أطفال و نساء  يركبون "الفلوكة" لعبور سد بني هارون
يقطع سكان قرية مسيدة السفلى ببلدية مسعود بوجريو بقسنطينة، أكثر من 70 مترا عبر مياه سد بني هارون من أجل الوصول إلى الضفة الأخرى و التنقل إلى الدراسة أو العمل أو التسوق في ولاية ميلة بشكل يومي تقريبا، في رحلة مائية فوق طوف تقليدي صنعوه باستخدام وسائل بسيطة، لمواجهة العزلة التي فرضها عليهم ارتفاع منسوب مياه وادي الرمال المحاذي لهم، فيما يتواصل انتظارهم لتجسيد وعد السلطات بإنجاز جسر يحل المشكلة و يعيد ربطهم بالجهة الأخرى، التي تقع عليها أراض زراعية ملك لهم، باعد بينهم و بينها ارتفاع منسوب المياه.
روبورتـاج: سـامي حبـاطي
قبل صلاة الفجر بحوالي ساعتين، تبدأ  الأعداد الأولى  من المواطنين بالتحرك في المسالك الترابية الواقعة بقرية مسيدة السفلية المطلة على سد بني هارون، الحائل بين سكان القرية و الطريق الوطني رقم 27 المؤدي إلى بلدية القرارم بولاية ميلة، لكن المواطنين لا يقصدون الجهة العلوية بحثا عن وسائل النقل للوصول إلى أماكن عملهم أو غيرها، و إنما يختار عدد كبير منهم المسلك المؤدي إلى جهة المياه اختصارا للوقت و المسافة، و يتطلب ذلك منهم المشي فوق منحدر ترابي موحل و غير مهيأ، يستوجب انتعال حذاء خاص لحماية الأقدام من الغوص في الطين و مراقبة كل خطوة، تجنبا للوقوع و التدحرج إلى غاية ضفة الوادي فوق كميات كبيرة من الطمي.
و شاهدت النصر عند وصولها إلى القرية قبل الساعة السابعة صباحا، بعضا من هؤلاء المواطنين، لكننا لم نستطع تحديد المكان الذي يتوجهون إليه بدقة، فضوء النهار لم يطلع بعد في ذلك الوقت، كما أن المسالك تشابهت علينا إلى غاية قدوم بعض من سكان القرية الذين اتصل بهم مرافقنا من أجل إرشادنا إلى الطريق البديل، الذي رسمه السكان للتنقل إلى بلدية القرارم، حيث اتفقنا على أن نلتقي بهم بجانب أحد المنازل القديمة في آخر المسلك، لكن عجلات المركبة علقت في الوحل، فاضطررنا إلى التراجع و ركنها أبعد ببضعة أمتار من النقطة المتفق عليها في انتظار وصولهم.

أطفال و نساء و جامعيون يركبون الخطر
ترجلنا من المركبة وبدأنا في المشي، بعد أن غيرنا أحذيتنا. بدأ ضوء النهار في الطلوع، و بدت ألوان التراب الأحمر الذي كنا فوقه أكثر وضوحا، و اضطررنا إلى الهبوط في منحدر صعب للوصول إلى ضفة الوادي، الذي انخفض منسوبه خلال الفترة الأخيرة بسبب قلة تساقط الأمطار، ما أخرج إلى اليابسة كميات كبيرة من الطمي الأسود، التي تجعل حذاء السائر عليها يلتصق بالأرض و كأنها طبقة من الغراء. و قد وجد المصور صعوبة كبيرة في الوصول إلى المكان، بسبب ثقل حقيبة الظهر التي يحمل فيها آلات التصوير و العدسات التقريبية، لكن عمي عبد الكريم القاطن بالقرية، أخبره بأن عددا كبيرا من السكان من مختلف الفئات يقطعون يوميا هذا الطريق من أجل بلوغ إلى “الفلوكة”، التي كانت تطفو في منتصف الوادي، وهم يحملون في أيديهم الكثير من الأشياء والمواد و المشتريات عند عودتهم من السوق الأسبوعية.
وأضاف عمي عبد الكريم قائلا إن العدد الذي استعمل الطوف في ذلك اليوم ضئيل مقارنة بالأيام السابقة، فالأوحال منعت الكثيرين من المرور عبره تجنبا لتلطيخ ملابسهم، لكن العدد يرتفع في الأيام الأخرى التي يكون فيها الجو جيدا، قبل أن يتوقف عن الكلام و يمضي نحو الماء باحثا بعينيه عن شيء في الأرض، تبين لنا بعد ذلك بأنه يبحث عن الوتد الذي غرسه السكان لربط حبل بالطوف من أجل سحبه إلى الضفة عند الحاجة إلى عبور المياه. و قد بذل عبد الكريم قوة كبيرة في سحبه، ليقفز أحد الشباب الذين كانوا معنا و يساعده في العملية، و عند وصوله إلى الضفة لف الحبل حول الوتد الخشبي حتى لا يطفو بعيدا مرة أخرى.
و أوضح لنا السكان بأن التنقل عبر “ الفلوكة” لا يقتصر على الأشخاص، و إنما يوجد بعض من يقومون بنقل كميات من البذور و الخضر، على غرار الطماطم و بعض الحيوانات، فضلا عن أن عمال شركة توزيع الكهرباء و الغاز استعملوه أيضا في أشغال تمديد الأسلاك الكهربائية عبر القرية. و من المواطنين من يستعمله من أجل التوجه إلى الطبيب أو في بعض الحالات المستعجلة اختصارا للمسافة و حتى في الليل، بالإضافة إلى صيادي الأسماك الذين يقصدون السد مساء، و يستمرون في نشاطهم إلى غاية طلوع النهار، و مساحته كافية لحمل أربعة أشخاص لا أكثر.
قوارير المياه الفارغة و الأخشاب للعبور
ولاحظنا بأن السكان وضعوا جذع شجرة كبيرة على ضفة المياه، لاستعمالها كـ”رصيف نهري” يقفون عليه قبل القفز فوق العبّارة، المصنوعة من مجموعة من أكياس الدقيق المحشوة بعدد كبير من قوارير المياه البلاستيكية المغلقة و الفارغة ذات سعة 5 لترات، حيث يقوم السكان بربط الأكياس بعضها ببعض جيدا، باستعمال أسلاك معدنية، و يلصقون فوقها منصة خشبية مصنوعة من صناديق الخضر و الفواكه، حتى يتمكنوا من الوقوف عليها أثناء عبور الوادي. و يوجد حبل آخر مربوط بين عمودين يبلغ طولهما حوالي المتر و 20 سنتيمترا، موزعين على ضفتي النهر بشكل مستقيم، يستعمله العابرون للمياه من أجل الوصول إلى الجهة الأخرى، من خلال التعلق به جيدا و سحب أنفسهم فوق المياه، و خصوصا في الأيام التي تكون فيها مياه الوادي هائجة قليلا، و يطلق السكان على الطوف اسم “الفلوكة”، وتعني القارب في اللهجة الدراجة.
بعض السكان قالوا إنهم يستغنون عن استعمال الحبل لتوجيه مسار الطوف، مشيرين إلى أن المسافة بين الضفتين تفوق السبعين مترا، في حين قمنا بتتبع ثلاثة أشخاص ركبوا على الطوف و تنقلوا إلى الجهة الأخرى حيث كانوا واقفين، بينما تهزهم المياه بهدوء إلى أن وصلوا إلى الضفة المقابلة، فيما طار بعض البط بعيدا هربا منهم، كما يضطر السائر إلى قطع مسافة أخرى فوق الكتل الترابية و بعض الأراضي الزراعية الموحلة، قبل بلوغ طريق المركبات لانتظار الحافلة المتوجهة إلى بلدية القرارم.
لكن استعمال “ القارب اليدوي” يصبح مستحيلا خلال الاضطرابات الجوية، التي قد تؤدي إلى انقلابه و غرق من هم عليه، بحسب السكان، الذين أكدوا رغم ذلك بأنه لم يسبق و أن سجلت أي حوادث خلال عملية تنقل الأشخاص، باستثناء حادثة رواها لنا أحد شباب القرية، حيث قال إنها وقعت له ذات يوم، إذ لم يكن الطوف مثبتا جيدا، ما جعله يغوص في المياه ببطء و اضطره إلى مواصلة المسافة المتبقية سباحة، وصولا إلى الضفة الأخرى، حيث أتم مساره نحو سوق القرارم بملابس مبتلة، غير مكترث بنظرات الاستغراب التي رمقه بها كل من رآه، على حد تعبيره.
و أكد محدثونا بأن قطع المياه عبر الطوف مجاني، حتى بالنسبة للقاطنين بالقرى المجاورة الذين يستعملونه أحيانا، مشيرين إلى أنهم غيروا مكانه عدة مرات بحسب ارتفاع مستوى المياه، فهم يختارون أضيق مكان بين الضفتين لوضعه عليه، كما أنهم يقومون بصنعه بأنفسهم.
عائلات تنتقل للعيش بقرى أخرى

و تصادف وجودنا بالمكان، مع قدوم شيخ كبير يحمل في يده قفة و بعض الأشياء، حيث سلم علينا و أخبرنا بأنه متجه نحو القرارم عبر الوادي، مشيرا إلى أنه يستعمله حوالي ثلاث مرات في اليوم، قبل أن يمضي في طريقه، ليؤكد لنا مرافقونا بأن الطوف حل مشكلة كبيرة بالنسبة إليهم، خصوصا و أن مصالحهم و أعمالهم مرتبطة بشكل مباشر بالضفة الأخرى، بعد أن باعد السد بينهم و بين ممتلكاتهم، على غرار أراضيهم الزراعية، كما أن من السكان من يتنقل عبره في الليل أيضا عندما ينهي أعماله في ساعات متأخرة.
و قال السكان إن مياه الوادي كانت منخفضة جدا مقارنة بما هي عليه الآن، فقد كانوا في الماضي يتنقلون و يمرون بجراراتهم عبر مسلكين بشكل عادي، و في الشتاء كانوا يقومون ببناء جسر حديدي بأنفسهم، حتى أنهم استطاعوا المشي داخل المياه، قبل أن يرفع تدفق السد من منسوب الوادي منذ حوالي 5 سنوات و تغمر المياه المسلكين و كل وسيلة للعبور اليومي إلى الجهة الأخرى، حيث لم يجد السكان إلا الطوف لمواصلة تنقلهم.
ونبه أحد الشباب بأن جميع أجداده من قرية مسيدة السفلى، لكن الطوف الذي فرضه السد عليهم، جعله يقوم ببناء سكنه الريفي في قرية عين الكبيرة، لكي يكون قريبا من الطريق و يسهل عليه التنقل خلال عمله، كما قال إنه ما كان ليفعل ذلك لو أن للقرية طريق مؤدية إلى الجهة الأخرى. و أوضح لنا السكان بأن التنقل على طريق السيارات للوصول إلى القرارم، يتطلب من السكان التوجه إلى عين الكبيرة ثم إلى مركز بلدية مسعود بوجريو و منها إلى القرارم، بما يكلفهم حوالي 800 دج ذهابا و إيابا، فضلا عن المسافة الطويلة و الجهد المبذول، بينما يتطلب الانتقال إلى القرارم عن طريق الطوف 25 دج على متن الحافلة و قطع مسافة لا تزيد عن 14 كلم، من الطريق الوطني رقم 27 فقط.
ورغم وجود مشروع لانجاز جسر بأكثر من 18 مليار سنتيم، سيربط قرية مسيدة و القرى المجاورة لها بالطريق المؤدية إلى قرارم قوقة بميلة، إلا أن السكان عبروا عن استيائهم من تحديد موقع المشروع بالمكان المسمى بدار الوادي، الذي قالوا إنه منعزل و رحل جميع سكانه خلال سنوات الإرهاب و لم يعودوا، حيث يتطلب الوصول إليه المشي ساعة من الزمن على ضفة الوادي انطلاقا من قرية مسيدة بحسبهم. و قد طالب السكان السلطات بإنجاز الجسر على مستوى قريتهم التي تضم حوالي 150 عائلة، كما يُذكر بأن مشكلة العزلة التي تتحدث عنها العائلات، طُرحت على والي قسنطينة خلال لقائه بمواطني دائرة ابن زياد، حيث أكد رئيس بلدية مسعود بوجريو حينها بأن الجسر سيفك العزلة عن سكان قرية مسيدة و يربطهم بالطريق المؤدي إلى القرارم مرة أخرى.
رئيس بلدية مسعود بوجريو: مشروع الجسر سيفك العزلة عن مسيدة
رئيس بلدية مسعود بوجريو، بوذراع السبتي، اعتبر بأن قرية مسيدة البالغ عدد سكانها حوالي الألف، استفادت من الكثير من برامج التنمية، التي تغني القاطنين بها عن التنقل إلى الضفة الأخرى، موضحا بأنه من الخطير استعمال الطوف لعبور مياه السد، كما قال إن محافظة الغابات قامت بتهيئة مسلك على مستوى المنطقة المسماة قيقاية، يتم استعماله حاليا من طرف المواطنين، في حين وضعت مصالح البلدية في وقت سابق، أنابيب خرسانية كبيرة ليمر السكان عليها، لكن المياه غمرتها بعد ذلك بسبب ارتفاع منسوبها. و قد قال “المير” إن سد بني هارون أنجز بناء على دراسة موسعة، أخذت بعين الاعتبار جميع المناطق و القرى المحيطة به. و أكد المسؤول بأن مشروع إنجاز جسر على مستوى منطقة دار الوادي، قد وصل إلى مرحلة تقييم العروض من أجل اختيار مقاولة، مشيرا إلى أن قيمة المنشأة تفوق 18 مليار سنتيم، لكنه أوضح بأن المشروع لم يسجل من أجل فك العزلة عن قرية مسيدة فقط، و إنما تسعى السلطات من خلاله إلى خلق منفذ جديد لكامل بلدية مسعود بوجريو، من خلال ربطها بالجزء الشمالي التابع لها و الواقع على الضفة الأخرى من وادي الرمال، لحل مشاكل الفلاحين و فتح مسلك مؤدي إلى الطريق الوطني رقم 27، بالإضافة إلى أن المشروع قد يسهل، حسبه، ربط البلدية بالطريق السيار شرق غرب مستقبلا، عند إنجاز محول بني حميدان. و قد أوضح محدثنا بأن إنجاز الجسر فوق السد سيكلف مبالغ كبيرة جدا، مقارنة بما يكلفه بناؤه فوق الوادي في النقطة المذكورة.          س.ح

الرجوع إلى الأعلى