى حركة الهجرة العكسية الناجمة عن قضايا الميراث، فرحل السكان الأصليون لهذه الأحياء، و فتح الباب على مصراعيه أمام أثرياء جدد من خارج المدينة، أعادوا تصميم المنازل بشكل جديد و مختلف عن النمط القديم و سمحوا للتجارة و الأعمال، بأن تزحف تدريجيا لتعوض الحدائق بواجهات المحلات و تفقد الشوارع هدوءها و خصوصيتها.
قضايا الميراث، كما أكد أغلب من تحدثنا إليهم خلال انجازنا لهذا الروبورتاج ، تعتبر الخلفية الرئيسية وراء بيع 80 في المائة من الفيلات القديمة خلال الخمس سنوات الماضية، بكل من المنظر الجميل و حي المحاربين، فالورثة فضلوا، كما قالوا لنا، هجر المنازل بعد وفاة الأصول، فوجدت لها مشترين من عين مليلة و عين الفكرون و أم البواقي، كما تحدث السكان أيضا عن فيلات كانت ملكا لأصحابها منذ 1962، بيعت مقابل 7 ملايير سنتيم، لأثرياء قاموا بهدمها بشكل تام و أعادوا بناء فيلات جديدة مكانها، قيل لنا بأن تشييدها استغرق أقل من سنة.
 في حي المحاربين تبرز التغيرات العمرانية بشكل واضح، بالنظر إلى الاختلاف بين طبيعة المنازل الأصلية ذات الطابع الكولونيالي،و بين  العمارات الإسمنتية التي شيدت على أنقاض فيلات قديمة، هذه  البنايات الجديدة ركزت أكثر على التوسع الأفقي و الإكثار من الواجهات التجارية، لكنها لم تأخذ المساحات الخضراء بعين الاعتبار، وقد حدثنا السكان عن ثري من أحد الأحياء الشعبية بقسنطينة، اشترى ثلاث فيلات في غضون سنتين، قام بهدمها و إعادة بنائها من جديد، كما حول جزء هاما منها إلى محلات تجارية، بينما أجر الجزء المتبقي لمكاتب دراسات و وكالات أعمال.
سلمى واحدة من أقدم ساكنات الحي، قالت بأن منازل الجهة السفلى من الحي الكائنة قبالة دار الثقافة مالك حداد و محطة النقل الحضري، كلها بيعت تقريبا لأصحاب الأموال القادمين من عين فكرون و أم البواقي، الذين هدموها و أعادوا بناءها، بينما لا تزال بعض الشوارع في الجهة العليا تحافظ على خصوصيتها، بالرغم من أن مشكل الانزلاق أثر كثيرا على وضعيتها،و دفع بالكثير من مالكيها إلى عرضها للبيع، فغالبية الجدران، كما أضافت، متشققة و حتى الأرضيات لا تخلو من النتوءات، رغم عمليات الترميم المستمرة التي دأب عليها الملاك، مع ذلك فإن إجراء أي تعديلات، من شأنها تغيير الهندسة الداخلية، أمر مستحيل كون البيوت تعتمد بشكل مطلق على الجدران الداعمة و أي تغيير يتطلب الهدم النهائي.و قال السيد العربي، صاحب مقهى بذات الحي، بأن أسعار العقار لطالما كانت مرتفعة في المنطقة، نظرا لاتساع مساحة المنازل و موقعها الاستراتيجي، لكنها قفزت خلال الخمس سنوات الأخيرة بشكل ملحوظ ، إذ لا تقل عموما عن 5 ملايير سنتيم للفيلا الواحدة ، نظرا لازدياد الطلب على المنطقة بعد انفتاحها على النشاطات التجارية و الأعمال، فمعظم الملاك الجدد للمنازل يعمدون إلى تحويلها إلى مقرات للمؤسسات أو البنوك أو وكالات تجارية و غيرها، وذلك لكون الحي قريب من وسط المدينة، و توجد في محيطه المرافق الإدارية و الخدماتية.
زواغــي و بوالصوف و عين سمارة وجهات جديدة
 نفس الواقع وقفنا عليه بحي سيدي مبروك في جزئيه العلوي و السفلي ، فالفيلات الجديدة بنيت مكان أخرى، بيعت مقابل مبالغ وصلت حتى 11 مليار سنتيم، كما علمنا من السكان، وهي بنايات يستخدم في إنجازها القرميد الأحمر و التصاميم الآسيوية للأسقف، بينما تعتمد أكثر على المساحة المبنية و التوسع الأفقي، على حساب الأشجار، بالمقابل  فإن نسبة كبيرة من البنايات القديمة الأخرى هدمت و شيدت مكانها مجمعات تجارية و خدماتية.
و أكد السكان الذين تحدثنا إليهم بأن من يشترون منازل حي المحاربين و المنظر الجميل، هم نفسهم من يهتمون بالعقار في سيدي مبروك، وهم أثرياء من عين الفكرون خصوصا، بالإضافة إلى آخرين من قسنطينة وصفوهم بحديثي الثراء. و أضافوا بأنهم مستعدون لشراء فيلتين متجاورتين و هدمهما و إعادة بنائهما من أجل التوسع أكثر، مؤكدين بأن الحي فقد خصوصيته و تحول إلى منطقة نشاط تجاري تعمها الفوضى.
بالمقابل، فإن حي المنصورة الذي لا تزال حركة البيع و الشراء فيه بطيئة نوعا ما، وهو ما أخر التحول العمراني به، يميل إلى التحول تدريجيا الى منطقة عسكرية، بعدما توسع نطاق المرافق التابعة للسلك العسكري به، و ليس بعيدا عنه،  نجد بأن حال حي باب القنطرة، خصوصا في جزئه العلوي، أشبه بحال الأحياء الشعبية، فالبنايات تتداعى و محلات الأطعمة السريعة تنتشر كالطفيليات في كل الشوارع تقريبا، بينما لا يزال الجزء العلوي المحاذي لثانوية خزندار، وصولا إلى مفترق الطرق المؤدي لحي الفوبور صامدا، رغم التغييرات التي طالت هندسة البنايات، وقيل لنا بأنها ضرورة فرضتها الانزلاقات التي تهدد المنازل.
خلال جولتنا علمنا من السكان بان غالبية الملاك القدامى لفيلات « الإستعمار» و الذين سكنوها منذ سنوات الاستقلال، شيدوا فيلات أخرى في مناطق توسع جديدة على غرار بلحاج و عين الباي و السوناتيبا، كما أن حي بو الصوف كان وجهة الكثيرين، كذلك الأمر بالنسبة لحي حريشة عمار بعين سمارة.
و السبب، كما علمنا من سامي لوادفل، وهو أحد الورثة الذين باعوا منزلا عائليا قديما بحي سيدي مبروك، هو فارق الأسعار، فمنزل العائلة بيع، كما أوضح محدثنا، بمبلغ 7 ملايير سنتيم، بالمقابل اشترت العائلة منزلا جديدا بحريشة عمار بسعر 3.5 مليار سنتيم، أما المبلغ المتبقي فسمح للعائلة بالاستثمار في المجال الطبي و تحديدا التحاليل و الأشعة، باعتباره تخصص اثنين من الأبناء.
محدثنا رفض الحديث عن هوية الشخص الذي اشترى منزل العائلة القديم، مكتفيا بالتعليق بأنه شخص لا يعد النقود و كان مستعدا للدفع أكثر لو طلب منه ذلك.
أحياء لم يبق منها سوى الاسم و شوارع تقاوم تسونامي التجارة
جولة في شوارع هذه الأحياء تبرز تحولا متسارعا في الخصوصية العمرانية و حتى في نمط الحياة بهذه الاقامات السكنية الفاخرة و الراقية، التي تسير نحو التحول إلى نموذج منظم عن الأحياء الشعبية، بعدما هجرها الكثير من سكانها الأصليين الذين كانوا يهتمون بالحفاظ عليها و يفرضون سلوكات و ممارسات خاصة لمنع تدهورها، كما ساهم الانفتاح الاقتصادي  و الحركية التجارية في كسر الهدوء الذي كان يميزها، و حتى شوارعها لم تعد بالنظافة و التهيئة اللتين كانت عليهما.
وحسب السيد كمال بودشيش مهندس معماري و مدير الطاقة بقسنطينة سابقا، فإن إشكالية هذه الأحياء تكمن في  غياب ذهنيات تهتم بالحفاظ على الخصوصية العمرانية و الطابع الهندسي للمباني، باعتبارها جزء من هوية المدن و غنيمة حرب، إن صح القول، كما أن ثقافة الاستهلاك و المصالح غلبت على كل أشكال الحياة الاجتماعية، ما جعل الكثيرين يبدون استعدادا نفسيا للتخلي عن منازلهم و أحيائهم مقابل الربح، كما لا يجدون حرجا في تحويل الحدائق إلى محلات تجارية و المنازل إلى مجمعات تجارية، وهو ما نعيشه حاليا، خصوصا  و أن هناك من هم على أهبة الاستعداد لدفع أي مبلغ يطلب منهم. كما أن الغالبية باتوا يدركون بأن مجال العقار يعد الأكثر مردودية، وبالتالي فإن الاستثمار فيه بات يستقطب شريحة واسعة من الناس، و عليه  يمكن القول بأن الثقافة الاستهلاكية عموما، شوهت الذوق العام وهو ما يترجم من خلال النماذج المعمارية الجديدة.
ن.ط

الرجوع إلى الأعلى