تزخر مناطق الأوراس على حدود مشارف الصحراء، بمواقع سياحية خلابة غير مستغلة، وأخرى أثرية غير مستكشفة وعرضة للإهمال، وهو ما وقفت عليه النصر خلال القافلة الاستكشافية الأولى لمناطق الأوراس الكبير التي نظمتها جمعية أصدقاء بلدية باتنة، على مدار ثلاثة أيام و شملت شرفات غوفي التي تعكس هندسة معمارية راقية لسكان المنطقة الأصليين الأوائل، وكانت المحطة الثانية مخانق مشونش أو إمسونين، كما تعرف بالأمازيغية ،وجابت القافلة واحة فالماش سيدي مصمودي التي تكتنز آثارا لمراحل تاريخية غابرة.
ربورتاج: يـاسين عبوبو
شرفات غوفي الفريدة تطلب النجدة  
تشكل شرفات غوفي لوحة فنية طبيعية متميزة وفريدة من نوعها، ليس بمنطقة الأوراس فحسب، وإنما في شمال إفريقيا وهي أقرب إلى طبيعية كاليفورينا بالولايات المتحدة الأمريكية، كما سبق وأن شبهها السفير السابق للولايات المتحدة الأمريكية بالجزائر لدى زيارته لولاية باتنة، فغوفي تجمع بين طبيعة التل والصحراء ويطل على واحاتها الممتدة على ضفاف وادي إغزر أملال أو الوادي الأبيض، شرفات هي عبارة عن مساكن للإنسان الأول الذي استطاع تشييد تلك السكنات من مواد محلية تشكل امتدادا للطبيعة وتعكس ذكاءه بعد أن استطاع تشييدها في أماكن وعرة تتوسط حافة الوادي.
شرفات غوفي التي وقفنا عليها كأول محطة للقافلة الاستكشافية لمناطق الأوراس الكبير، هي تقاوم اليوم الاضمحلال في ظل الإهمال الذي طالها بعد أن هجرها سكانها منذ سنوات خلت، ولم يتبق منها إلا بعض الأطلال شاهدة على حياة كانت تدب في وقت مضى، مثلما يروي سكان المنطقة ممن عايشوا فترة تواجد العائلات بها، حيث أكد من التقينا بهم بأن واحة غوفي كانت جنة فوق الأرض تدر كل الخيرات من الخضر والفواكه، حتى التي تنمو بالساحل كالليمون والبرتقال، بالإضافة إلى التفاح و الجوز و الخوخ و الإجاص وغيرها من الفواكه وكذا التمور.
فغوفي التي تضم الشرفات والمساكن الطينية والزوايا القرآنية، التي كانت آهلة بسكانها الذين كانوا يمارسون النشاط الفلاحي على ضفاف إغزر أملال في فترة مضت، لم تعد اليوم إلا مجرد شواهد على فترة جميلة ، كما يتذكرها البعض من السكان الذين هاجروا نحو البلديات المجاورة، و غوفي اليوم يتهدد الزوال ما تضمه من موروث مادي بعد أن تغيرت صورتها، فالسكنات الطينية والزوايا بقيت أطلالا تأخذ في التعري، بفعل العوامل الطبيعية من جهة، وامتداد يد التخريب إليها من جهة أخرى، والوادي الأبيض إغزر أملال الذي كان مصدرا للحياة ، تحول إلى واد أسود بعد أن تحول إلى مصب لمياه الصرف الصحي والمياه الملوثة.
هيمسونين ... واحة خضراء وسط المخانق الحجرية   
من شرفات غوفي، واصلت القافلة الاستكشافية الأولى لمناطق الأوراس الكبير، التي نظمتها جمعية أصدقاء بلدية باتنة الرحلة، وهذه المرة كانت المحطة الثانية هي مشونش أو إيمسونين، التابعة إداريا لولاية بسكرة، وهي المنطقة التي تمثل بوابة الصحراء وتبعد بنحو 50 كيلومترا عن غوفي، مرورا ببانيان، المنطقة التي تجمع هي الأخرى بين التل والصحراء.
وبمجرد الإطلالة على مشونش، المنطقة التي  تمثل الحدود بين ولايتي باتنة وبسكرة، حتى يشدك جمالها الساحر ، فهي عبارة عن واحة كبيرة من النخيل المتواجد وسط تضاريس جبلية حجرية، وكأنها تشير إلى تواجد الحياة وسط تلك التضاريس الصعبة، ولقد كانت وجهتنا تحديدا بعد ولوجنا إلى واحة مشونش، المخانق الحجرية للأودية  التي تُعرف بها، وكان بين مرافقينا الشاب حبيب بولطيف ابن القنطرة الذي يشتغل معلما بمشونش فكان دليلنا، بالإضافة إلى الإعلامي رضا تيبرماسين الذي يعرف المنطقة أيضا، وتوجهنا نحو مشونش القديمة، حيث يفصل التجمع السكني لمشونش واد إغزر أملال الذي يمتد إلى غاية سيدي عقبة، ومشونش القديمة لا تزال تحتفظ بالخصائص العمرانية لسكناتها المشيدة من الطين والتي لا تزال تقاوم وتأبى أن تتلاشى.
وأثناء سيرنا على الأقدام على ضفاف الوادي وسط المخانق الحجرية الملتوية، راح حبيب يدلنا على الحيوانات المنتشرة بالمنطقة، فهو من محبي الحيوانات وخاصة الطيور التي كان يلتقط لها صورا و منها النسور، التي كانت تحلق في السماء فوق القمم الجبلية باحثة عن فرائس، وقد كنا قريبين منها و نحن نتسلق تلك المرتفعات وسط المخانق الجبلية عبر الأودية التي تتخذ منها عديد الحيوانات ملجأ لها، وأكد مرافقنا بأن المنطقة تضم عدة أنواع من الحيوانات، التي لا تتأقلم إلا في المنطقة منها الأفاعي و “الكوبرات” التي لا تجدها إلا بمنطقة مشونش.
وتشتهر مشونش بإنتاجها للتمور ، فهي تضم مساحات شاسعة لواحات النخيل، وقفنا خلال مرورنا بها على نظام سقي يعود لعشرات السنين، من خلال مجاري بجانب الأودية أنجزت بطريقة هندسية أضفت جمالية على المكان، غير أن هذه المجاري منها ما لم يعد مستغلا و طاله الإهمال لعدة عوامل، منها الطبيعية المتمثلة في فيضانات اجتاحتها دون أن ترمم، وكذا لتلوث الوادي بالمياه القذرة، كما لاحظنا، وأكد لنا حبيب بأن حال المنطقة يتجه من سيء إلى أسوأ بفعل التلوث وغياب الاهتمام لإعادة ترميم ما تزخر به، سواء تعلق الأمر بأنظمة السقي الفلاحية، أو السكنات القديمة ووضع حد للتلوث البيئي لأودية المنطقة.

جبل بوذا  والطقوس السرمدية
بعد كل من غوفي ومشونش، كانت المحطة الثالثة والأخيرة للقافلة الاستكشافية الأولى التي نظمتها جمعية أصدقاء بلدية باتنة، منطقة فالماش أو سيدي مصمودي التابعة حاليا إداريا لبلدية المزيرعة بولاية بسكرة، وقد كانت المحطة الأكثر تشويقا، نظرا لما تكتنزه المنطقة من آثار تعود لحقب زمنية غابرة، وتروي مناطق أبندوت، و ثارقا وجبل بوذا، وزاوية الصادق بلحاج، وقمة تاقطيوت، وقصور أولاد أيوب والقلاع القديمة  و جبل أحمر خدو،  قصصا تاريخية، وأساطير وألغاز، هي بحاجة إلى البحث والاستكشاف، خاصة وأن الشواهد مهددة بالزوال بعد أن طالها النسيان والإهمال وهي التي تشكل موروثا ماديا ولاماديا زخما.
وخلال محطتنا الثالثة، كان السيد أحمد مصمادة ، ابن منطقة فالماش، وهو معلم متقاعد ورئيس أسبق لبلدية مزيرعة، دليلنا، فهو مهتم بالبحث في تاريخ المنطقة ومن الغيورين عليها، وقد استغل فرصة تواجد القافلة الإعلامية ليوجه الدعوة للباحثين وللجهات الوصية، على غرار الجامعة، للبحث في تاريخ المنطقة، وحماية موروثها الكبير الذي تزخر به بعد أن بات مهددا بالاندثار، وقد توجهنا رفقة دليلنا إلى جبل بوذا الذي تجهل أصل تسميته وهو جبل تربته حمراء تطل قمته على واحة فالماش، وفي أعلى القمة توجد ثلاثة أهرامات ، تتباين أشكالها من صغير إلى متوسط، فهرم كبير.
الأهرام التي توجهنا إليها انطلاقا من فالماش، كانت المسافة إليها قصيرة غير أنها كانت ممتعة، فالمنطقة التي تضم موروثا ماديا يتمثل في عديد الكنوز الأثرية، على غرار الأهرامات التي يرجح، حسب دليلنا، أنها ترجع إلى النوميديين، فهي تروي أيضا موروثا لا ماديا لأساطير توارث تداولها أبناء المنطقة، فجبل بوذا، كما يروي السيد أحمد مصمادة، كان يسود الاعتقاد قديما، بأن به أرواح الأجداد المدفونة في الأهرامات والتي تقوم بحراسة السكان من الأخطار الطبيعية، و يسود الاعتقاد أيضا، حسب محدثنا، بأنه في حال تساقط حجارة من أعلى القمة نحو الوادي، فإن ذلك يعني أن من السكان من سيموت و يلقى حتفه، وقال الباحث، بأن المعتقدات تعكس الطقوس السرمدية التي يؤمن بوجود حياة أخرى.
وجبل بوذا الذي يروي أساطير قديمة، هو غني بمادة حجارة الكريستال التي يمكن استغلالها في عدة استعمالات صناعية، غير أنها، حسب السكان، ظلت دون استغلال ويتواجد أيضا بأعلى القمة مسكن مشيد من الحجارة لم يتبق منه إلا بعض الجدران والأرضية، ويتداول بأنه كان في زمن ما لحارس الواحة ، إلا أنها تبقى معلومات غير مؤكدة، حسب الباحث المهتم بالتاريخ أحمد مصمادة، و غادرنا أهرامات القبور النوميدية المشيدة من الحجارة وهي تئن من وطأة النسيان و يهددها الزوال.
بعد جبل بوذا، كانت وجهتنا زاوية الصادق بلحاج الذي اقترن اسمه بالمقاومة الشعبية ضد المستعمر الفرنسي عند وصوله إلى المنطقة، حيث كان الصادق بلحاج أول من قاد المقاومة الشعبية سنة 1854، واستبسل في النضال ضد الاستعمار الفرنسي، إلى جانب قادة آخرين من المنطقة،  إلى أن ألقي عليه القبض وحكم عليه بالإعدام، مثلما يروي المهتم بالتاريخ أحمد مصمادة، ثم خفف عنه الحكم بالسجن المؤبد حتى توفاه الأجل، وقال دليلنا بأن الزاوية كانت مركز إشعاع ديني وعلمي في منطقة الأوراس وشمال الصحراء ، تخرج منها العديد من المشايخ وساهمت في الحفاظ على نشر تعاليم الدين الإسلامي.
والصادق بلحاج هو رجل علم ودين من أحفاد سيدي منصور، مقدم الطريقة الرحمانية، حسب دليلنا ابن المنطقة، وقد كانت زاويته مزارا وقبلة لطلاب العلم الذين يستفيدون من نظام إقامي، مثلما أوضح، لكن ليس بالمعنى الإقامي الحالي، حيث كان يُعرف آنذاك ذلك النظام بدار السبيل، و الهدف من التعليم هو نشر العلم دون مقابل، و الوصول إلى زاوية الصادق بلحاج، لم يكن بالأمر الهين، حيث تطلب الأمر منا استعمال سيارات ذات محركات القوية الدفع، من أجل السير عبر مرتفعات وتضاريس صعبة لمسافة تقدر بأزيد من 30 كيلومترا، انطلاقا من فالماش عبر مسلك شقه السكان بإمكانياتهم الخاصة.
وكان الطريق استكشافيا للطبيعة الخلابة للمنطقة التي يتواجد بها الغزلان و الحمير البرية وحيوانات مفترسة، قبل أن نطل على الزاوية ذات القبتين التي تتوسط مجرى مائيا واسعا وجافا، ويذكر الباحث المهتم بالتاريخ أحمد مصمادة بأن هذه المنطقة إلى جانب منطقة كيمل، تعدان ضمن أولى المناطق التي استخدم فيها العدو الفرنسي الطائرات الحربية، نظرا لصعوبة التضاريس واستبسال أهلها في مقاومته.
لدى وصولنا إلى الزاوية أوضح لنا دليلنا إلى جانب بعض العارفين بتاريخ المنطقة من أبناء فالماش، بأن الصادق بلحاج كان قد نقل زاويته إلى المكان المعروف بتيبرماسين، بعد أن كان موقعها الأول بمنطقة لقصر، بسبب وصول الاستعمار الفرنسي إلى المنطقة، وبدت الزاوية مهددة بالاندثار هي أيضا، رغم بعض الترميمات التي قام بها السكان  الذين أوضحوا بأن الزاوية طالها الإهمال، لأنها لم تعد مزارا مثلما كانت عليه في وقت سابق، حيث كانت تأتي إليها الأعراش من كل صوب وحدب من مناطق الأوراس، وأكدوا بأن مطلبهم اليوم هو الحفاظ عليها باعتبارها موروث من تاريخ المنطقة.
وتضم منطقة سيدي مصمودي أو فالماش كنوزا أثرية تعود إلى حقب زمنية غابرة، فعلى غرار الأهرام البدائية الصغيرة المتواجدة بجبل بوذا، وجدنا بالمنطقة حجارة مصقولة نقش عليها ما يعرف بإله الشمس، وحسب مرافقنا الباحث في التاريخ ، فإنه يرجح أنها تعود لفترة تواجد سكان الماسيل الأصليين بالمنطقة، حيث كانت تعكس معتقداتهم وطقوسهم، منها الطقوس السرمدية التي تعكس إيمانهم بوجود حياة أخرى وهو ما تجسده القبور التي يتداول أن أرواحها كانت تحرص المنطقة.
ناهبو الآثار يخربون عدة مواقع
ويتواجد بوسط قرية فالماش، حجر منقوش يؤرخ للمعركة التاريخية التي جرت سنة 1859 وقادها الجنرالان قاسطو وديزفو، وتكبد خلالها الجيش الفرنسي الهزيمة من طرف سكان المنطقة المقاومين، وتعد المنطقة أيضا، ملجأ لقائد المقاومة بالشرق و بقسنطينة أحمد باي، وكانت آخر مكان توقفت به القافلة جبل ثارقا الذي لم يكن الوصول إليه سهلا ، بعد تكبدنا عناء قطع مسافة تزيد عن 40 كيلومترا، عبر مسلك آخر شقه السكان من أجل ممارسة نشاطات فلاحية خاصة، منها تربية النحل، وهو الجبل الذي يضم السكنات القديمة للنوميديين والسكان الأمازيغ و هي مشيدة فوق قمم جبلية بأماكن وعرة، تعكس يقظة السكان وحرصهم على تفادي ومواجهة الأخطار التي يمكن أن تحدق بهم من مختلف الجهات، وقد وقفنا على مواقع تعرضت للتخريب من طرف الباحثين عن الكنوز الذين تركوا آثار حفر.                                                       
ي.ع

الرجوع إلى الأعلى