مقاه فئوية وأخرى أصبحت أيقونات لأحياء
عرفت مقاهي مدينة قسنطينة في السنوات الأخيرة، العديد من التحولات التي أثرت على طابعها العام، بسبب محاولات عصرنة الديكور الداخلي وخلق المزيد من النشاطات الجالبة للمواطنين، ما جعلها مجرد فضاء لمشاهدة كرة القدم بالنسبة للكثيرين، هروبا من المنزل وصورته النمطية الروتينية، وحصر النقاشات الدائرة فيها في السطحية والشعبوية، فلم تعد اليوم مكانا يجمع النخب من مختلف التخصصات مثلما كانت عليه في الماضي، رغم عنصر الفئوية الذي حافظت عليه الكثير منها. وقد حاولت النصر في هذا الروبورتاج، التقاط بعض اللحظات وتسجيلها من داخل عدة مقاه بأحياء مختلفة، أصبح يشكل هذا الفضاء المتنفس الوحيد فيها، بسبب انعدام شبه تام لأماكن أخرى، يمكن للمواطنين الترفيه عن أنفسهم فيها.
روبورتاج: سامي حباطي
مقاه لتوسيع النفوذ وأخرى لمناقشة الصفقات
جلسنا بأول مقهى، في استطلاعنا الذي قمنا به بوسط المدينة وأحياء أخرى، وقد أخبرنا بعض الأشخاص بأنه مكان يرتاده الكثير من المسؤولين المحليين والمدراء التنفيذيين، وقد صدق كلامهم حسب ما لاحظناه، فقربه من عدة مديريات تنفيذية ولائية ووقوعه بوسط المدينة، جعل منه مكان التجمع الأمثل لموظفي الإدارة المحلية ومدرائهم على حد سواء، كما أوضح لنا أحد مرتاديه بأن الكثير من الساعين إلى حل المشاكل والعراقيل الإدارية التي تواجههم يأتون إلى المكان، بحثا عمن يملكون القدرة على ذلك، وقوله يتوافق إلى حد بعيد مع ما يشاع حول المقاهي وقدرتها السحرية على مد روابط النفوذ الاجتماعي. وفي المقهى المذكور لاحظنا أيضا أن أغلبية الجالسين به من الكهول من سكان الحي أو المارين من هناك، وفيهم أيضا من يأتون للعب الورق.
ولم نجد خلال تجوالنا إلا فئة قليلة جدا من الشباب والمراهقين بين مرتادي المقاهي، حيث أخبرنا نادل بأحد المقاهي، بأن الشباب يفضلون حمل فنجان القهوة والتوجه إلى الخارج لمعاكسة الفتيات أو التواجد بمكان أوسع وأكثر توفرا على الهواء، ولا يحتمل كثير منهم الجلوس بالداخل نتيجة طغيان دخان السجائر واختناق الجو، مشيرا إلى أن بعض الآباء يعاقبون أبناءهم في حال صادفوهم داخل المقاهي، خوفا عليهم من تعلم بعض العادات السيئة على غرار التدخين، أو انحرافات أخرى، قد يشكل المقهى العتبة الأولى إلى عالمها، نتيجة الاحتكاك ببعض الأشخاص غير المرغوب فيهم أو المجرمين.
وقد اشتهرت مقاه أخرى بالمدينة بفئات خاصة من الأشخاص يقصدونها، على غرار مقهى الحوزي ببوالصوف، الذي يعتبر محجا لعازفي موسيقى المالوف وهواة هذا الفن، خصوصا خلال شهر رمضان، أين تقام حفلات ليلية كل يوم.
ويرتبط اسم المقهى أحيانا بالنشاط القريب منه، حسب ما سجلنا، مثل أحد المقاهي على مستوى الحي المجاور لمحطة المسافرين الشرقية، ارتبط اسمه بالسيارات التي تعمل على خط قسنطينة - تونس، حتى أن بعض الأشخاص يسمونه بمقهى تونس، رغم أنه ليس اسمه الحقيقي، نتيجة اتخاذ سائقي السيارات العاملين في مجال النقل البري إلى الدولة الشقيقة، من المكان المحاذي له حظيرة خاصة بهم.   
ويمكن لسكان المدينة، تعداد المقاهي الموجودة في أحيائهم، فأغلبها محلات لم تتغير طبيعة نشاطها منذ عقود من الزمن، حسب ما أخبرنا به بعض روادها، كما تمسكت بعض الأماكن بأسماء أصحابها، بعد سنوات من غلق المقهى وتغيير نشاط المحل، مثلما هو الحال بحي سيدي مبروك السفلي بالقرب من المحكمة الإدارية، أين لا يزال سكان الحي يطلقون على المكان اسم «قهوة عثماني»، نسبة إلى لقب العائلة التي كانت تمتلك مقهى هناك لأكثر من 50 سنة، حسب ما أوضحه لنا أحد القاطنين بالحي، وقد مثل بالنسبة لأبناء سيدي مبروك في السابق، قبلة يومية يقصدونها عدة مرات في اليوم من أجل ارتشاف فنجان من القهوة أو الشاي، وتبادل أطراف الحديث، ولا تزال تشكل إلى اليوم جزءا كبيرا من ذاكرتهم الجماعية.
شجارات وخدمات سيئة تُنفر المواطنين
وأخبرنا شاب بأنه أوشك ذات يوم على التعرض لإصابة في الرأس بسبب جدال حول كرة القدم بين أنصار فريق برشلونة وريال مدريد الإسبانيين، عندما كانت أبصارهم جميعا معلقة على جهاز التلفاز الموضوع في إحدى زوايا سقف المقهى، ووقف شخص من مكانه حاجبا الرؤية عن أحد الجالسين، فما كان من الأخير إلا أن رشقه بمنفضة السجائر الحديدية بقوة، ومرت بالقرب من رأس محدثنا لتصطدم بزجاج الواجهة مسببة كسرا كبيرا فيها، فيما أكد لنا الشاب بأنه لا يحب الكرة، واختار يوم الحادثة أبعد زاوية ممكنة في المقهى ليستطيع التقاط بعض من الأحاديث التي يتبادلها مع صديق له.
وواصل محدثنا سرد ما وقع له قائلا: «ثار بعد ذلك صاحب المقهى غضبا وقام بإطفاء التلفاز وطرد جميع من كانوا في المكان، لكنه حاول أن يجبرنا على دفع أجرة ما شربناه مرة ثانية، رغم أننا دفعنا له قبل ذلك» وعلق على الأمر مازحا «ربما حاول تعويض خسارته»، ليضيف وهو يشد حاجبيه تعبيرا عن الغضب، «لقد قاطعت المقاهي لمدة طويلة بعد هذه الحادثة، لكن غياب أماكن للجلوس بالمدينة أجبرني على العودة إليها».
وحدثنا جمال، الذي يعيش خارج الوطن منذ أزيد من عشرين سنة، عن تجربته التي قادته إلى الشعور بمفاجأة شديدة، عندما اضطر ذات صباح باكر من الأشهر القليلة الماضية، إلى التوجه نحو أحد المقاهي بعين سمارة، وطلب فنجان قهوة من عند النادل المسؤول عن آلة عصر البن، ليقدم له الأخير فنجانا ورقيا  فاحتج محدثنا وطلب من النادل أن يقدم له فنجانا من الزجاج، ففعل النادل لكن دون أن يغسله. وقد أوضح لنا محدثنا بأنه احتج بلباقة على تقاعس العامل بالمقهى رغم أن جميع الطاولات كانت شاغرة، لكنه أبى تناول القهوة وقام بدفع ثمنها وغادر المكان، دون عودة.
أحاديث حول كرة القدم والدين والسياسة
وأصبحت كرة القدم من أكثر الأحاديث تداولا داخل المقاهي، حتى أنك قد تجد نفسك داخل ضوضاء لا مفر منها إلا بمغادرة المكان، بسبب الجدال القوي الذي من الممكن أن يثار بين مجموعات المناصرين لفريقين خصمين داخل المقاهي، حسب ما لاحظناه بعدد من الأماكن المختلفة، وفي أحد مقاهي وسط المدينة، اضطررنا إلى المغادرة بعدما أن ضاعت كلماتنا بين الأصوات العالية، التي سببها الجدل الكبير الدائر بين مجموعتين من مناصري فريق شباب قسنطينة، كانوا يجلسون في مكانين متباعدين، وقد اعتقدنا في البداية بأنهم دخلوا في مناوشات كلامية، لكن بعد اقترابنا منهم، تبين لنا أن الحديث الدائر بينهم، لا يعدو عن كونه نقاشا فوضويا حول سبب تعثر فريق السنافر في إحدى المباريات، كما أن جميع المشاركين في الحديث، بدوا في سن الكهولة وأرباب أسر.
أما في أوقات بث مقابلات الفريق الوطني، فإن الحصول على مقعد داخل المقهى يصبح أمرا شبه مستحيل، حتى أن التوافد الكبير للمواطنين، يدفع ببعض أصحاب المقاهي إلى تضليل القادمين بالإدعاء أنه لن يعرض مقابلات الفريق الوطني درءا للفوضى التي قد يجرها ذلك عليه، مثلما أخبرنا به صاحب مقهى في حي المنظر الجميل في الأيام الماضية عند عرض مقابلة الفريق الوطني الجزائري ضد نظيره النيجيري، لنجده قد قام بعكس ما أوهمنا به عند عودتنا بعد حوالي نصف ساعة.
ولاحظنا أمرا طريفا في مقهى آخر بنفس الحي، حيث كان يعج بالمشاهدين الواقفين والجالسين على الكراسي دون الطاولات، لكون صاحب المقهى قام بطيها ووضعها بعيدا، وبين كل تلك الجموع المصابة بجنون الكرة، تتحلق مجموعة من الكهول حول طاولة وحيدة أسفل التلفاز مباشرة، وكانوا يلعبون الورق ويدونون نتائج كل جولة في كراس صغير، دون أن يكترثوا أو يهتموا بما يجري من حولهم، وبآهات المشاهدين والألم الشديد الذي عبروا عنه في كل مرة يدخل هدف نيجيري الشباك الجزائرية، ولا حتى بالصرخة الهستيرية التي أطلقها الجمهور المتخندق خلف شاشة المقهى عند تسجيل لاعب جزائري لهدف. وقد انتهت المقابلة وغادر المشاهدون، ليواصل الكهول المذكورون لعب الورق، وكأن شيئا لم يحدث أبدا.
وتأتي المواضيع الدينية في المرتبة الثانية بعد كرة القدم، حيث شد انتباهنا في أحد المقاهي البعيدة عن وسط المدينة، مجموعة من الأشخاص، تتبادل أطراف الحديث حول مواضيع دينية مختلفة، كالأحاديث النبوية ومدى صحتها، وآراء العلماء فيها، رغم أن المستوى الذي يتناقشون به لم يبد عاليا، فقد لاحظنا أن «القعدة» انتهت بجدال لا يختلف كثيرا عما سجلناه لدى عشاق الكرة، لكن أصواتهم لم ترتفع كثيرا، وفي الجانب الآخر من نفس المقهى تجلس مجموعة من الأصدقاء يتحدثون عن مشاكل عمل أو ما شابه، حيث قال أحدهم «سأرمي استقالتي في وجهه، لكنني أنتظر الوقت المناسب»، فيما كان صديقه يحدثه في نفس الموضوع.
وفي مقهى آخر، اقتحم شخصان الطاولة التي نجلس فيها، رغم أننا كنا اثنين، ولم يطلبا الإذن منا إلا بعد أن استقرا على الكراسي، وقد كانا يتناقشان بصوت مرتفع وجلبا معهما زجاجتي عصير، وبدا أحدهما مقاولا بحسب الموضوع المتعلق بتكلفة إنجاز مشروع البناء الذي كانا يتحدثان فيه، قبل أن يغيرا الموضوع إلى سرد شجار ما. واضطررنا إلى تغيير المكان بسبب الضجيج الذي أحدثاه.
مشاريع كتاب ومفكرين أخفتها أصوات الشعبوية في المقاهي
وتمكنا من التقاط مناقشة حول الأدب والكتابة ومواضيع تتعلق بشيء من الفلسفة، دارت بين أربعة شباب، كانوا جالسين في أحد المقاهي العادية بوسط المدينة، ولاحظنا أنه أكثر هدوءا من غيره بشكل نسبي، حيث وضع أحدهم كتابا أمامه، وظل يتحدث مع صديق له حول كتابة السيرة الذاتية، و»مدى إقحام المؤلف لأناه فيها»، وقد أطالوا المكوث بالمقهى، ودخنوا عددا كبيرا من السجائر. بعد مدة تحدثنا معهم بعد أن أخبرناهم بأننا صحفيون وعن الروبورتاج الذي نقوم به، حيث وجدنا بأن اثنين منهم طالبان في الجامعة في تخصصات أدبية، بينما تخرج صديقهما الآخر منذ بضع سنوات، أما صديقهم الرابع فأخبرنا بأنه أنهى دراسته في المستوى الثانوي، رغم أن الرصيد الثقافي العالي الذي لاحظنا بأنه يمتلكه يعبر عن عكس ذلك، وقد أخبرنا بأنه طالع عددا كبيرا من الكتب والروايات والمجموعات الشعرية داخل المقاهي، رغم أنها لا تتوفر على الشروط المناسبة لذلك، فضلا عن رفض بعض أصحابها للأمر، مثل أحد المقاهي الذي قال إن صاحبه يمنع مرتاديه من قراءة الكتب، لأسباب لم يفهمها يوما، على حد تعبيره.
وعبر لنا محدثونا عن استيائهم من عدم قدرتهم على إيجاد مكان مريح و هادئ يسمح لهم بالحديث عن المواضيع الثقافية التي تهمهم، مشيرين إلى أن بعض الصور السلبية والجاهزة التي طبعت «الكافيتيريات» العصرية والصالحة للجلوس، التي تتزايد بالمدينة في السنوات الأخيرة، جعلتهم ينفرون منها، فضلا عن ارتفاع أسعار المشروبات العادية فيها، فسعر القهوة في أفضلها يفوق 50 دج، وذلك ما لا تسمح به ميزانياتهم، كما أشاروا أيضا إلى أن عامل الاختلاط بين الجنسين فيها قد أُخذ بشكله السلبي أكثر من الإيجابي، وحولها إلى ملجأ للعشاق الباحثين عن  الحميمية «لا أتخيل نفسي أقرأ مع صديق لي كتاب «هكذا تكلم زرادشت» لنيتشه، بينما يجري التحضير لمشروع إنشاء أسرة ما في الطاولة المجاورة لي. سأبدو غريبا حتى على غرابتي هذه».
ولكن محدثينا أكدوا لنا بأنهم ليسوا ضد الحب أو أن يلتقي العشاق في أماكن مثل الكافيتيريا أو غيرها، واعتبروا بأن غياب الفضاء الآمن للقائهم والتنفيس عن الشغف الدفين في أعماق نفوسهم، يدفع بهم في النهاية إلى السعي نحو تحقيق الرغبة بطرق غير مقبولة ومهينة لكرامة الإنسان وفي الأماكن العامة، التي قالوا «إنها صودرت لحساب القيم الاجتماعية الشمولية، ولم تعد تقبل بالتعدد والتنوع في الشكل الاجتماعي والهواية الممارسة»، موضحين بأن المقهى جزء منها، فغالبا ما يرمقهم المواطنون بنظرات ممتزجة بالاستغراب والفضول عندما يخرجون كتابا أو يحاولون قراءة شيء منه بصوت مسموع قليلا داخل المقهى، حتى يشعرونهم بالانزعاج أحيانا. وقدم أحدهم مثالا لنا عن شيخ تمنى له ذات يوم النجاح في البكالوريا وإيجاد عمل بعد الانتهاء من الدراسة عندما وجده يطالع حزمة الأوراق، رغم أنه أنهى دراسته منذ سنوات.                    

الرجوع إلى الأعلى