أسرار  المنارة  التحفة  وأسطورة غرق سفينة الحجاج
تضم مدينة جيجل، عددا كبيرا من المعالم الأثرية التي تمكن  الزائر من القيام برحلة عبر الزمن و الغوص في حقب زمنية غابرة من تاريخ المنطقة، لاستكشاف جوانب هامة منها على غرار منطقة "الرابطة "التي تعانق تاريخ الفينيقيين و قبورهم،  و كذا المنارة الكبيرة التي تحافظ على الآثار الرومانية و أساطير و حكايات مشوقة، لا تزال تسكن ذاكرة سكان المنطقة على غرار حادثة غرق سفينة للحجاج، و تقول بعض الأساطير، أنها كانت متوجهة إلى البقاع المقدسة و  هكذا ظل الكثيرون إلى غاية اليوم،  يعتقدون بأن من يتسلق أعلى المنارة بإمكانه أن يرى الحجاج بلباسهم الأبيض و هم جالسون فوق الصخرة التي تسببت في انشطار سفينتهم ثم غرقها ، ربما في انتظار أن تطفو السفينة الغارقة على السطح، لتنقلهم إلى حيث تعلقت قلوبهم، كما يمكن لمن يبحر على متن زورق أن يشاهد فوق الصخرة ما يشبه تمثالين لامرأتين هما "لالة عيشة ومريم"، حسب أسطورة أخرى.

  الرحلة المجانية الجميلة عبر الزمن، نظمتها مؤخرا مديرية الثقافة لجيجل و تعتبر أول مبادرة من نوعها بالولاية، فقد خصصت للعائلات القادمة من مختلف ولايات الوطن للاصطياف، وفق برنامج تجسده المديرية كل أسبوع .
النصر رافقت  60 زائرا ، أتيحت لهم الفرصة لاستكشاف المعالم الأثرية بمنطقة الرابطة، و  الاستمتاع بجمال المنارة الكبيرة، و التقاط العديد من الصور التذكارية، فلم يمنع ارتفاع نسبة الرطوبة و الحرارة العائلات المصطافة من تسلق أعالي المنارة و الظفر بمشاهدة روعة شواطئ عاصمة الولاية من علو 43 مترا عن سطح البحر.
تنقلنا في حدود الساعة العاشرة صباحا إلى ميناء بوالديس، فوجدنا عشرات العائلات مرفقة بأطفالها ، تنتظر بشغف موعد انطلاق القافلة التي زاوجت بين السياحة و الثقافة، في ساحة الميناء، و أعينهم صوب الحافلة، كما لو أنهم ينتظرون إعطاء اشارة الانطلاق للظفر بمكان بالقرب من النافدة، أما النسوة، فأتيحت لهن فرصة الالتقاء  و التعارف و تجاذب أطراف الحديث، اقتربنا من إحدى المجموعات، و كل ما استطعنا فهمه من حديثهن، مناقشتهن لعادات و تقاليد بعض الولايات.
 تزاوج بين الثقافة و السياحة لضمان المتعة
مديرة الثقافة التي أعطيت إشارة الركوب ثم انطلاق القافلة، و كانت مرفوقة بإطارات المديرية ، قالت لنا بأن المبادرة تعتبر الأولى من نوعها على مستوى الولاية، و تهدف إلى التعريف بمختلف المواقع الأثرية و السياحية بالولاية، فالقافلة، نقطة ربط لاكتشاف بعض خبايا الولاية الساحلية، و فضاء للقاء العائلات من مختلف ربوع الوطن.
و أضافت المتحدثة بأن المديرية، ارتأت، خلق جو عائلي في الفترة الصباحية ، من خلال هذه الرحلات و إقامة السهرات الفنية بميناء بوالديس، و يتم إبلاغ في كل مرة العائلات الساهرة في الميناء عن برنامج الرحلات كل يوم اثنين، مؤكدة بأن النقل مجاني ، كما يرافق العائلات مرشد سياحي، و أشارت المسؤولة إلى أنه تم تسطير زيارة العديد من المواقع الأخرى، على غرار الكهوف العجيبة، عين لمشاكي، محمية خيري واد عجول.
وصلنا إلى الموقع الأثري الفينيقي الرابطة، المحاذي للبحر في الجانب الصخري، فترجل الراكبون و كل واحد منهم كان يحمل بين يديه هاتفه النقال، أو كاميرا التصوير، لالتقاط صور.
هذا الموقع يؤرخ لتواجد الفينيقيين بالمنطقة، حيث قاموا بتأسيس العديد من المحطات التجارية و المستوطنات في كامل سواحل حوض البحر المتوسط، و قد ارتبط تأسيس هذه المستوطنات بهجرات فينيقية استيطانية ، مما جعلها عرضة لتيار الحضارة الفينيقية و ترسخها و انصهارها مع الثقافة المحلية،
و هي الليبية أو اللوبية بشمال إفريقيا، فأدى ذلك  إلى ظهور ثقافة جديدة و هي البونية، و تعتبر مدينة جيجل إحدى تلك المحطات، حيث يعتبر الفينيقيون أول من أسسها و أطلق عليها اسم "إيجلجيلي"، و أنشأوا بها مرفـأ استعملوه في مبادلاتهـم التجارية، وبعد ذلك أنشأوا مدينة لهم واستغلوا شريطها الساحلي كموقع لمقابرهم.
من هنا مر الفينيقيون..
يقع الموقع الأثري في المنطقة المسماة "الرابطة"، وبالضبط في المكان المسمى القمة السوداء،  الواقعة غرب مدينة جيجل، و يبعد عن الماء بعشرات الأمتار فقط، و هو عبارة عن مجموعة من القبور المنحوتة في الصخر، تمتد على شريط طوله حوالي 200 م وعرضه حوالي 150 م، وتتميز معظم هذه القبور باتجاهها من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي أو من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي، مع استعمال طريقة الدفن على شكل القرفصاء ، حيث يوجه الرأس إلى الغرب و الرجلين إلى الشرق.
أما هندسيا فيوجد شكلان للقبور ، القبور البسيطة، و هي على شكل مربع أو مستطيل أو مستدير الزوايا،  و القبور المركبة، أو ما يعرف بالقبور السردابية،  و تحتوي على غرفة للدفن نصل إليها عن طريق سلالم تتكون من 03 أو 05 درجات، ثم ممر صغير طوله متر واحد ينتهي ببوابة تؤدي إلى داخل غرفة الدفن، و التي نجد بها مكان الدفن و الذي يحتوي على حفرة أو حفرتين و الأثاث الجنائزي المتمثل في مجموعة من الأواني الفخارية، الجرار، الحلي، و بعض الأدوات المعدنية كالإبر مثلا ، لاستخدامها في الحياة ما بعد الموت، حسب الاعتقاد السائد في تلك الفترة.
و من خلال الدراسات التي أجريت على هذه القبور المتعلقة، سواء بدراسة شكلها الهندسي أو الأثاث الجنائزي المتواجد بها، فقد حددت الفترة التاريخية لهذه المقبرة بالعصر البوني القديم، و حسب المؤرخين فإن الفترة التي قدم فيها الفينيقيون إلى مدينة جيجل تعود إلى الفترة الممتدة من أواخر القرن 04 قبل الميلاد إلى القرن 03 قبل الميلاد، ولكن هناك بعض الآراء التي أرجعتها إلى فترة سابقة  ، و حسب الباحث الجزائري محمد الصغير غانم، فإن هذه القبور تعود إلى نهاية القرن 06 قبل الميلاد ، وذلك من خلال اعتماده على نتائج الحفريات و الأبحاث التي قام بها الباحث الفرنسي ألكيي بالموقع سنة 1928 و نشر نتائجها في المجلة الإفريقية لسنة 1937، (ص 199 ،253)، أما الأثاث الجنائزي لهذه القبور فالجزء الأكبر منه معروض في المتحف الوطني العمومي سيرتا بولاية قسنطينة، و البعض الآخر يتواجد في متحف كتامة بولاية جيجل.
الموقع الهام من الناحيتين التاريخية و الأثرية يمثل أحد المواقع الأثرية النادرة التي تعود للفترة الفينيقية، سواء بالجزائر أو حتى بالعالم ، فقد تم تسجيله في الجرد العام للممتلكات الثقافية العقارية بقرار وزاري مؤرخ في 14 جويلية 2007، و بموجبه يعتبر الموقع مصنفا وطنيا و تطبق عليه جميع إجراءات التصنيف، ما سمح بتسجيل عملية لحمايته هي حاليا قيد الإنجاز.
وقد اغتنم الحاضرون الزيارة لطرح العديد من الأسئلة  حول الموقع، و محاولة ربطه  ببعض المواقع الأثرية الموجودة بولايتهم، ثم التقطوا صورا تذكارية للمكان.
تحفة حولت النحات شارل سالفا  إلى فلاح
بعد مرور ساعة من الزمن، ركب الزوار الحافلة،  و كانت الوجهة المنارة الكبيرة التي تعتبر من أهم المعالم السياحية بجيجل، فرغم أنها بناية تابعة في ما يخص التسيير إلى الديوان الوطني للإشارات البحرية، ومهمتها هو توجيه البواخر وإعطاء الإشارات للملاحة البحرية، إلا أن هناك أسطورة حولتها إلى مكان يستقطب الزوار من مختلف الشرائح والجنسيات والمستويات، وتعتبر هذه  المنارة من بين 24 منارة موجودة في سواحل الجزائر و تم إنجازها سنة 1867 على قمة "غريفات" و قد شيدها النحّات الفرنسي "شارل سالفا" وكان يعمل مقاولا ونحاتا للحجارة واستعان بالحجر الأزرق المتواجد بمنطقة العوانة لبنائها، وكلفه هذا الإنجاز أموالا طائلة، مما جعله يحجم عن مواصلة احتراف هذه المهنة ليتحول إلى الفلاحة، حيث عمل مزارعا بمنطقة قاوس، بعد إعلان إفلاسه كمقاول ونحّات. ما يميز المنارة لدى وصولك إليها، وجود مدخل لها جد رائع، يمتد على مسافة 200 متر تقريبا، و يشبه شكل فناء، تتوسطه العديد من الأشجار و الأحراش ، ما جعل المكان يشبه مملكة قديمة، و يمكن للزائر أن يلاحظ تواجد العشرات من العائلات التي افترشت البساط الأخضر، لتناول وجبة أعدتها، أو للحديث و اللعب مع الأطفال، و ما يمكن أن يشعرك بالحزن لدى زيارتك للمكان، عمليات الحرق التي طالت جزء من الغطاء النباتي، و قد أعرب بعض الحاضرين عن أسفهم لمثل هاته الظواهر التي تغتصب جمال و عذرية الطبيعة.
و لدى وصولنا إلى المنارة الكبيرة، جذبنا جمال الشكل الخارجي للدرج المؤدي إلى البناية، و الذي صنع من الحجارة، فجعلها تشبه قلعة قديمة، و لا يمكن وصف روعة المكان، ، إذ يطل على جزء صخري من الجهة الشمالية للمنارة، و بعد دقائق،  قام الحارس بفتح البوابة للزوار، و سرعان ما تسلق الحاضرون السلالم، متوجهين نحو سطح المنارة، فذهلوا بروعة المناظر التي تحيط بهم.
 «المدفأة» و «مقعد القبائل» تهددان البواخر
و من بين الأشياء النادرة، التي يكتشفها الزائر ، صومعة المنارة، و هي عبارة عن مجسمات في شكل مثلث مصنوعة من النحاس و يوجد بداخلها مصباح كهربائي بطاقة 1000واط، يعطي إشارة ضوئية كل 05 ثوان، و بإمكان البواخر رصدها على بعد 45 كلم في عرض البحر، و يبلغ ارتفاعها بالنسبة لسطح الأرض 16 مترا و43 مترا عن سطح البحر، وهي المنارة الوحيدة التي ترسل إشارات ضوئية باللون الأحمر في السواحل الجزائرية، و يعود سبب إقدام المستعمر الفرنسي، حسب المعلومات المتحصل عليها ، على إنجاز هذه المنارة إلى الآثار الرومانية التي توجد في ذلك المكان، حيث تفيد بعض الروايات بأن الرومان كانوا يقومون بإضرام النيران مساء كل يوم، بهدف توجيه البواخر وإنارتها لتفادي الارتطام بالصخور الخطيرة المتواجدة في عرض البحر، وهي صخرتا "المدفأة" و"مقعد القبائل" الموجودتين بالمكان.
و تشير أسطورة "مقعد القبائل" بأن سفينة كانت تحمل مئات المواطنين القادمين من مدينة بجاية للتوجه إلى مدينة عنابة، ومنها إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، و عندما عبرت المنطقة، اصطدمت بصخرة حادة يسميها الصيادون "السكة" موجودة اليوم في عرض البحر، بشمال المنارة على بعد حوالي 02 كلم، وترتفع على مستوى سطح البحر بحوالي 04 أمتار، وعندما غرقت سفينة الحجاج، أصبح المكان يسمى "مقعد القبائل".
وتشير بعض الروايات، بأنه يمكن لزائر المنارة الكبيرة عندما يصعد إلى السطح،  أن يشاهد الحجاج بلباسهم الأبيض جالسين مع بعضهم على الصخرة التي تسببت في انشطار السفينة وغرقها، وهناك يوجد حقيقة شاطئ صخري خطير كان مقبرة للبواخر، يمكن مشاهدته عند الصعود إلى قمة المنارة و قد تكسر موجه الكبير بالصخرة المذكورة، "مما يبرز  لونا أبيض وتخيلات عديدة ، حسب ثقافة ورؤية الزائر.
 وأشار العديد من مالكي الزوارق الصغيرة  بأن الذي يبحر على متن زورق إلى غاية الصخرة المذكورة، سيلاحظ هناك تمثالين حجريين لامرأتين على الصخرة ،ويطلق عليهما الصيادون و القدامى اسم "حجرة لالة عيشة و مريم".                    
ربورتاج:  كـ طويل

الرجوع إلى الأعلى