سوق العصر ..بوابة مفتوحة على التاريخ وملاذ فقراء قسنطينة
لا يمكن لمن يزور قسنطينة أن يخرج منها دون أن يدفعه الفضول للمرور عبر  ساحة تتوسط نسيجا عمرانيا متشعبا يجمع بين الطابع الكولونيالي والبيوت العتيقة وأحياء سكنها اليهود، سوق العصر أو سوق الزوالية كما يحلو للقسنطينيين تسميته، ليس مجرد فضاء تجاري بل هو تلك النقطة التي تحكي الكثير عن تاريخ المدينة وتعايش الأديان بها، وعن يوميات مجاهدين اقتيدوا لثكنة القصبة المجاورة أين كتبت آخر السطور في صفحات حياتهم.. كل القصص دارت في فلك تلك الساحة التي تعج بالمتسوقين والباعة الفوضويين اليوم وتشهد تزاحما يوميا لمن ظلوا متمسكين بالمكان بحثا عن شيء من عبق قسنطينة الذي لا يجدونه في تلك المراكز التجارية الضخمة التي تنمو هنا وهناك تسمع أصوات الباعة و هم يهتفون مروجين لسلعهم على بعد أمتار طويلة من أقدم الأسواق بمدينة قسنطينة، سوق العصر الذي زادت شهرته بفضل مسجد سيدي الكتاني المقابل للساحة التي احتضنته منذ عهد صالح باي المدفون و أفراد من عائلته هناك. هذا السوق المعبق بعراقة الماضي و صخب الحاضر، عرف كذلك باسم سوق "الزوالية" أو الفقراء، رغم أنه في الواقع يستقطب كل الفئات، فقد كان و لا يزال مقصد السكان من داخل و خارج الولاية لخصوصيته، باعتباره أشبه بمجمع تجاري مترامي الأطراف يجد فيه قاصده كل ما يبحث عنه بدء بالخضر و الفواكه و اللحوم و الأسماك إلى الأقمشة و جهاز العرائس و كل المستلزمات الأخرى.
ربورتاح  : مريم / ب
 ما لاحظناه خلال جولتنا بهذه الساحة العريقة أنها كانت  كانت مكتظة عن آخرها بدء من الشوارع المؤدية إليها كشارع الأخوة منتوري "رو انطوان زيفاقو"سابقا و الذي يربطه بحي ديدوش مراد المعروف باسم "شارع فرنسا " أو شارع عمار السطايفي أو نهج 19ماي المعروف باسم "روشيفاليي" و ساحة "آندري بيكي" إضافة إلى حي الشارع القديم.
تزاوج بين التجارة الفوضوية و النظامية
أكثر ما يلفت الانتباه في هذا السوق تمازج التجارة النظامية  و الفوضوية، حيث تنافس طاولات الباعة الفوضويين الأجنحة المخصصة للتجار الشرعيين بسوق الخضر و حتى بمحلات بيع الأقمشة و جهاز العرائس التي تحيط بالساحة و الواقعة أسفل عمارات سكنية قديمة تخفي بين جدرانها ذكريات تاريخية لا زالت أحداثها راسخة في أذهان الكثير من سكان الحي، أهمها إعدام المجاهدين بالمقصلة بعد جرهم إلى القصبة مرورا بإحدى المسالك المطلة على ساحة بوهالي السعيد  التي يفضل الكثيرون الحفاظ على اسمها القديم سوق العصر أو " ساحة نيغريي سابقا" و كذا مقتل المطرب اليهودي "ريمون ليريس" و غيرها من الأحداث التي لا زال يتذكرها السكان القدامى و المشايخ.
سوق العصر الذي تحوّل إلى سوق مغطى في بداية الثمانينات بعد أن كان مفتوحا يعرض الباعة فيه سلعهم أرضا أو على طاولات صغيرة لا ترتفع كثيرا عن مستوى الأرضية القديمة المشكلة من الحجارة المصقولة، تم تقسيمه أيضا إلى خمسة أروقة، خصص أربعة منها لبيع كل أنواع الخضر و رواق آخر لبيع الزيتون و المخللات تتوّزع حولها محلات ضيّقة لبيع الأسماك تجاورها محلات لبيع الأفرشة و الأقمشة و التي يصل عددها التسعة، أما من جهة مسجد سيدي الكتاني التي تنتشر بمحاذاته محلات كثيرة تخصص أغلبها في نفس النشاط التجاري، أما القليلة المتبقية فيختلف نشاطها بين بيع الحقائب و الإكسسوارات و الأكل السريع،  وأكثر ما يجذب الانتباه هي طاولات الباعة الفوضويين المنتشرة كالفطريات في كل زاوية خارج السوق المغطاة و على امتداد الأزقة الضيقة المؤدية إلى هذه الساحة.
فالزبائن و رغم الاكتظاظ الكبير يجدون متعة في انتقاء أغراضهم و مقتنياتهم دون ملل أو انزعاج، فبعضهم يقلب الخضر و يسأل عن سعرها و بعضهم الآخر يتدافع لأجل شراء بعض الفواكه الموسمية التي يصرخ بائعوها "كول يا فقير" إشارة إلى سعرها المنخفض مقارنة بباقي الأسواق، أما النساء فتجدهن منكبات على طاولات بيع الستائر و الأغطية و كل ما يتم عرضه على الأرض أو على طاولات صغيرة بجوار مداخل المحلات التي سمح الكثير من ملاكها و مستأجريها لأنفسهم حق استغلال جزء من الشارع لعرض سلعهم هم أيضا كطريقة لجذب الزبائن.
مكس بـ50دورو للتجار و دينارين لباعة الخضر
أكد الباعة بأن السوق قبل إعادة تهيئته و تحويله إلى سوق مغطى سنة 1985، كان عدد الباعة فيه لا يتجاوز الأربعين بين الستينات و السبعينات و إلى غاية الثمانينات فيما تجاوز عددهم اليوم المائة و ثمانية بائع نظامي وزاد عدد الباعة الفوضويين به عن الخمسين، حيث سرد بائع مسن خلف والده في هذه  السوق منذ أكثر من 30سنة، كيف أن الباعة كانوا يعرضون سلعهم فوق طاولات لا يزيد ارتفاعها عن الخمسين سنتيمترا و كانوا يدفعون للمكاس ثمن تأجير الحيّز الذي يشغلونه و الذي لم يتجاوز وقتها الدينار أو الدينارين، مرة كل سنة، و هو ما أكده أيضا صاحب أحد أقدم المحلات هناك التاجر بن عويشة الذي قال أنهم كانوا هم أيضا يدفعون "50دورو" (عملة قديمة)للمكاس مقابل استغلال جزء من الرصيف بمدخل محلاتهم، و أضاف متحدثا عن تاريخ الساحة و قال أن ملاك أغلب المحلات التجارية بسوق العصر كانوا من اليهود  تذكر منهم اسم "فال أو فحل" و تجار آخرين غادر أغلبهم المكان بعد مقتل الفنان ريمون بطلقة نارية أردته قتيلا بينما كان متوّجها من  شارع فرنسا إلى السوق رفقة ابنته بمسلك ضيق كان يعرف سابقا باسم "رو زيفاقو"، و استرسل مؤكدا بأن  محلات التسع المحيطة بساحة بوهالي أو سوق العصر كانت متخصصة في بيع "الشيفون" في عهد الاستعمار قبل شرائها أو استفادة ملاكها الجدد  منها بعد الاستقلال و منهم منتوري، حناش، عويشة، محسن، عليش، عميرش و غيرهم و الذين اختاروا تجارة بيع الأقمشة و الأفرشة عموما.
و قال بائع الخضر كاسحي مسعود بأن أكثر أبناء المدينة و بشكل خاص أبناء المدينة القديمة لا زالوا أوفياء للمكان خاصة في شهر رمضان رغم انتقال أغلب السكان للعيش بالمدينة الجديدة علي منجلي.
و قالت عجوز من سكان الحي بأن تجارة اللحوم و الأسماك كانت رائجة بهذه السوق حيث كان يتم ذبح الدجاج بالساحة و تباع كل أنواع الأسماك الطازجة التي يتم حملها على ظهور البغال و الخيول إلى غاية المكان الذي لم يتغيّر كثيرا عما كان عليه من حيث التوافد الكبير للزبائن.
"غار التوانسة" ذاكرة اللاجئين عبر الحدود الشرقية
الغريب أن الكثير من الباعة الذين سألناهم عن تاريخ هذا السوق و أصل تسميته أكدوا لنا عدم علمهم بذلك ، عدا تاجرين تقاربت المعلومات التي قدماها بخصوص مدى عراقة هذه السوق، حيث أكد أحدهم أن تاريخه يعود إلى ما قبل عهد صالح باي الذي أمر بإعادة بناء مدرسة سيدي الكتاني التي يعود اسمها إلى المربي و المصلح و الولي الصالح الكتاني عبد الله بن الهادي بن يحيى المتوفي عام 490هجري و الذي دفن و بني له ضريح و مسجد و مدرسة قرآنية سنة 1725 و الذي يوجد به إلى يومنا هذا ضريح صالح باي و 12فردا من عائلته، و قد حوله الاستعمار الفرنسي إلى محكمة عسكرية تم محاكمة قائدا الثورات الشعبية الشيخ المقراني و الحداد بها. أما عن سر تسميته بسوق العصر فرجحوا أن تكون الساحة تمتلئ بالتجار و الباعة بعد صلاة العصر، و ترّدد المصلين بمسجد سيدي الكتاني الذي تحوّل اليوم إلى معهد وطني لتكوين الأسلاك الخاصة بإدارة وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، من أئمة وأساتذة التعليم القرآني والأعوان الدينيين من مؤذنين وقيمين.
و ثمة أحداث كثيرة أخرى لا زالت تحتفظ بها ذاكرة المكان كاحتضان الجهة الشمالية للساحة للاجئين التونسيين بعد الاستقلال و الذي لا زال البعض يطلق على "الصاباط" الفاصل بين البيت الذي كان يأويهم و هو ملك لعائلة بن جلول و سوق الشعبي اسم غار "التوانسة" و المؤدي إلى "لا رو شيفاليي"  أو نهج 19ماي مثلما ذكر بعض التجار.

الرجوع إلى الأعلى