حمالون يشتكون من منافسة الصينيين والسوريين
عددهم حوالي 30 كهلا و شيخا و شابا يتواجدون بوسط مدينة قسنطينة، خصوصا بشوارع العربي بن مهيدي، الجزارين، القصبة، الرصيف، سوق بومزو، وكذا سوق الجملة بالمنطقة الصناعية بالما، تعرفهم من ندائهم الذي يسبق وصولهم « بالك»، هم حمالون لازالوا يمارسون نشاطا يعتقد الكثيرون بأنه انقرض، لكنه في الحقيقة لا يزال موجودا، حتى أنه يستقطب اليوم شبابا وجامعيين يهربون إليه من شبح البطالة ويشتكون فيه منافسة العمالة الصينية و السورية.
روبورتاج: نور الهدى طابي
عندما ترتسم قسوة الحياة على كفوف الرجال
يبدؤون نهارهم باكرا في حدود الساعة الخامسة و النصف صباحا، عدتهم عربة جر حديدية و حبال و ظهر أحناه الفقر و قسوة الحياة، كما عبر عمي ساعد، حمال في عقده السادس، قابلناه بشارع العربي بن مهيدي.
 كانت الساعة تشير إلى الثامنة و النصف صباحا، قال لنا بأنه أنهى لتوه جولتين من العتالة، فقد نقل شحنة من الملابس من « طريق جديدة» باتجاه شارع بلوزداد، سألناه عن حجمها، فقال بأنها تزن قرابة طنين، يجرها بيدين عاريتين، ثم سحب يده من جيبه و أطلعنا عليها، معلقا بأن قسوة الحياة كلها ترتسم على تجاعيد كفه.
 سألناه عن العمر الذي قضاه في هذه الحرفة، فأخبرنا بأنه يزاولها منذ 1988، و ذلك بعدما وجد نفسه بطالا ، عقب تسريحه دون أية ضمانات من المؤسسة التي كان يعمل بها سابقا، ما اضطره للبحث عن بديل يعيل به أسرته، وهكذا انتهى به المطاف حمالا و استمر كذلك إلى غاية يوم لقائنا به.
محدثنا أكد لنا بأن الحرفة ورغم شح دخلها، إلا أنها كانت باب رزق سمح له بتربية أبنائه و تعليمهم و إلحاقهم بالجامعة، وهم اليوم، كما قال، يطالبونه بتركها بعدما اشتد عودهم، لكنه يرفض ذلك، لأنه يدرك أن دخلهم لا يكفي ليوفر لهم حياة كريمة، يقول « أنا تعودت على الشقاء، ولا أريد لهم أن يشقوا، أفضل أن أعمل عتالا حتى الممات، على أن أرى أحد أبنائي حمالا في ورشة للبناء».
شيوخ يحملون أضعاف وزنهم وشباب سرقت  العتالة عمرهم
و نحن نتحدث مع عمي ساعد، التحق بنا حمالون آخرون من زملائه ، من بينهم شاب في 34 من العمر، أخبرنا بأنه هرب من شبح البطالة إلى هذه الحرفة التي يعافها الشباب اليوم، لكنه فضل أن يمتهنها على أن يسرق مثلا، و قد اكتشف بأنها حرفة فيها البركة، رغم أنها تسرق من صاحبها أيام عمره، كما عبر، ولذلك فهو يمارسها منذ ثلاث سنوات، فأحيانا يجني في اليوم 1000دج أو أكثر، و أحيانا أخرى لا يجني أكثر من 500 دج، لكنه مقتنع برزقه، لأنه حلال، كما قال.
أما عمي العربي، صاحب 57 سنة، فقد أخبرنا بأن عدد الحمالين وسط المدينة يعادل 30حمالا، يعرفون بعضهم، كما يحفظون شوارع المدينة و أزقتها عن ظهر قلب، منهم من تربطهم علاقة قوية ببعض التجار و يعتبرون زبائن أوفياء لهم، و يتصلون بهم عند كل شحنة جديدة.
أما الغالبية فيتوزعون بين المحلات الخاصة بالألبسة و الأقمشة و بمحاذاة الجزارين وغيرهم من أصحاب الحرف و المهن، في انتظار أن يطلب منهم أحد تحميل شحنة معينة، قال لنا محدثنا، بأنها غالبا ما تعادل طنا و نصف إلى طنين، يتم جرها باستخدام عربة بسيطة و حبال.
 أما العربة فهي عبارة عن قطعة حديد، غالبا ما تكون سياج شرفة يؤتى بها من مكب الخردة ، أو من أماكن أخرى تؤخذ إلى الحداد الذي يثبت عليها عجلتين صغيرتين لتكون صالحة للجر. وبخصوص الحبال فهي بسيطة تصنع من كل شيء تقريبا، كما أوضح محدثنا، مشيرا إلى أن بعضها يأتي أحيانا مع الشحنة .
حمالون آخرون تجمعوا حولنا غالبيتهم تجاوز سنه الخمسين، أخبرنا أحدهم بأنه عائد لتوه من سوق بومزو ، أين أنزل شحنة من اللحم لصالح أحد الجزارين مقابل 150دج، أما الباقون فاشتكوا قسوة العمل الذي لا يتعدى دخله بضعة دنانير، فنقل شحنة من شارع إلى آخر، قد يتطلب نصف ساعة، لكنه لا يوفر أكثر من 200 دج، حسبهم، رغم كل الجهد الذي يفرضه حملها أو جرها، فضلا عن صعوبة المرور بها في وسط الزحام وضيق الشوارع.
 كما أنهم في حالات كثيرة جدا  يتعرضون لمواقف محرجة، إذا ما أصابت عرباتهم أحد المارة ، فيضطرون للاعتذار وهنا يتوقف الرد على شخصية الطرف الآخر، رغم أن غالبية المارة عادة ما يكونون لطفاء، ولتجنب مثل هذه المواقف ينادون « بالك» أي ابتعد باللهجة القسنطينية، أما معناها، فيرجع، حسب أحدهم، إلى كلمة « بايلك التركية، إذ كان عمال قصر الباي يستخدمونها سابقا لفتح الطريق وتفريق المارة، وهم عائدون بمخزون الطعام أو شىء آخر إلى القصر، و المعنى  هو أن الأولوية للبايلك أي للحاكم.
محدثونا قالوا بأن ما يحز في نفوسهم هو نظرة المجتمع إليهم، إذ سردوا على مسامعنا قصصا عن حمالين أصبح أبناؤهم يخجلون بهم، بعدما تعبوا في تربيتهم و تحملوا من أجلهم الكثير، أما الأدهى فهو أنهم لا يملكون الحق في التقاعد و لا يملكون تأمينا اجتماعيا يغطي تكاليف علاج أمراض تنخر أجسادهم، خصوصا أمراض المفاصل.

جامعيون يشتكون منافسة الصينيين و السوريين
بإحدى ورشات البناء بالمدينة الجديدة علي منجلي، قابلنا شابين، الأول في ربيعه 25 و الثاني في الثلاثين، أوصلنا إليهما مسؤول الورشة بعدما أخبرنا بأنهما يحملان شهادات جامعية.
 في البداية رفضا الحديث إلينا، لكنهما وافقا بعد ذلك على المشاركة في الموضوع، بعدما أخذا منا تعهدا بالتكتم على هويتهما، فالأول خريج كلية العلوم الإنسانية تخصص علم الاجتماع، والثاني حامل لشهادة ليسانس في العلوم السياسية و العلاقات الدولية، أكدا لنا بأن البطالة أجبرتهما على العمل كحمالين في ورشات البناء ، خصوصا وأن الثاني مرتبط بعلاقة خطوبة منذ سنتين، و لم يجد بدا من العمل لإتمام مصاريف الزواج.
وحسب عماد الشاب الأصغر سنا، فإن من يعملون في ورشات البناء يعرفون عند العامة من الناس» بالمانوفرية»، لكنهم في الحقيقة عتالون، لا تختلف وظيفتهم كثيرا عن وظيفة الحمالين في شوراع وسط المدينة.
 يقول محدثنا «إننا نمارس كل الأعمال الشاقة من تحميل أكياس الإسمنت و غربلة الرمل ، إلى نقل الحجارة و تكسيرها وتجميعها، نعمل أي شيء فقط ، لنوفر مصروفنا و نتجنب مذلة السؤال، لكن المكسب غير مضمون،  فالصينيون والسوريون زاحمونا في لقمة عيشنا، حتى أن أصحاب ورش البناء أصبحوا يفضلونهم عنا ، بحجة أننا نشتكي كثيرا و نعمل أقل، بينما يقبلون هم بكل الظروف مقابل مبلغ ضئيل، تصوروا منذ 15 يوما ونحن نحمل الحجارة إلى الطوابق العلوية من العمارات،  ولم ندخر سوى 3000 دج، هذه ليست حياة، فراشنا في أوقات الراحة هو  « الكارتون»، أما غذاءنا فخبز وحليب أو خبر و شكولاطة».
أما محمد زميله فقال لنا، بأنه لا يكتفي فقط بالعتلة في الورشة، بل يعمل كحمال أيضا في الأسواق الأسبوعية، لكي يتمكن من تجميع مبلغ يسمح له بشراء سيارة قديمة، قال بأنه ينوي أن يستغلها كسيارة « فرود» ليعيل زوجته في المستقبل.
100 دج مقابل  حمل طنين
من تحدثنا إليهم من حمالين في وسط المدينة و ورشات البناء، اتفقوا على أن هذه الحرفة هي الوجه الحديث للعبودية، فإن كان الحمال سيد نفسه، فإنه في النهاية عبد للقمة العيش، فكيف يعقل أن يدفع تاجر مبلغ 100دج لرجل قام بتحميل بضاعته التي تزن طنين، وإن تجرأ و اشتكى أو اعترض على الأجرة ،يطلب منه الرحيل و يستبدله حالا بحمال آخر.
فالعتال كما قالوا، رجل سلبه الفقر كل حقوقه، بما في ذلك الحق في التأمين الاجتماعي و الحق في التقاعد، لأن من يختار هذه الحرفة ، لا يملك الحق في الحلم بمنزل أو سيارة، و عليه أن يشقى إلى أن يستنزف كل طاقته، فقط ليوفر لقمة العيش، حسبهم.                             
ن.ط

الرجوع إلى الأعلى