يعد أحد الفدائيين الذين حكم  عليهم الاستعمار الفرنسي بالسجن المؤبد، عانى ويلات الاعتقال طيلة سبع سنوات في الداخل والخارج، احتك بالقادة الأوائل في الشمال القسنطيني، واستطاع أن يحفر اسمه في عمق التاريخ من خلال عملية فدائية أطاحت بأحد أهم عقداء الاحتلال في ذلك الوقت، إنه الفدائي والمجاهد عمي الطاهر سميرة.
زرنا الفدائي عمي الطاهر سميرة بمنزله الكائن بالمدينة الجديدة علي منجلي، أين استقبلنا ليعود بنا إلى قصة كفاحه ضد المستعمر الفرنسي كونه أحد الفدائيين الذين استطاعوا في بداية ثورة التحرير المجيدة  تنفيذ عمليات ناجحة كانت بمثابة بداية كفاح متواصل   طيلة سبع سنوات ونصف.
وترجع فكرة انضمام عمي الطاهر لصفوف جبهة التحرير وجيش التحرير الوطنيين إلى بداية سنة 1955، بعد أن عرض عليه ابن خالته الفكرة، موضحا أن قريبه المجاهد المدعو علي فرقاطي طرح عليه الاقتراح ليصطحبه في وقت لا حق نحو إحدى المراكز، أين قابل المجاهد علي زعموش والذي رحب به في صفوف جيش التحرير الوطني كفدائي مكلف بتنفيذ عمليات بوسط مدينة قسنطينة.
الالتحاق بالنظام وبداية العمل الفدائي

ويقول عمي الطاهر: «كان سني وقتها لا يتجاوز 25 سنة، كما أنني كنت جديد العهد بالزواج، وأقطن مع أبي وأمي، بمسكن بسيط بمنطقة سركينة، كما أنني وقتها لم أكن أعرف القراءة والكتابة، ولكنني أدركت أهمية العمل المسلح، ووافقت بسرعة على عرض ابن خالتي، والتحقت رفقة مجموعة من الفدائيين بالعمل المسلح تحت إشراف عدد من القادة العظماء على غرار مسؤولي المباشرين عواطي مصطفى وعلي زعموش».وما هي إلا فترة قصيرة جدا حتى طلب من عمي الطاهر بحسب ما يرويه الالتحاق بغابات جبل الوحش وبالضبط بمنطقة «العزازلة» أين تتواجد مزرعة لعائلة بوخلخال، وهي مكان يحتمي به المجاهدون وحولوه إلى مركز للقيادة تشرف على العمليات العسكرية والفدائية التي تجري على مستوى المدينة وكامل الشمال القسنطيني، موضحا أن أول عملية تم تكليفهم بها كانت ضمن سلسلة هجمات 20 أوت 1955.
ويروي عمي الطاهر: «كان الاتفاق أن نلتقي بإحدى المقاهي على مستوى حي عوينة الفول، ومع اكتمال عددنا ركبنا سيارات وتعمد القادة تمويه الموكب، حيث تم إيهام عناصر الشرطة الفرنسية بأننا بصدد التنقل لأحد الأعراس، ثم توجهنا نحو منطقة جبل الوحش، قبل أن نكمل ما تبقى من مسافة فاصلة عن مزرعة بوخلخال على أرجلنا، وقد تطلب منا الأمر جهدا وصبرا طويلين، حيث سرنا قرابة خمس ساعات متواصلة إلى أن وصلنا إلى المركز الذي كان شديد الحراسة».

وتابع محدثنا: «بعد أن استرحنا قابلنا ضابطين كبيرين أعتقد أنهما مسعود بوجريو وزيغود يوسف، وقد كلفت رفقة شخص آخر يدعى عبد القادر بوزيتونة بتفجير فندق «ليغورج» بحي باب القنطرة أين يتواجد قائد عسكري فرنسي برتبة عقيد يدعى  تيرسي ، وقد تسلمنا قنبلة تزن أكثر من 5 كلغ، وضعناها داخل قفة وموهناها من فوق بالتبن، كما تم منحي بندقية رشاشة، وكانت الأوامر أن يضع زميلي القنبلة بمكانها ويشعل الفتيل، فيما أقوم بحمايته من خلال قتل أي شخص يحاول الاقتراب».ويروي عمي الطاهر ما قام به رفقة زميله: «كانت القنبلة ثقيلة جدا، وقد كنا نتناوب على حملها من المركز إلى غاية المدينة»، وهنا قاطعته زوجته: «لقد قاما بجلب القنبلة إلى المنزل كانت داخل قفة مصنوعة من الحلفة ومن فوق تمت تغطيتها بالتبن»، وتابع عمي الطاهر: «لما وصلنا للفندق تقدم عبد القادر نحو المكان المحدد ووضعنا القنبلة وغادرنا بسرعة، وبعد ثواني قليلة انفجرت مخلفة دمارا هائلا بالمكان، كما مكنت العملية من قتل الكولونيل المذكور، وكان لنجاحنا في تنفيذها أثر ايجابي على المجاهدين بينما خلقت خوفا كبيرا لدى العسكر الفرنسي».وبعد ذلك عاد عمي الطاهر لمنزله وانقطعت عنه الاتصالات لفترة قصيرة قبل أن يتم استدعاؤه لتنفيذ عملية أخرى تتعلق بقتل أحد الخونة وذلك بالقرب من مقهى برحبة الجمال، حيث تم التنقل إلى المكان غير أن عمي الطاهر لم يتمكن من تنفيذ العملية بسبب وجود عدد كبير من المدنيين، إذ يقول أنه ورغم الحرب إلا أنه كان هنالك حرص وتعليمات صارمة من قيادة الجيش بعدم التسبب في إيذاء المدنيين.
يوم الاعتقال ورحلة طويلة مع التعذيب
الضربة الموجعة التي وجهتها عملية اغتيال الكولونيل «تيرسي» جعلت من الاستعمار الفرنسي يستنفر كامل إمكاناته للإطاحة بمنفذي الهجوم، حيث تمكن من اعتقال عدد من الفدائيين والمجاهدين تباعا إلى أن وصل الأمر إلى عمي الطاهر، حيث يقول: «كنت في ذلك اليوم أعمل بشكل عادي بمشروع سكني بحي السيلوك، أين كنت أشتغل كمعاون بناء، وأتذكر أن ما يفوق 60 رجل شرطة طوقوا المكان وانتشروا حوله إلى أن وصلوا إلي، واقتادوني إلى الساحة أين انهال علي العشرات منهم بالضرب والسب، قبل أن يوجه أحدهم لي ضربة بواسطة ذراع البندقية، تسبب لي في نزيف حاد، ولم أنجو إلا بعد تدخل أحد الضباط»، مضيفا: «لقد تم اعتقالي ولم يمر على ولادة ابني الأول مولود سوى أربعين يوما، ولم أره من يومها إلا بعد الاستقلال وقد صار عمره 7 سنوات وقد تكفل أبي وأمي وزوجتي برعايته طوال تلك الفترة».
ويواصل عمي الطاهر: «نقلت بعدها للعلاج ومن ثم نحو مركز الشرطة بالكدية مقر الأمن الولائي حاليا واحتجزت في زنزانة تحت الأرض، وقد كان عناصر الشرطة ينقلونني يوميا من مكان احتجازي نحو المحكمة العسكرية بالقصبة من أجل الاستجواب، أين خضعت لحصص استنطاق مرفقة بالتعذيب عن طريق الكهرباء، الماء والصابون، وقد كنت رفقة عدد كبير من المجاهدين والفدائيين نواجه ويلات التعذيب طيلة 8 أيام كاملة، قبل أن نوجه للمحاكمة العسكرية، أين صدرت أحكام بالإعدام في حق 5 شهداء بينهم علي زعموش و عواطي مصطفى، بينما صدر في حقي حكم بالسجن المؤبد، وقد تناولت الصحافة الفرنسية بإسهاب وفرح كبيرين قضيتنا».

وبعد النطق بالحكم تم توجيه عمي الطاهر سميرة نحو سجن الكدية، حيث تزامن ذلك مع مرور سبعة أيام فقط عن هروب القائد مصطفى بن بولعيد من جحيمه، حيث قضى ما يزيد عن 17 شهرا في المعاناة في ظروف احتجاز غير إنسانية، غير أن حياته لم تتوقف عندها فقد استطاع بصبره وتعاون المسجونين بتعلم القراءة والكتابة، وهو يدين بذلك للإمام والعالم الكبير وقتها الشيخ بلقاسم البيضاوي إذ يقول عمي الطاهر: «كان الشيخ البيضاوي يؤم المعتقلين بسجن الكدية، وقد أشرف على تدريسنا اللغة العربية وتحفيظنا القرآن الكريم، وأنا أدين له في ذلك، كما علمنا الأرقام والحساب، وإلى جانب ذلك تعلمت الخياطة وقد قمت ببعض الأعمال وذلك حتى أتمكن من تجاوز الإرهاب النفسي الذي مورس علينا، كما أن زوجتي كانت تمدني بالخيط أيام الزيارة».
بعد مرور فترة تم تحويل عمي الطاهر نحو سجن «لومبيز» بباتنة أين قضى حوالي 6 أشهر في ظروف احتجاز أكثر قساوة، إذ لم يكن يسمح للمعتقلين بالخروج من الزنزانات الانفرادية للساحة لأكثر من ساعة طيلة النهار، موضحا أن الأمر استمر على هذه الحالة طيلة فترة احتجازه، كما أنه لم يتمكن من التواصل مع عائلته قبل أن يتم ترحيله مرة أخرى نحو سجن آخر، ولكن هذه المرة نحو سجن بمدينة مرسيليا بفرنسا، وهو المكان الذي قضى به أطول مدة احتجاز بلغت حوالي أربع سنوات، كما تميزت بكونها فترة عسيرة جدا.ويروي عمي الطاهر سميرة أنه خلال تواجده بسجن مرسيليا الصغير التقى بالمجاهد الكبير ياسف سعدي، حيث اختير من طرف المعتقلين الجزائريين لتمثيلهم لدى إدارة السجن، قبل أن يغادر نحو مؤسسة عقابية أخرى، وأوضح عمي الطاهر: «سجن مرسيليا لم يكن أقل قساوة من نظيره بالجزائر، حيث يقدم لنا أكل أشبه بما يتم تقديمه للحيوانات، كما أن المعاملة كانت سيئة جدا، أضف إلى ذلك عدم قدرته التواصل مع العائلة أو معرفة أخبارهم إلا من بعض الرسائل القليلة والتي تكاد تعد على أصابع اليد الواحدة.
ومع نهاية سنة 1961 رحل عمي الطاهر مرة أخرى نحو سجن تولون أين قضى حوالي 6 أشهر في المعتقل، وهنا أوضح أن الظروف كانت أحسن من سابقتها كما أنها تزامنت مع بدء المفاوضات بين الجزائر وفرنسا، وعند حديثه حول هذه الفترة يقول: «كنا نسمع من وقت إلى آخر أن هناك مفاوضات بين جبهة التحرير الوطني وفرنسا، غير أننا لم نكن نعلم فحواها، لكن الأمور بدأت تتضح شيئا فشيئا مع مرور الوقت إلى غاية إقرار وقف إطلاق النار، قبل أن يتم إعلامنا بترحيلنا نحو أرض الوطن غداة الإعلان عن الاستقلال، وأتذكر أننا قضينا يومنا كله في الرقص و ترديد الأغاني الوطنية بالسجن، إلى أن رحلنا نحو ميناء مرسيليا ثم عبر باخرة نحو ميناء عين تيموشنت».
وعن رحلة العودة إلى المنزل يقول عمي الطاهر، أنها كانت طويلة جدا إذ بعد التحفظ على العائدين بإحدى المراكز بمدينة عين تيموشنت لحوالي 12 يوما: «ركبنا بعدها حافلات نحو ولاية وهران، ومنها نحو مدينة العاصمة، ثم سطيف مرورا ببرج بوعريريج، قبل أن أصل إلى قسنطينة حيث قضيت قرابة الأسبوع في هذه الرحلة التي تعتبر قصيرة في يومنا هذا، وقد وجدت احتفالا كبيرا ببيتنا، كما أنني التقيت لأول مرة مع ابني الذي وجدت أنه أصبح كبيرا وعمره تعدى 7 سنوات».       
عبد الله بودبابة

الرجوع إلى الأعلى