طـالـب الجغرافيا الذي تحـوّل إلى "العلبـة السوداء" لـثـورة الشمـال القسنطيـني
بين غابات جبال جيجل و مسالكها الوعرة، حمل المجاهد بوطمين جودي لخضر، خريج معهد ابن باديس بقسنطينة، القلم بيمينه و البندقية في يساره، فكان العلبة السوداء لمجاهدي الولاية التاريخية الثانية و استطاع رغم صغر سنّه آنذاك، أن يُصبح الكاتب الأمين للعقيد صالح بوبنيدر، النصر التقت بـ «السي لخضر” مثلما فضّل رفقاء السلاح  تسميته، و نقلت شهاداته عن فترة النضال و المراحل التي سبقت انضمامه إلى الثورة ضد الاستعمار الفرنسي الغاشم.
حاورته: ياسمين بوالجدري
المجاهد بوطمين جودي لخضر هو من مواليد سنة 1931 ببلدية برج الطهر بولاية جيجل، بعد أن تعلّم في مدرسة قرآنية قرب مسقط رأسه، التحق بمعهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة و تخرج منه سنة 1951، ليسافر بعدها إلى جامع الزيتونة أين درس حتى عام 1952، و في نفس السنة حصل على عضوية أول بعثة لجمعية العلماء المسلمين إلى جامعة بغداد في العراق، و هناك درس بدار المعلمين العالية إلى غاية التخرج عام 1956، بالحصول على شهادة ليسانس في التاريخ و الجغرافية.
 في شهر جوان من العام ذاته، انتقل ذلك الشاب المتخرج لتوّه من الجامعة، إلى القاهرة، و منها قرر الالتحاق بالثورة الجزائرية، رافضا العروض التي تلقاها بالبقاء في المشرق العربي و التدريس هناك، حيث بدأ النضال بالعمل رفقة مجموعة من الطلبة الجزائريين، على نقل السلاح من ليبيا نحو تونس، قبل أن ينضم إلى صفوف جيش التحرير الوطني في الولاية الثانية، أين تسلم عدة مسؤوليات كان آخرها عضو المنطقة الخامسة.
بعد الاستقلال اشتغل المجاهد بوطمين في مهنة التعليم و تسلّم فيها عدة مناصب كان آخرها مدير ثانوية، و خلال هذه المرحلة، كانت له مساهمات في يومية النصر و مجلتي الجيش و أول نوفمبر، كما ألّف 6 كتب تحدث فيها عن ذكرياته إبان الثورة، و واصل النضال في حزب جبهة التحرير الوطني إلى غاية سنة 1987، «السي لخضر” انتُخب عدة مرات عضوا في المنظمة الوطنية للمجاهدين، و لمرتين في المجالس المحلية بولاية قسنطينة، كما تقلّد منصب نائب في البرلمان في عهدة استمرت بين سنتي 1977 و 1982.
11 ساعة سجنا في العراق و السبب "محاولة اغتيال" الملك!
قرب منزله الواقع بحي سيدي مبروك بقسنطينة، التقينا بـ “عمي لخضر” كما يناديه الجيران و الأصدقاء، و بابتسامة جميلة و عيون زرقاء لم يخطف وهجها الكِبر و لا المرض، استقبلنا أمام باب البيت و أوصلنا إلى غاية الصالة، أين بدأ يسترجع شريط الذكريات و يروي لنا كيف بدأ الدراسة في دار المعلمين العالية ببغداد إلى جانب 11 طالبا أرسلتهم جمعية العلماء المسلمين، حيث درس بها لمدة 4 سنوات و تخرج منها عام 1956.
في ذلك الوقت، يقول المجاهد بوطمين، كان حزب البعث هو المسيطر و كان نظام الحكم ملكيا في العراق، و قد تصادف أن جرت مراسيم تنصيب الملك الجديد في ذلك الوقت، مع حضوره رفقة 6 طلبة جزائريين من أجل التفرّج، لكنهم تفاجأوا بتوقيفهم من بين الجماهير التي كانت متجمعة في انتظار موكب الملك، و ذلك بعد حوالي نصف ساعة من توجيههم سؤالا  إلى أحد الشرطيين عن موعد مرور الملك فيصل الثاني، و يضيف “عمي لخضر” أن العراقيين اتهموهم آنذاك بالشيوعية و يبدو أنهم شكوّا بأن الطلبة خطّطوا لاغتيال الملك مثلا، رغم أن السؤال الذي طرحوه كان بدافع الفضول لا أكثر و لا أقل، حيث ظلوا في السجن لمدة 11 ساعة و تم إخلاء سبيلهم بعد أن تبيّن أنهم أبرياء.
بعد رحلة الدراسة في العراق، ذهب الشاب لخضر جودي إلى دمشق و كله رغبة و أمل في الالتحاق بالثورة التحريرية التي كانت آنذاك في أوج مجدها، و هناك حاول الاتصال بالراحل عبد الحميد مهري الذي كان ممثلا للثورة الجزائرية في سوريا، لكنه لم يستطع، فشعر بـ «إحباط منقطع النظير»، لكنه تمكن من ملاقاة قياديين في حزب البعث العربي الاشتراكي منهم أكرم الحوراني و ميشيل عفلق، لم ييأس لخضر من المحاولة، و علم أن ما يريده يتطلب موافقة مكتب المغرب العربي في القاهرة، و الذي كان أحمد بن بلة و آيت احمد و محمد خيضر مسؤولين فيه، فذهب إلى مصر لملاقاتهم.
هكذا سلّحه بن بلة
انتقل الشاب جودي لخضر إلى مصر سنة 1956، و تصادف تواجده هناك مع ورود أخبار عن مهاجمة المستعمر الفرنسي للمشتة التي تقيم فيها عائلته بأحد جبال منطقة الطاهير في ولاية جيجل.. هنا يتوقف «عمي لخضر» ذو الست و ثمانين عاما عن الكلام لدقائق قليلة، لتنهمر دموعه بحرقة ألما على فقدان شقيقه فرحات في بداية الستينات خلال كمين بولاية ميلة، و علي الذي استشهد في غارة الطاهير تاركا خلفه 3 أبناء، يستجمع المجاهد بوطمين قواه ليواصل الحديث و يروي للنصر كيف استطاع بوساطة شخص يُدعى “السي رشيد”، أن يوصل مطلب التحاقه بالثورة إلى بن بلة في القاهرة، و فعلا تم تجنيده و إرساله إلى مصر الجديدة، أين تدرب داخل ثكنة على استعمال السلاح لمدة شهر و نصف.
"الفول السوداني كان زادنا
و كنا نستحم تحت الحراسة"
عملية التدريب كانت مكثفة، حيث شارك فيها طلبة جزائريون آخرون، و قد شملت على وجه الخصوص، استخدام بندقية 303 التي غنمها الجيش المصري من الحرب على الانجليز، و بعد انتهاء التدريبات في السنة ذاتها، أي في 1956، جرى لقاء مع الدكتور تيجاني هدام في حي باب الحديد في مصر، حيث أمدّ المجموعة بـ 30 جواز سفر و بالأموال، من أجل التنقل إلى الإسكندرية و منه إلى ليبيا انطلاقا من برسى مطروح، يضيف المجاهد.
و ذكر المجاهد بوطمين أن مهمته، رفقة الطلبة، استمرت لحوالي شهر في ليبيا على الحدود الشرقية للجزائر، و قد كانت تتمثل في نقل السلاح بالشاحنات إلى غاية منطقة بن قردان بتونس، بمرافقة من الحرس التونسي الذي كان يقوم بعمله بشكل «جيد»، و هنا يستذكر «عمي لخضر» كيف كان يتم إخفاء السلاح بين أكياس الفول السوداني، و كيف اضطر مع رفاقه، من شدة الجوع، إلى أكله دون أن يشعروا حتى بأنه لم يكن مُقشرا أو محمصا، مضيفا أنهم كانوا يلجأون إلى مدينة جربة بتونس من أجل الاستحمام و تنظيف ملابسهم داخل مزرعة قدّمها جزائري للثوار، حيث قال إن ذلك كان يتم ليلا و تحت الحراسة، قبل أن يلتقط أحد الكتب التي ألّفها من الطاولة و يرينا بعض صور المجموعة التي أظهرت شبابا يافعا ارتسمت الابتسامة على وجوههم، رغم ظروف الحرب و خطورة المهمة التي كانوا يُؤدّونها آنذاك.
"تمرُد"فانضمام للثورة!
و قد ظل الطلاب على هذه الحال ينقلون السلاح من الحدود الجزائرية عبر ليبيا، لكن حلم الانضمام للثورة داخل الوطن المُحتل ظلّ يراودهم، و جعلهم يقرّرون الإضراب في نهاية سنة 1956، و هو تحرّك دفع بالقيادة إلى أن تسند لهم مهمة التدريب في استعمال السلاح، لكنهم لم يقبلوا ذلك و أصروا على موقفهم، يضيف “عمي لخضر”، قبل أن يُعلق “أردنا الذهاب للجزائر و تسليحنا».
و رغم ما كان لهذا الرفض من خطر على حياتهم بسبب «التمرد» على أوامر الولاية الثانية التي كانت مُمثلة، حسب محدثنا، في المجاهد «السي مجذوب»، إلا أن الطلبة ظلّوا مُضربين، لتُرسل إليهم لجنة تحقيق «عزلتهم و بحثت معهم»، قبل أن يتقرر السماح لهم بدخول الجزائر للالتحاق بالثوار، حيث قال عمي لخضر بابتسامة “فرحنا بالقرار”.
في نفس السنة، يضيف المجاهد، تم تعيين “السي لخضر” كضابط كاتب للقيادي رابح لوصيف الذي كان يطلق عليه الرفاق اسم «الأمة»، لأنه كان يتلفظ بها بكثرة، و قد كان رابح “الأمة” حينها أحد مسؤولي ناحية القل بالولاية التاريخية الثانية، و تمثلت وظيفة المجاهد بوطمين، في الاطلاع على الرسائل التي تصل من القسمات و كتابة تقارير عن الأحداث بالمنطقة و الاتصال بقادة الثورة الأعلى رتبة، و كذلك تسجيل الأعمال الفدائية و العسكرية بكل أنواعها، بالإضافة إلى تلخيص ما يرد من القسمات ثم تسليمه للمسؤول و أيضا كتابة رسائل يمليها عليه القائد و تتضمن توجيهات و أوامر للثوار.
بين اللوح و الكوخ تٌكتب الرسائل!
هذه المهام جعلت المجاهد بوطمين بمثابة “العلبة السوداء” لقادة الثورة بالولاية التاريخية الثانية التي كانت تضم قسنطينة، جيجل، سكيكدة، عنابة، قالمة و سطيف و ميلة، حيث أخبرنا أن الكتابة كانت تتم باليد و أحيانا بواسطة الآلة الراقنة، و تبدأ جميع الرسائل بعبارة “بسم الله الرحمان الرحيم»، ثم “هذا ما أسجله حسب رسائل من مختلف الأقسام الموجودة بناحيتي».
عندما صار المجاهد علي كافي قائدا بالولاية الثانية، عمل معه “السي لخضر” من سنة 1958 إلى مارس 1559 في المهام نفسها، ثم مع العقيد صالح بوبنيدر أو «صوت العرب»، اللقب الذي كان يطلقه عليه الثوار، و في جميع المراحل كان العمل يسير بـ “سرية تامة»، حيث أخبرنا لخضر جودي بوطمين أنه هو الوحيد الذي اطلع على مضمون الرسائل، و قال بحزم “المسؤولية كانت كبيرة جدا»، قبل أن يستطرد «العمل مع صوت العرب كان الأفضل بالنسبة لي، لأنه كان صريحا و مؤمنا بالنصر، فجاء النصر على يده فعلا .. معه بلغت الرسائل مرحلة العمل الجماهيري الإداري».
قبل أن نغادر و نتركه وسط ذكرياته التي تظهر في كل شبر من المنزل من خلال الصور و الشهادات المعلقة، أخبرنا «عمي لخضر» أنه لم يعمل في مكتب مجهز كأي كاتب عادي، فقد تحدى رفقة الثوار كل المصاعب، حيث كان «مقرّه» في  تاكسانة وسط الغابة و في العراء بعيدا عن أعين المستعمر، حيث كان يجلس أرضا ليخطّ على الأوراق الرسائل، مستندا على لوحة يضعها على رجليه، كما أضاف أن العملية كانت تسير بتنظيم محكم مهما كانت الأحوال الجوية و أينما كان متواجدا، ففي حال هطول الأمطار أو تساقط الثلوج بتلك المنطقة شديدة البرودة، يتم اللجوء إلى الأكواخ، و ذلك وسط حراسة مشددة يضمنها الجنود على بُعد عدة أمتار لتجنب مباغتة العدو لهم.                                             
ي.ب

الرجوع إلى الأعلى