ملاءة سوداء وصورة تدفعان  بلويزة القسنطينية  إلى الواجهة
كانت صورتها أحد عناوين الحدث الثقافي العربي الذي احتضنته قسنطينة قبل سنة، و اختزلت تجاعيد وجهها الناعم و ملايتها السوداء، سحر المدينة في صورة عجوز تعشق المسرح و تهوى الفنون، لويزة هي تلك القسنطينية الجميلة التي سحرت نظرتها الحالمة الرصينة أبناء المدينة و زوارها طيلة سنة كاملة، تحولت خلالها إلى نجمة بفضل لحظة مسروقة، قابلناها بمحاذاة المسرح الذي تعشق ركحه، فكانت لنا معها جلسة طويلة حدثتنا خلالها عن حياتها وعن ذكريات الزمن الجميل و سنوات الصبا، وكيف تحولت من عجوز بسيطة إلى وجه إعلاني أحبه الجميع.
نجومية دون استئذان
لويزة أو فاطمة سعدوني، 73 عاما، امرأة مسنة لم تدخل المدارس يوما، ابنة حارس ليلي و أم لابنة واحدة ثمرة زواج  لم يعمر طويلا، امرأة بسيطة لم تنصفها الحياة، لكنها لم تهزم ابتسامتها و حبها للفن و الجمال، تحولت في لحظة عابرة إلى نجمة إعلانات ظهرت صورتها على شاشات التلفزيون الوطنية و العربية و علقت صورها على واجهات العمارات و الجدران و زينت الكتيبات التوجيهية، و تلك الخاصة بروزنامة السنة الفارطة، وغيرها من المطبوعات الأخرى التي أعدت في إطار تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية، كل ذلك دون علمها، فالنجومية التي حظيت بها خلال السنة الماضية، زارتها دون استئذان. شهور عديدة مرت، قبل أن تدرك بأن صورها معلقة على الجدران، فهي، كما أخبرتنا، لم تلتق بمن التقط لها الصور ، و حتى وان كانت قد لمحته وهو يصورها، فهو لم يستأذن منها أولا، و لم يكشف لها عن الغرض من تصويرها، إلى أن فوجئت بصورها منتشرة في كل مكان.
 أخبرتنا خالتي لوزيرة بأنها تذكر ذلك اليوم، فقد غادرت مقر عملها في حدود الساعة العاشرة و النصف صباحا، و جلست لتستريح قليلا  في حديقة دنيا الطرائف، قبل أن تواصل طريقها، هناك لمحت شابا يلتقط صورا و كانت صورها بين ما التقطته عدسته، لكنها لم توليه اهتماما كبيرا، لأن صحتها و سنها لا يسمحان، بعد أشهر قليلة فوجئت  بصورتها معلقة وسط المدينة، لكنها لم تعرف لماذا و بمن تتصل للاستفسار، إلى أن اخبرها بعض معارفها بأنه إعلان خاص بالمدينة. محدثتنا قالت بأن الشهرة لم تؤثر على حياتها البسيطة رغم كل شيء، لأن غرضها كان نبيلا، و حبها لقسنطينة  قد شفع للمصور.
قصة امرأة بسيطة مع الحياة
خلف تلك النظرة الحالمة الهائمة التي أحبها الكثيرون، و رأوا من خلالها قسنطينة أيام عزها و شبابها، و تحت تلك الملاية السوداء التي شحب لونها بسبب غبار السنين، تختبئ امرأة ذات عينين خضراوين و ملامح جميلة تحتفظ بأثر الرقي و  «العز»، فخالتي فاطمة التي ولدت، كما أخبرتنا، بحي بوالوصوف قبل 73 سنة، كانت الابنة الثانية لرجل لم يدخر جهدا في تدليلها، وكان يصفها بالأميرة نظرا لجمالها و رقتها، خصائص جعلتها تدخل قفص الزوجية و هي في 13 من العمر، و ارتبطت بأحد أعيان المدينة و كان يبلغ من العمر 40 عاما، وهو حرفي «قزادري» كان يملك محلا مكنه من الإنفاق عليها بشكل مقبول، إلى غاية اكتشافها بأنه متزوج من امرأة أخرى،ما جعلها تطلب منه أن يطلقها. و تم الطلاق فعلا و عادت إلى منزل أهلها وهي تحمل وحيدتها بين يديها. قالت خالتي لويزة:» عشت لفترة في منزل أهلي و توفي والدي، و كانت أمي تعيلنا من معاشه، لقد عانينا كثيرا أنا وشقيقتي بعد وفاة والدنا و والدتنا بعده و بسبب جهلنا ضاعت منحة تقاعد والذي ولم نستفد منها رغم وضعيتنا الصعبة. اضطررنا بعد ذلك للخروج إلى العمل، لقد عملت لسنوات عديدة كمدبرة منزل و عاملة نظافة في منازل اليهود و النصارى خلال فترة الاحتلال الفرنسي لبلادنا، كان اليهود يعيشون في شارع طاطاش بلقاسم، أما النصارى فمعظمهم يسكنون حي المنظر الجميل. لا أخفي عليكم بأن عشرتهم كانت طيبة، فهم أناس صادقون و لا يغشون، أخلاقهم أحسن بكثير من أخلاق بعض المسلمين».
 و تواصل محدثتنا : « بعد الاستقلال انتقلت للعمل في مجلس قضاء قسنطينة كعاملة نظافة، كان راتبي يقدر 400 دج، وهو مبلغ يعتبر كبيرا في تلك الفترة، فمكنني من شراء الكثير من الحلي الذهبية، حتى أن أسناني كلها تقريبا كانت مغلفة بالذهب، لكن لا شيء يدوم، لقد تعرضت لحادث مرور و نقلت إلى المستشفى ومكثت هناك لمدة، لقد تسبب الحادث المشؤوم في إصابتي بإعاقة على مستوى ساقي، لا تزال تعيق تحركاتي إلى يومنا هذا. بعد ذلك عدت إلى المجلس فأحالوني على التقاعد بحجة بلوغي 60 عاما، ولم يمنحوني أية وثيقة تثبت سنوات عملي، لذلك عانيت كثيرا للحصول على المعاش. كنت في البداية أحصل على  1000 دج شهريا و بعد تقدمي بشكاوى عديدة رفعت إلى  2000 دج، ثم توقفت عند مبلغ 7000دج، و لم يتم رفعها إلى غاية اليوم».
 و استطردت قائلة :» لأسباب خاصة وجدت نفسي دون منزل، فاضطررت لبيع  كل مجوهراتي و اشتريت منزلا في حي القصبة أعيش فيه حاليا ، ولتحسين ظروفي بدأت العمل كمنظفة في مكتبين للتوثيق يومين كل أسبوع ، مقابل 1000دج عن كل مكتب».

أعالت مسنا محتاجا رغم فقرها
من يعرفون خالتي لويزة اعتادوا على رؤيتها برفقة شيخ طاعن في السن غاب عن رفقتها مؤخرا، سألناها عنه فأخبرتنا بقصته، إنه رجل غريب عنها تعدى عمره 99 عاما، ماتت زوجته في حادث مرور و تخلى عنه أبناؤه الذين رفضوا حتى حضور جنازته عندما توفي. لقد كان أصما و كفيفا و يعاني من داء الرعاش، أحضرته إليها واحدة من معارفها و طلبت منها أن تستضيفه في منزلها و تعيله لوجه الله، فوافقت رغم فقرها. و قالت محدثنا بأنها  آوته و لبت كافة احتياجاته من أكل و شراب لسنتين تقريبا، كما كانت  تصطحبه معها إلى المسرح و مختلف المحطات الفنية، قبل أن توافيه المنية في العام الماضي.
«قسنطينة الهمة و الشان» بعيون لويزة
 خلال حديثنا إليها كانت خالتي لويزة ترحل بذاكرتها بين الفينة و الأخرى إلى أيام الشباب و الصبا بقسنطينة، وهي الأيام التي ولدت خلالها علاقتها القوية مع الفن. لقد بدأت تحديدا عند سن 7 سنوات، حيث كانت، كما قالت، تدأب على حضور الحفلات التي تقام أسبوعيا في الحديقة المعروفة اليوم بدنيا الطرائف.  قالت محدثتنا: « كانت هناك حانة كبيرة جزءها السفلي مخصص للنصارى، أما العلوي فللعرب، حضرت حفلات كثيرة هناك لعيسى الجرموني، بوكرطوسة، بقار حدة، عائشة القالمية ، الحاج محمد الطاهر الفرقاني و فرق من سوق أهراس و خنشلة، فضلا عن كبار مشايخ المالوف، على غرار عبد القادر الدرسوني  و الشيخ التومي».
 « المسرح يعد حديثا في قسنطينة»، كما قالت، مضيفة: كانت نشأته بمثابة حدث، لذلك فقد اعتدت مشاهدة كل عروضه، أحيانا أكون الوحيدة التي تحضر  المسرحيات مع منفذيها و منتجيها، ورغم كل الظروف لم أهجره يوما، فأنا أعتبره جزءا من تاريخ المدينة، أعتبر قسنطينة هي « بلاد الهمة و الشان» .
و ذكرت محدثتنا بأنها لا تزال تتذكر عرسها و كل العادات و التقاليد المرتبطة به، رغم أنها كانت طفلة عمرها 13 عاما، فالعروس القسنطينة كانت تعامل كالاميرة قبل أن تغادر بيت أهلها . و كان للحمام طقوسه و للحناء طقوسها.
 و أضافت بأن جارتها اليهودية سيلفا هي من وضعت الحناء في يديها الصغيرتين مع قطعتين من الذهب أو « السلطاني»، فالسلطاني و المقياس كانا من الحلي الأساسية بالنسبة لكل عروس قسنطينية، و الثريات كن يجمعن  قطع السلطاني ليشكلن المحازم التقليدية . أما الأقل ثراء فكن يزين بها طرابيشهن «الشاشية أو «التقريطة».
 محدثتنا أكدت بأنها و إلى غاية اليوم لا تزال تحتفظ في منزلها بكل الأواني النحاسية التقليدية التي تعد ضرورية في كل منزل قسنطيني،حسبها، على غرار  «السني و السينية و المهراس و الكيروانة و قصعة النحاس و المحبس و الوضاية»، معلقة: «إنني أرى من خلال لمعانها صور الزمن الجميل و أيام العز و الصبا».
 نور الهدى طابي

الرجوع إلى الأعلى