بقلم أ.د. عبد المجيد مرداسي/أستاذ بجامعة قسنطينة ...

قد تبدو فجوة التأثر الطبيعي التي شهدتها مباشرة بعد العملية الإرهابية لا نهاية لها خاصة بالنسبة للأقارب المعنيين . لكن  أمام التصرفات التي بررتها تلك الحادثة ننتظر أن تتوقف مواصلتها ليترك المجال لموقف أخر مبني على اعتبارات مدعمة بالحجج الموثقة و النظرة المبتعدة عن الانفعال الذاتي.  

واقعة 7 جانفي 2015 لن ولم تكن إعادة أو حلقة أخرى لأحداث 11 سبتمبر 2011 كما فهمناها ، حين تسرعت السلطات الفرنسية لاعتماد هذه الفكرة. إن  الضحايا الإثني عشر من طاقم تحرير جريدة (شارلي ايبدو) جريمة غير قابلة للتبرير على الإطلاق ولا يمكن مقارنتها بآلاف الضحايا لـ (والد طراد سانتر) .كما لا يمكن مقارنة سيارة (ستروان) للأخوين كواشي بالطائرات التي حطمت بكل برودة البرجين التوأمين بمدينة نيويورك. فالسنوات التي تلت هجوم  11سبتمبر 2001 كرست بعده الجيوسياسي من خلال  اتخاذ قانون (الباتريوت اكت) و خوضالحرب الثانية للخليج و فتح معسكر قوانتنامو و  اللجوء إلى التعذيب المنظم   بأبو غريب و فتح السجون السرية لوكالة المخابرات ''سي أي إي'' بأوربا وأماكن أخرى وما كان  كل هذا إلا الجزء الظاهر لهذا البعد الاستراتيجي . الجدير بالملاحظة في هذا الشأن أن الولايات المتحدة الأمريكية اضطرت إلى العودة إلى أفغانستان لتقاتل الجماعات التي سلحتها وكونتها هي نفسها  بضعة سنين من قبل.

مليونية مريبة

ليس من الغريب أن تلجأ الحكومة الفرنسية إلى استدراك مسرحية الوحدة الوطنية أو تمثلية الدفاع عن الجمهورية لكي تبعد النظر عما تواجهه من وضع مقلق للغاية يسوده  الإرهاق الاقتصادي وفقدان متواصل لمساندة الرأي العام لكن هذا لا يعني بالضرورة الخضوع لهذا الحل كالتزامظرفي.

ما يستوقف الجميع ليس التفاف فرنسا حول قيمها الوطنية (وأي قيم يا ترى ؟) بل  يتعلق الأمر بدولة يعرف عنها أنها في مقدمة عظماء المعمورة مزعزعة في أسسها حسب ما ورد في تصريحات الناطقين الرسميين لها ، و فعلا  هزها الهلع من جراء عملية إرهابية لا غبار عليها بحي من أحياء العاصمة ثم تلاها مباشرة اختطاف رهائن . و الواضح   أن القضية داخلية بامتياز . وراء هذا العمل الإجرامي ثلاثة فرنسيين وهذا لا شك فيه ، و لو أن التحفظ مطلوب حين يكون  التحقيق متواصلا .

الفارق بين الاستغلال السياسي للحدث وتناوله الإعلامي من جهة ، والحدث كما ورد في الشهادات مع تصريحات ممثلي العدالة من جهة أخرى يستوقفنا . تخطر ببالنا كثير من الملاحظات و البعض منها يثير  الضحك لما نراه حين يربط المحللون والمعلقون الحدث بأسطورة فرنسا 1789 و مشهد مسيرة 11 جانفي 2015 و ما كشفته ... نلاحظ سيطرته على نفوس العامة بسحر إخراجه  المنظم الذي سهر على جمع مختلف  رموز إرهاب الدولة في الخط الأمامي كأن الرسالة تزعم أن الأمر يتعلق بصراع دولي ضد الإرهاب ومن خلف هذا التهريج الدرامي  المقصود هو استهداف صورة  الإسلام . وبالتأكيد شاهدنا أكثر عدد من المتظاهرين يتشبهون ب شخصية ‘’شارلو’’ عوض  ‘’شارلي’’ في ذلك اليوم بين ساحتي "لاريبوبليك" و "ناسيون".

على الضفة الأخرى للمتوسط ، فإن الأحداث المأساوية التي عرفتها مدينة باريس لم تترك الذاكرة والجروح القديمة ساكنة  خاصة وإن الإرهاب  كان عندنا منظما وممولا ومدعما لاستهداف الأسس الجمهورية للدولة الجزائرية . وأن باريس وواشنطن وعواصم أوروبية أخرى كانت حينئذ تراهن على سقوطها وهذا ليس تعبيرا مجازيا.

نلاحظ اليوم وبدون تفاجأ أن شرذمة من  الفرنسيين الجدد يهرولون داعين الجزائريين إلى نصرة ''شارلي'' مع منعهم في الحق وحتى في واجب النقد الضروري والشرعي كجزء لا يتجزأ من الحريات الجماعية التي يتبناها  اليوم من هب ودب.

 من كان بالأمس يجد في مجلة "هاراكيري" الهزلية ثم في قرينتها "شارلي إيبدو" الحس الثقافي لليسار الفرنسي  المبني على الفكر اللاسلطوي المضاد للكنيسة وللعكرة و المتمسك بالنضال السلمي في أغلب الأحيان يصعب عليه اليوم أن يرى في كاريكاتير الرسول عليه السلام المنقولة من السابقة الدنماركية مبررا فرنسيا واضحا لان هذا الفعل الكره يعود في أحسن الحالات إلى اعتبارات تجارية أو في أسوئها يشاطر الخطب العنصرية والكراهية التي تروج  اليوم في وسائل الإعلام  و في الفضاء العمومي الفرنسي.

أي حرية للتعبير ؟

إن الأيادي الخفية المستغلة للحدث مصيرها النهائي كشف حقيقتها .كذلك بالنسبة للتوظيف المتعدد الأشكال الذي لوحظ أثناء المناقشة المتلفزة والمروجة في صفحات العدد الأخير لجريدة (شارلي ايبدو) . وبعد تهدئة الأجواء سيبقى نفس القارئ مقتنعا أن الرسم الكاريكاتوري الذي أمضاه  الصحفي " لوز" والمسيء إلى الرسول عليه السلام يعطي دليلا آخر عن حرية التعبير  عندهم ؟.

من ارتكبوا هذا التجاوز بغطاء ضمانات نسبية تحميهم من المتابعة لا يستطيعون استدراك الثمن الباهظ الذي دفعه من كان محروما طيلة سنين من أي حماية وهم اليوم يستنجدون و بدون حياء  بتذكير ما عانت منه  الصحافة الجزائرية .

عليهم أن يعلموا أننا لا نستطيع ولن نكون بجانبهم في مكافحة التطرف وأعماله الإرهابية التي تستهدف  قبل كل شيء إحدى الديانات السماوية .

التاريخ يعلمنا إذا رجعنا إلى مراحله المتتالية أن الدولة الفرنسية هي التي هاجمت طويلا الإسلام حتى في دياره كما حدث بالجزائر . والدكاترة الجدد المختصين في العلمانية عليهم أن يدركوا  أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين هي التي أوصلت الرسالة أمام تجاهل الأمر من قبل الجمهورية الفرنسية طيلة 132 سنة من محاولات طمس و نفي  شخصيتهم .

المفارقة أن الجزائر بقيت رهينة لتاريخها الكولونيالي نظرا للتقارب الجغرافي مع المجتمع الفرنسي . بل وليس لهذا السبب فقط ، لأن جزء ا كبيرا ممن يسمون "مسلمو فرنسا" هم من أصل جزائري أما صدى النقاش الفرانكو-فرنسي فيبقى مركزا على قضايا الهوية ولهذا السبب يأخذ حتما بعدا بارزا .

في الجزائر كانت آثار العدد الأخير لجريدة (شارلي ايبدو) مضرة أكثر لأنها أعطىت فرصة إضافية لبقايا الإرهاب فوجدت الفرصة أيادي خفية أخرى لتتحرك من جديد.

فهل علينا أن نبقى الضحية الجانبية للفشل الفرنسي ذي المدى الطويل ، بإسم تصور مبهم لحرية التعبير أو على الأقل قابل للنقاش ؟ .

على أصدقائنا الفرنسيين أن لا يفقدوا .. الرؤية

إن واجب الصداقة ، وخاصة نحو الفرنسيين الذين ساندوا بالأمس القضية الجزائرية والذين يقفون اليوم بجانب مطلب المساواة في الحقوق يفرض علينا أن  نقول لهم لا تخطئوا في القضية اليوم و يجب أن لا  يؤدي بكم التأثر  إلى فقدان الرؤية .

الجرائم البشعة ليوم 7 جانفي الماضي كانت قبل  كل شيء جرائم فرنسية . ارتكبت في مقاطعة بالعاصمة الفرنسية . وضحاياها فرنسيون . فلا داعي إذن للوقوف على صرخة التكبير التي لا تكلف الإسلام في شيء ولا مقوماته وحضارته الطويلة والثرية.

إن الغطاء الإيديولوجي للتيار الاسلاموي الراديكالي المرفوض بإجماع مطلق لا يمنع من معاينة " الابارتايد" في شكله الفرنسي الذي منح تأشيرة للناطق باسم اليسار المتطرف الفرنسي بمقارنة المؤمنين المسلمين بالاحتلال النازي.

يرددون عبارات ''الطائفية'' و ''الأحياء'' و "البانليو" و ''الشغب'' وفي كل الحالات يقصدون  بدون حجة نفس المتهمين . ثم نستغرب عندما نسمع من  أفواه كبار المسؤولين الفرنسيين نفس التهمة أي ''الجهادية'' و ''الاسلاموية'' متناسين السؤال الأهم : لماذا وكيف يقدم شبان فرنسيون ، ولدوا بفرنسا وكبروا وتعلموا بفرنسا على اللجوء إلى لغة العنف بفرنسا وحتى خارج حدودها ؟.

النخب الفرنسية والنخب السياسية بالدرجة الأولى فائدتها كبيرة في الخروج من التصورات الإعلامية المزيفة .عليها أن تنظر إلى بلدها بنظرة صريحة  وأن تترك الرغبة الوهمية في إعادة حرب الجزائر.

في انتظار ذلك ، فإن موقف  المسؤولين الفرنسيين والإجراءات المعلن عنها قد لا تبلغ أهدافها وتحقق مراميها في الضفة التي نعيش فيها  ، ولن تزيد  إلا في إثارة الذكريات المؤلمة التي ترجع بنا إلى ذلك  الزمن حين كان كل جزائري '' فلاقه '' مشتبه فيه  وبالإمكان تصفيته بدون متابعة .

ع / م
الرجوع إلى الأعلى