بن بركة وراء اختطاف طـــائرة القــادة الخمسة و الحسن الثــاني خطّــط للتــربع على عـرش الجـزائر
توفي الأحد الماضي  العقيد المغربي الهاشمي الطود وهو أحد كبار أصدقاء الثورة الجزائرية  ومن آخر المناضلين التاريخيين من أجل بناء المغرب العربي، وفي هذا العدد تعيد النصر نشر حوار أجرته معه سنة 2004  والذي  قدّم فيه رواية جديدة عن اختطاف طائرة القادة الجزائريين يشير فيها بأصابع الاتهام إلى المهدي بن بركة ، و يكشف عن مؤامرة قام بها العرش العلوي في المغرب مع السلطات الاستعمارية بغرض  تنصيب الحسن الثاني على عرش الجزائر، كما يتحدث عن جوانب من علاقاته مع وجوه تاريخية هو الذي ارتبط بعلاقة صداقة مع أحمد بن بلة أو "أحميمد" كما يسميه فضلا عن تدريبه لبومدين وحبه الكبير لبوضياف، و علاقته المبكرة مع الثورة الجزائرية التي كانت بمثابة حلم بالنسبة له.
حـاوره: سلـيم بوفـنداسة
من سوء الحظ أن لقاءنا بالعقيد الهاشمي الطود كان في الساعات الأخيرة من تواجدنا في المغرب و في مدينة ساحلية يقضي فيها عطلته الصيفية و بالتالي ضاعت فرصة الاطلاع على الكثير من الوثائق و الصور الحية التي تغذي ذاكرة هذا العسكري الذي يخزن أسرارا ثمينة يأبى الإفصاح عنها بسهولة و من سوء الحظ أيضا أنه كان في مرحلة نقاهة بعد عملية جراحية، مما اضطررنا إلى التوقف عن الحديث مرارا ليأخذ نفسا.
سألته عن حادث مفصلي في الثورة الجزائرية يرتبط بالعلاقات مع المغرب، و يتعلق الأمر باختطاف طائرة الزعماء الخمسة و عن مدى صحة علاقة الحسن الثاني بالاختطاف فأجاب بسرعة:
ـ الحسن الثاني بريء من هذه القضية!
ثم واصل موضحا:
لما أشتد عود الثورة الجزائرية واكتشف الفرنسيون أن النصر العسكري لن يكون حليفهم بدأوا  يفكرون في «إطار صلح» أو شبه استقلال داخلي لمدة خمسة أو عشرة سنوات، وعرضت الفكرة على بورقيبة، لكن هذا الأخير نصح الفرنسيين باستغلال العلاقة الطيبة بين محمد الخامس والجزائريين وقال صراحة لمحدثيه أن قادة الثورة الجزائرية لا يحبونه ويشككون في سلوكه، وعلى هذا الأساس تم الاتفاق مع العرش العلوي الذي وافق على الخطة الفرنسية شريطة أن يتولى الحسن الثاني ولي العهد آنذاك عرش الجزائر، وتم الاتصال بالإخوة الجزائريين، ووجدت الفكرة صدى لدى بعض القادة إلى درجة أنه بدأ الترويج للولاء للعرش العلوي في خطب جمعة بالغرب الجزائري وتحديدا  في وهران فيما يشبه مبايعة لمحمد الخامس في انتظار مبايعة ابنه!

المنطقة لم تستفد من الثورة الجزائرية و الحلم المغاربي انتهى
ولم تكن رحلة القادة الخمسة في الطائرة إلا فصلا من هذا المخطط، والوحيد الذي كان يمانع هو محمد بوضياف الذي تأخر عن الموعد، ولم يلتحق إلا بعد ضغوطات مارسها عليه ولي العهد الحسن الثاني الذي انتقل مباشرة بالطائرة  من الرباط إلى تيطوان ثم الناظور خصيصا لحمل بوضياف على الحضور وهو ما تم فعلا، ومن هنا فإن الحسن الثاني لم تكن له مصلحة في اختطاف الطائرة أو احباط المشروع، لأن الأمر يتعلق بمصلحته هو الذي كان يحلم بالتربع على عرش الجزائر.
- ومن المستفيد إذا؟
-المهدي بن بركة. يجيب دونما مواربة وحين أسأله عن الأدلة وفائدة بن بركة من هذه الوشاية يقول:
كنت أنتمي إلى قوة عسكرية عارضت المؤامرة المغربية على الثورة الجزائرية بوقف القتال، خططنا كمقاومين للرد على المبادرة الفرنسية بعمليات عسكرية مثيرة في المغرب لفك الحصار على الثورة الجزائرية،  وجعلنا  من الشمال قاعدة خلفية بحيث أعددنا خطة تتمحور على تفادي أية مواجهة من الاسبان وتركيز كل العمليات ضد القوات الفرنسية، وحين شرعنا في تنفيذ الخطة اكتشفنا أن فرنسا سلحت ميليشات بن بركة واحتلت المواقع التي كنا ننوي الانطلاق منها،  وتزامن ذلك مع حجز باخرة آتوس التي كانت محملة بالأسلحة و قادمة من بور سعيد، وحين أسأله عن هدف اختطاف الطائرة مادام الأمر يتعلق بمبادرة فرنسية؟ يجيب بأن صقور المؤسسة العسكرية الفرنسية كانوا ضد فكرة التخلي عن الجزائر أو اعطائها  أي نوع من الاستقلال،  بل كانوا  ضد وقف العمل العسكري أصلا  ويرفضون أي مبادرة سياسية في هذا الاتجاه، هؤلاء الصقور وظفوا الشيوعيين في المغرب وزودوهم بالمال والسلاح.
-وهل تعتقد حقا أن المهدي بن بركة يقوم بكل هذا؟
-نعم وماذا تعتقد لقد كان عميلا لفرنسا ومناهضا للثورة الجزائرية، كبقية أبناء الحرام!
 ويروي العقيد بحماسة علاقته مع الثورة الجزائرية والجزائر على العموم حيث أكد أنه دخل التراب الجزائري في الخامس عشر من عمره، سنة 1945 تحديدا وذلك في طريقه إلى القاهرة حيث درس إلى غاية الثانوية العامة ليلتحق فيما بعد بإحدى الكليات العسكرية  في العراق، ثم يعود إلى القاهرة حيث ساهم في تشكيل خلايا عسكرية مغاربية مكونة من طلبة يافعين أو ما يعرف بالكتيبة 13، بهدف القيام بعمليات عسكرية في  كل من الجزائر وتونس والمغرب، وكان من بين الطلبة الذي دربهم الهاشمي الطود في أواخر 1953 هواري بومدين اطلعت النصر على صور له في مراكز التدريب، ليضيف بأنه عرّف بومدين على أحمد بن بلة وجمعهما في بيته بالقاهرة، وانهى بومدين تدريبه سنة 1955 ليدخل إلى الجزائر والمغرب ولم يجتمع بمدربه سوى في سنة 1957 بالقاهرة ليلتقي به رفقة بن بلة في المغرب سنة 1960، وهنا قال: شعرت أن بومدين لم يكن مرتاحا لي، فانسحبت كي لا أحرجه  ولا أحرج نفسي، أنا العسكري الذي لا أحب السياسة! هذا الانقطاع سيستمر بعد الاستقلال وتولي بومدين للرئاسة،  العقيد المدرب قال أنه لم يفهم ولم يستوعب انقلاب بومدين على بن بلة، لأن بومدين ما كان ليكون لولا أحميمد «على حد تعبيره». كما استغرب من جهة أخرى الصراعات التي اندلعت بين قيادات الثورة  التي قال أنها تركت ألما كبيرا في نفسي،  وفي تفسيره لهذه الظاهرة يرى أن الثورة فسحت مجال الانضمام إليها دون انتقاء ومن مختلف الأحزاب الأمر الذي يجعل من ظهور الصراعات فيما بعد أمرا طبيعيا.
والتفسير الثاني الذي يقدمه هو ظاهرة الإقصاء التي تحولت إلى ثقافة في منطقة المغرب العربي، ولم يفوت الفرصة هنا ليعبر عن خيبة أمله في ثوار الأمس الذين تغيروا  بعد الاستقلال ولم يفقدوا  بريقهم الثوري فقط بل انحرفوا، وأجهضوا  بأنانياتهم قيام دول وطنية كاستمرار للثورة فضلا عن إحباط بناء المغرب العربي الذي كان يحلم به الرعيل الأول من الثوار.
الفهد الأسود كاتب سيناريو جميلة صفّي في تونس
محدثنا  رفض من جهة أخرى الخوض في بعض نشاطاته العسكرية لفائدة الثورة الجزائرية من ذلك مساهمته في عملية سطو على  بريد الجزائر لتمويل الثورة، و قال ساخرا إن سرد تفاصيل أحداث من هذا النوع اليوم لن تفيدنا، و قد نصنف في خانة الإرهابيين، و روى هنا حكاية طريفة مع وزير مغربي يشغل حقيبة سيادة: لقد اشتاط غضبا حين واجهته بصورة قديمة له و هو يحمل رشاشا أثناء تدريبات عسكرية، و نصحني بإتلاف الصورة و منذ ذلك التاريخ انقطعت صلتي به و سقط في نظري، أما علاقته بالثورة الجزائرية مباشرة فقد بدأت في سنة 1952، أي أثناء التحضير للثورة و التقى في الجزائر بالسيد عبد الحميد مهري (و قد تأكدنا من ذلك في مقال كتبه الأستاذ عبد الحميد مهري في مجلة الأصالة سنة 1975 التي كانت بحوزته) و يذكر أنه دخل في مهمة للاتصال بالأحزاب في الجزائر رفقة صديق يسمى محمد حمادي العزيز الذي عاد فيما بعد  إلىالجزائر و اشتغل كمستشار لقيادة الثورة بمنطقة القبائل بصفته متطوعا و ألقت سلطات الاحتلال القبض عليه ليقضي سبعة أعوام في سجن بارباروس و يحكم عليه بالإعدام، و أطلق سراحه بعد مساع قام بها صديقي محد الشرقاوي سفير المغرب بباريس لدى الجنرال دوغول، و بعد الاستقلال اشتغل كمستشار عسكري للرئيس بن بلة، و بعد الانقلاب حوّله بومدين الذي كان يعرفه جيدا إلى دائرة بوزارة الأوقاف التي كان يديرها توفيق المدني الذي كنا نسميه «تنوفيق المدني»! هذا المنصب لم يعجبه فانسحب و عاد إلى المغرب.
و تحدث العقيد عن علاقاته بصناع الثورة الجزائرية مثل كريم بلقاسم الذي التقاه في العاصمة و منطقة القبائل و عبان رمضان الذي اغتيل في المغرب، كان الرجل يتحدث عن التصفيات بمرارة كبيرة: كنت أعرف أن عبان سيموت؟ و كذلك الشأن بالنسبة لصديقي مصطفى لكحل ابن الأوراس الذي كان يطلق عليه رفاق السلاح إسم «الفهد الأسود» الذي تمت تصفيته في سبتمبر 1958 بتونس، هذا الرجل الفذ دربته في مصر سنة 1951 ثم دخل الجزائر و تجند في الجيش الفرنسي و نقل فيما بعد إلى ألمانيا و عند نقله مجددا إلى الجزائر فر و التحق بالثورة و جرى الحديث سنة 1956 عن حركة تمرد ضد كريم بلقاسم و بو الصوف و تشكيل لجنة عسكرية في الحدود التونسية، و كان ذلك كافيا وقتها لتخوينه و تصفيته، غير أن مشكلة هذا الرجل الحقيقية هي كونه مثقفا يناقش بصوت عال و لا يتردد في إبداء رأيه كان ينتقد ثوريي المناسبات و التسيب السياسي، و قد بعث لي برسالة سنة 1958 كتب فيها: أخي إني لا زلت حيا تحت التراب، و فعلا لم تمض أيام حتى بلغني خبر تصفيته و لعل ما غاب عن الكثيرين أن هذا الثائر هو الذي كان وراء إنجاز فيلم جميلة بوحيرد ضمن مسعى للترويج الثقافي للثورة الجزائرية و كتب بنفسه السيناريو الأول الذي قدم للفنانة ماجدة، و قال من جهة أخرى أن فكرة التخوين و التصفية لم تكن على نطاق واسع في المغرب، لقد اختطفوا والدي بسببي وصفوا أصدقاء لي من خيرة الثوار، و أنا نجوت بأعجوبة، و تحدث عن محاكمة غريبة تعرض لها في المغرب سنة 1956 لقد حوكمت بتهمة التعامل مع عناصر معروفة بعدائها للمغرب لما كنت في الشرق الأوسط، فقلت لضباط القضاء العسكري..نعم لقد كنت معاديا للنظام الاستعماري الذي كان قائما في المغرب و ماذا يضيركم أنتم؟ أنني ضد فرنسا منذ أن خلقني الله، و سأبقى ضد فرنسا حتى الممات، و سجنت لمدة معينة دون محاكمة بسبب ذلك.
و تحدث عن علاقاته بوجوه من صناع الثورة بصراحة حيث قال أن صديقي احميمد ـ يقصد بن بلة ـ لاعب كرة ممتاز، كان يمكن أن ينجح في الرياضة لكنه فشل في تسيير بلد حين أتيح له ذلك، أما بوضياف فكان يتحدث عنه بافتتان كبير، فهو بالنسبة له رجل شهم و نظيف لكن مشكلته أنه غير مسيس و لا يعرف دهاليز السياسة و سراديبها و يتعامل بطريقة مباشرة، ذكر أنه التقى به لأول مرة سنة 1952 كما التقاه حين استقر في المغرب بعد الاستقلال، أما عبد الحفيظ بوالصوف فقال أنه عرفه بالقاهرة و لم تكن له صلة قوية ـ و أضاف، بصراحة لم أكن مرتاحا له كنت مرتاحا لبوضياف و بن بلة و جماعة قسنطينة مثل العربي غسال...
العسكري الذي رفض المشاركة في حرب الرمال بين الجزائر و المغرب و تقاعد سنة 1995 برتبة عقيد، قال للنصر سجلوا عني بلا تردد أن المغرب لم يستقل، و أنما تواطأ من أجل إحباط الثورة الجزائرية وقد ساءنا ذلك جدا كمغاربة لأن الجزائر كانت قطعة من كياننا و لم نكن  نفرق بين المراكشي و الباتني و القسنطيني.
بورقيبة و العرش العلوي تآمرا على الثورة الجزائرية
و حين سألته عن المسقبل، يضحك و يتساءل أي مستقبل يا رجل؟ فقد انتهى كل شيء، إن الثورة الجزائرية ثورة عظيمة كان يمكن أن تذهب بالمغرب العربي بعيدا بديناميكيتها، و للأسف فإن المنطقة لم تستفد من أثر هذه الثورة الكبيرة، لا أستطيع التنبؤ بالمستقبل، لكن المارد خرج من قمقمه، مارد لا صفة له، فكرة المغرب العربي انتهت تماما، هذا الكيان لن يستطيع الإداريون الحاليون، بناءه، فهذا الكيان لا يحسن تشييده سوى الذين صهر أرواحهم لهيب الثورة.
سيل من الكلمات امتد بيننا كان ينظر إلي بنظرات حنونة و غامضة، نظرات من عينين محمرتين، تخفيان أسرارا لا يمكن الإفصاح عنها، هكذا في أول لقاء و عدني إن أنا عدت إلى المغرب باطلاعي على أرشيف هام للثورة الجزائرية و الكشف عن خبايا تصلح كمادة لكتاب مثير عن هذه الثورة و رجالاتها، أحسست في نهاية اللقاء أنه يريد استبقائي ليقول شيئا ما، شيئا كبيرا يصلح مادة لكتاب..انتظر قليلا قال، و حين أخبرته أن موعد سفري حان يودعني على مضض، وهو يقول لدي رغبة كبيرة في زيارة قسنطينة لدي أصدقاء أحبهم هناك، عبد الحميد بودن، مدني الحواس، رشيد إدريس...
طافت بشفتيه ابتسامة أب كتوم، تواعدنا على لقاء قريب و كتاب، و حين ابتعدت عن فيلته الشاطئية التفت لأرى شبحه واقفا عند مكان الوداع، شبح أخفى أكثر مما أعطى، صدره كتاب مفتوح على ألف سر مغلق.                                     
س.ب
ملاحظة:
 نشر هذا الحوار في النصر يوم 29 سبتمبر 2004

الرجوع إلى الأعلى