رأس العيون بقالمة... موطن العطش و آبار النفط المنسية
وسط حقول زراعية واسعة تحيط بها الأحراش و الجبال الصخرية من كل الجهات تنتصب قرية رأس العيون بقالمة فوق هضبة خضراء تعانق زرقة السماء في يوم ربيعي جميل و تختزن بين أزقتها الترابية و جدرانها العتيقة تاريخا حافلا بالذكريات الجميلة و أحداث مأساوية ما زالت آثارها تسري من جيل إلى جيل و كأنها تأبى الاندثار و الموت بالتقادم. هنا برأس العيون موطن البطولة و البؤس و الشقاء يمكنك أن تعيش التاريخ و تعيد رسم صورة حية لحضارات و أجيال مرت من هنا منذ أمد بعيد، منذ أن كانت القرية الصغيرة أحراشا و غابات كثيفة تسكنها الأسود قبل أن تطأها أقدام الإنسان الجزائري القديم الباحث عن موطن يستقر فيه ويعيش من خيراته إلى حين.  
هنا فوق أرض الأجداد الطيبة كان يعيش رعاة البقر القدامى وكبار المزارعين وخريجو زاوية بن طعيوش الشهيرة من حفظة القرآن الكريم و علوم الفقه و الحديث، كان يأتيها طلاب العلم من كل مكان، من قسنطينة، سكيكدة و قالمة فهي تقع بالمثلث الحدودي بين الولايات الثلاث التي تشكل مجتمعة الولاية التاريخية الثانية، ولاية الشمال القسنطيني حاضنة الثورة المقدسة والملاذ الآمن لقادتها البارزين الذين كانوا يحتمون بجبال و كهوف المنطقة في طريقهم إلى القاعدة الشرقية و منطقة القبائل الكبرى.  
كانت رأس العيون حارسة الثورة و ملاذها الآمن قبل أن تنقلب أوضاعها رأسا على عقب و تتحول إلى ثكنة كبيرة و سجن حصين يحول بين الثورة و أهالي المنطقة الصامدين الذين جردوا من الأرض و تحولوا إلى خماسة و عبيد يساقون كالقطيع إلى حقول القمح الممتدة من عين رقادة و قصر العازب جنوبا إلى برج صباط و عيون الدهان شمالا ثم يعودون مساء إلى المحتشد الرهيب المحاط بالأسلاك الشائكة و الحرس المدجج بالسلاح، سنوات طويلة من الحصار و القتل والتعذيب و الاضطهاد لكن القرية الصغيرة لم تستسلم، ظلت صامدة حتى اندحر الغزاة بلا رجعة.  

لم يكن القمح الذهبي وحده من أجج نار الاستعمار برأس العيون و منطقة الشمال القسنطيني برمتها، فقد كانت آبار النفط المتدفقة إلى سطح الأرض بقوة سببا آخر لحصار المنطقة و السيطرة على مقدراتها و تشريد أهلها وتهجيرهم إلى رؤوس الجبال حتى يبتعدوا عن الذهب الأسود و سهول القمح البليوني الشهير.   
مازالت آثار القتل و الدمار و الحصار إلى اليوم برأس العيون، ثكنة حصينة محاطة بأبراج المراقبة و بقايا محتشد رهيب و مقبرة يرقد فيها الشهداء جنبا إلى جنب مع ضحايا الإعدام و الجوع و الأوبئة الفتاكة و موت طبيعي مازال يسري بلا توقف إلى يوم الدين.  
كثير من الناس يعرفون سهول القمح الشهيرة و قصص مزارع العبيد بسهل الجنوب الكبير بقالمة لكن القليل فقط من يعرف قصة آبار النفط المتدفقة برأس العيون. سمعنا عنها كثيرا لكننا لم نكن نعتقد بأننا سنقف فوقها و نراها بأعيننا و نلمسها بأيدينا و نشم رائحة الذهب الأسود المثيرة للإزعاج و هي تنبعث بين السهول الخضراء و الأحراش و الغابات، هنا لا توجد صحاري و لا توجد رمال لكن يوجد نفط أسود آثار اهتمام المعمرين الذين نهبوا منه الكثير بعد أن حولوا الإقليم الكبير إلى منطقة محرمة حتى لا يكتشف السكان بأن أرضهم موطن للقمح الذهبي الذي ملأ مخازن روما و موطن للنفط أيضا.   

المعمر «جاكي» ورحلات الاستكشاف

  دخلنا قرية رأس العيون من بوابتها الشرقية عبر الطريق الولائي 123 الذي يخترق سهول القمح و مراعي الأبقار و الأغنام التي تعد المصدر الرئيسي لمعيشة السكان إلى جانب الأنشطة الزراعية و التجارية و حرف البناء و تربية الدواجن، استقبلنا السكان و أحاطوا بنا من كل جانب يشتكون العطش و الأزقة الترابية و الظلام الذي يخيم على القرية كل ليلة و يشتكون أيضا من عجز كبير في شبكات الصرف الصحي بالمجمع الريفي الكبير الغارق وسط النفايات.  
سألناهم عن قصة النفط فقالوا بأن الآبار موجودة هناك خلف القرية على مسافة 3 كلم تقريبا، و قرر أحدهم مرافقتنا عبر طريق نصفه معبد و النصف الآخر مسلك ريفي يربط مشاتي البياضة، طعيوش و بورنان أين تعيش قبائل مهاجرة عمرت المنطقة منذ قرون و بقيت هناك إلى اليوم تحترف الزراعة و تربية المواشي و حرف البناء بالحجارة المصقولة.  
كان دليلنا عبد الحليم مزياني الذي قادنا إلى الوادي السحيق، وادي النفط المتدفق من باطن الأرض ينتظر عودة فرق البحث و الاستكشاف و الاستغلال التي كانت تعمل هنا قبل اندلاع الثورة المقدسة تحت قيادة المعمر الشهير «جاكي» الذي أنشأ شركة صغيرة تأخذ براميل النفط من رأس العيون و تتجه بها إلى عين رقادة لتخزينها قبل شحنها باتجاه الضفة الأخرى للمتوسط.   
وقفنا على حافة بحيرة صغيرة تنبعث منها الفقاعات الهوائية بلا انقطاع و تغطيها بقع زيتية سوداء تنبعث منها رائحة مزعجة، إنه النفط الخام يقول عبد الحليم مشيرا إلى بحيرات و برك أخرى على امتداد الوادي المتجه إلى برج صباط ليلتقي مع وادي بوحمدان الكبير الذي أطبق عليه الجفاف و حوله إلى واد ميت ينتظر رحمة السماء.  
كنا نتجول فوق آبار النفط ويدفعنا الفضول إلى تتبع خطوات المستكشفين الأوائل الذين حلوا بالمنطقة مرات عديدة، كانت بداياتها خلال المرحلة الاستعمارية و آخرها قبل 10 سنوات تقريبا عندما حل فريق استكشاف من شركة سوناطراك الوطنية برأس العيون لإعداد دراسة دقيقة حول الاحتياطات النفطية و الغازية بحوض الشمال القسنطيني.  


 التحق بنا بعض سكان الحوض النفطي الكبير، بينهم الشيخ بلقاسم بورنان الذي تجاوز السبعين سنة و يعرف المعمر «جاكي» و بعض عماله الذين كانوا ينقلون براميل النفط إلى عين رقادة و تحدث الرجل عن الذهب الأسود قائلا « هنا توجد مواقع كثيرة يخرج منها النفط الأسود و ربما الغاز أيضا، كان «جاكي» المزارع الكبير يأتي بعماله هنا ليأخذوا النفط في براميل، كنا نراهم من بعيد و لا يمكننا الاقتراب منهم، كانوا يفرضون حراسة مشددة على المنطقة، كنا نعرف بأنهم يستخرجون النفط من أرضنا لكننا لم نكن قادرين على الاعتراض و المطالبة بحقنا، لسنا ندري متى تعود فرق البحث و الاستغلال، كل ما نعرفه أن النفط موجود هنا منذ زمن بعيد و السكان القدامى يعرفون هذا و يسمون المنطقة عيون الغاز، بلادنا فيها خيرات كثيرة ولذا رفض الاستعمار الخروج منها».  
انتقلنا رفقة بلقاسم و عبد الحليم من البحيرة الكبيرة إلى بحيرة أقل منها، كانت البقع السوداء فيها أكثر وضوحا و كثافة، وضع الشيخ يده وسط الزيت ثم أخرجها و عليها طبقة سوداء بالكاد تخلص منها  بالتراب و بعض الحشائش التي نمت بجانب المستنقع الأسود الذي زارته فرق بحث كثيرة من العهد الاستعماري إلى مرحلة ما بعد الاستقلال.  
يقول رئيس بلدية برج صباط عبد الحميد صويلح متحدثا للنصر بأن آخر استكشاف للنفط بالمنطقة كان بين سنتي 2005 و 2006 عندما حل فريق بحث جزائري ببرج صباط لإجراء مسح شامل للإقليم الممتد من حدود ولايتي قسنطينة و سكيكدة إلى غاية الأقاليم الشمالية من ولاية قالمة، مضيفا بأن النفط موجود برأس العيون ومواقع أخرى من برج صباط وعين رقادة وعاد بنا الرجل إلى زمن الاحتلال و تحدث عن المعمر «جاكي» عندما كان ينقل براميل الخام من المنطقة إلى عين رقادة لتشحيم عتاد الحرث و تصدير كميات أخرى إلى فرنسا الدولة الاستعمارية التي اكتشفت النفط أول مرة بمنطقة الشمال الجزائري قبل أن تنتقل إلى الصحراء الكبرى و تضع يدها على الآبار الشهيرة هناك و تترك آبار الشمال القسنطيني إلى حين.    
تقول المصادر التاريخية بأن الباحثين الفرنسيين كانوا يركزون قبل الحرب العالمية الثانية على الاستكشافات النفطية بشمال الجزائر و بحوض الشمال القسنطيني على وجه الخصوص، حيث تصعد الطفوح النفطية السوداء فوق سطح الأرض ممزوجة بالمياه و يسهل استخراج النفط منها و نقله عبر شبكة من الطرقات المعبدة على خلاف الأقاليم الصحراوية المعزولة التي كان يصعب الوصول إليها لانعدام شبكة الطرقات و وسائل الاستكشاف المتطورة و بقيت الصحراء بعيدة عن اهتمام المستكشفين حتى نهاية أربعينات القرن الماضي.   


من الذهب الأسود إلى آبار الصرف الصحي و العطش

تعد قرية رأس العيون بقالمة من أكبر التجمعات السكانية الثانوية بسهل الجنوب الكبير بعد قرية عين آركو ببلدية تاملوكة، لم يشفع لها تاريخها العريق و ثرواتها النفطية و الزراعية و ما زالت إلى اليوم تعاني نقصا في شبكات الصرف الصحي بالمجمع الريفي الجديد أين استنجد السكان بحفر كبيرة لتخزين مياه الصرف الصحي و منعها من التدفق عبر الأزقة الترابية الموحلة، و عندما تتشبع الأرض بالمياه تخرج المياه المستعملة و تتدفق بقوة بين المساكن في منظر مقلق و مثير لغضب السكان الذين طالبوا بمشروع لبناء شبكة الصرف و المحافظة على نظافة القرية الريفية الجميلة التي تشكو أيضا من عطش مستديم و هي في صراع دائم مع عدة مدن و قرى لانتزاع حصتها من مياه عين آركو القادمة من بعيد عبر قناة معدنية أتى عليها الزمن ولم تعد تنقل المياه و توصلها إلى العطشى الذين يشترون الماء على مدار السنة في انتظار الخلاص القادم مع قناة سد بوحمدان الكبير.  
و بدت شوارع رأس العيون بائسة تغطيها الأتربة و النفايات و يقول السكان بأن قريتهم العريقة لم تصلها مشاريع التحسين الحضري منذ الاستقلال و رحيل المعمرين تاركين وراءهم حقول النفط وثكنة حصينة ومقبرة من الضحايا الذين اعدموا في الساحات و الأودية و الشعاب و بين أسوار ثكنة الرعب المطلة على آبار النفط بحوض البياضة الذي يظهر من بعيد.    
ويطالب سكان رأس العيون أيضا بفتح مركز البريد المغلق و إصلاح نظام الإنارة العمومية و القضاء على المفارغ الفوضوية التي تحاصر الأحياء السكنية من كل الجهات و إيجاد حل لأزمة العطش التي أتعبت السكان و أجبرتهم على شراء مياه الصهاريج في الشتاء و الصيف.  
روبورتاج: فريد غربية

الرجوع إلى الأعلى