بن حمودة نجا من الموت مرتين و رفض الحراسة الشخصية
* لم يكــــــــن يقــــــــرأ إلا بالعربيــــــــة و أشــــــــخاص تاجــــــروا باغتيالـــــه
إنه ابن اللبان الذي عشقه الجزائريون، فمنهم من لا يزال يحتفظ بصورته معلقة على أحد جدران بيته، و منهم من أطلق اسمه على ابنه البكر تيمنا به، فعبد الحق بن حمودة هو عنوان النضال النقابي الذي كان تأثير خطاباته يشبه مفعول الأفيون، ما جعل منه زعيما وطنيا في نظر الطبقات العمالية الكادحة، و "بعبعا" يخافه البيروقراطيون، هو في الحقيقة إنسان بسيط، عطوف، صديق للفقراء، محب للفن و متعصب لكرة القدم، كما وصفه مقربون منه للنصر.
جمعتها : نور الهدى طابي
الفقيد  لا يزال اسما يحرك الوسط العمالي رغم مرور عشرين سنة على حادثة اغتياله الشنيعة، لأنه كان النقابي المهاب والوطني الصادق.
صديق العمال الذي عاش ظروفهم
عبد الحق بن حمودة ،كان إنسانا مرحا  ومتدينا و محبا للفن، وهي صورة تختلف عن تلك الصورة التي ربطها به الكثيرون والتي قدمته للعالم كرجل صارم وحاد الطباع وسياسي، يعيش بين أسوار المركزية النقابية، هكذا وصف الحاسن بن حمودة شقيقه الراحل.
أما صديقه بوجمعة رحمة، فقد أكد بأنه كان متواضعا و بسيطا، يرفض التنقل للعاصمة على متن الطائرة من أجل اجتماعات المركزية النقابية، و يفضل أن يستقيل سيارات الأجرة أو يسافر بسيارته من نوع " أر 4"، لكي لا يصنع حاجزا نفسيا بينه وبين الطبقات العمالية التي أحبها ودافع عنها، فقد عاش حياة لا تختلف عن حياة الموظفين البسطاء، و دخله الوحيد كان راتبه كمعلم و من ثم كمدير مدرسة.
كان مرحا ومنضبطا
يتذكر الحاسن الشقيق الأصغر لشهيد المبادئ عبد الحق بن حمودة، بأن الفقيد كان إنسانا مرحا لا يتوقف عن المزاح و  يجد دائما  فرصة لتوظيف النكت في كلامه، و كان يحب مداعبته، حتى أنه كسر له إصبعه يوما وتسبب له في عاهة طفيفة، هي كما عبر التذكار الوحيد الذي تركه له قبل رحيله المبكر.
يقول محدثنا " أخي تمتع منذ الصغر بشخصية قوية، و كان شديد الانضباط، يحترم والدي  كثيرا و يناقشه في كل شيء، بما في ذلك أمور الدين، فوالدي اللبان البسيط كان من أهل الذكر، ربانا على الإيمان و الانضباط ، لذلك ظلت علاقة شقيقي بدينه قوية، مع ذلك كان إنسانا منفتحا محبا للحياة و للفن يعشق أغاني الطرب الأصيل و يستمع لأم كلثوم و فريد الأطرش، أما الشخصية الأقرب إلى قلبه، فكانت الرئيس الراحل هواري بومدين" .
و يواصل حديثه" اهتماماته النقابية بدأت بعد التحاقه بسلك التعليم، فقد كان مدرسا بالطور الابتدائي، وهي تجربة وضعته في مواجهة مع تعسف بعض الإداريين، ولأنه رجل صارم و صريح يكره الظلم، قرر النضال من أجل حقوق العمال و انخرط مباشرة في العمل النقابي، و استمر كذلك حتى بعدما تولى إدارة إحدى مدارس حي  سيدي مبروك، و هي مدرسة " حمودي" ، ليتوسع في نشاطه كمناضل و ينتقل إلى العاصمة، بعد تنصيبه على رأس الأمانة المركزية للاتحاد العام للعمال الجزائريين.
كثرة انشغالاته لم تثنه يوما عن زيارة المنزل، و الاستمتاع بتناول طبق "الشخشوخة" الذي يفضله و يطلبه خصيصا من يد الحاجة والدتي، و كانت تطالبه بتخفيف حدة خطابه، بسبب خوفها عليه من نفسه ومن قوته، لكنها في الوقت ذاته ، كانت تشعر بفخر كبير كلما شاهدته أو سمعته وهو يتحدث".
يحب المقاهي و يقاسم  الفقراء طعامه
يتذكر الحاسن بأن شقيقه كان شديد الكرم و التواضع، انتقاله الى العاصمة لم يغير شخصيته ،وهو نفس الوصف الذي أكده صديقه في النضال النقابي بوجمعة رحمة، الذي جمعته به صداقة عمرها سنوات عديدة، حيث كان أول لقاء بينهما في الاتحاد المحلي وسط، عندما انتخب هو أمينا للتنظيم، بينما اختير بن حمودة كأمين عام للاتحاد، قبل أن يستلم  محدثنا الأمانة العامة، و ينتقل المرحوم إلى المركزية، عقب انتخابه على رأسها، بفضل حنكته و ذكائه المتقد وقدرته القوية على الإقناع و إدارة الحوار.
 حسب رحمة فإن، بن حمودة كان يصنف المسؤولين و الإطارات الإداريين بالمؤسسات، على أنهم عمال و يعاملهم على هذا الأساس،  ما أكسبه احترامهم، رغم أنه خاض العديد من المعارك مع مسؤولين بقسنطينة و العاصمة، من أجل العمال، وهو ما زاد من شعبيته و رفع عدد المنخرطين في صوف الاتحاد بفضل الثقة التي زرعها فيهم، حتى أنه لم يلجأ يوما إلى أي إجراء عقابي ضد أي مناضل، بل كان يفضل الحوار و التكوين.
طيبته، كما أضاف محدثنا، انعكست على تعامله مع من حوله، فبابه ظل مفتوحا أمام السائلين، خصوصا و أنه اختار دائما التواجد في الأماكن العامة،  و لم ينأ بنفسه عن البسطاء، و تابع "أذكر أننا كنا نحب الجلوس بالمقاهي الشعبية  ب"الكافي ريش"، مقهى رحبة الصوف و "لاسيتي مزيان"، أين يعرفه الجميع، فمن أراد التوظيف قصده وكان يلبي طلبه  إن استطاع، ومن أراد السكن كان يطلب عونه، حتى أنه كان يتدخل على مستوى البلديات لتسهيل بعض الإجراءات الإدارية للمواطنين ، و كثيرا ما أشركه الناس في قضايا الزواج و الطلاق لأنهم أحبوا حكمته. أما علاقته بالقضاة و المحامين فكانت متشعبة، نظرا لهوسه بالقانون الذي تعلم مواده، خصيصا لنصرة العمال".
 و أكد " أذكر أنه كان حساسا تجاه الضعفاء و الفقراء في إحدى المرات اشترى بعض الخبز للغذاء بطلب من زوجته، وفي طريقه إلى المنزل، شاهد متسولا فأعطاه الخبز، و عدنا أدراجنا إلى المخبزة، لكي يشتري الخبز مجددا".
حافظ للقرآن ومحب لكرة القدم
حسب السيد الحاسن، فإن عبد الحق بن حمودة لم يكن يطالع سوى الصحافة الناطقة باللغة العربية، فبالرغم من تحكمه في الفرنسية، إلا أنه كان وطنيا بدرجة كبيرة، والفضل في ذلك، كما قال صديقه بوجمعة رحمه، يعود لكونه ابن المدرسة الجزائرية، فهو لم يدرس في المدارس الفرنسية بسبب كرهه للاستعمار، وتمسكه باللغة و الهوية الوطنية ، وقد كان محبا لدينه يقضي وقت فراغه في حفظ القرآن الكريم و تلاوة آياته.
أما خلال تواجده بقسنطينة، فكان  يجد دائما وقتا للعب كرة القدم التي يحبها، و كذا مناصرة فريقه المفضل مولودية قسنطينة، و من فرط ولائه للفريق، تنقل كثيرا رفقة أصدقائه يحيى قيدوم و ديابي لمناصرة الفريق في مبارياته خارج  الولاية.
نجا من الموت مرتين ورفض الحراسة الشخصية
يقول شقيق المرحوم، بأن أخاه تعرض للتهديد مرارا ، و ظلم من أقرب الناس إليه، فإمام الحي، أين كان يقيم بشارع قيطوني " رود بيانفي"، هاجمه بشدة و شكك في أخلاقه و روج عنه أنه تخلص من والده و ألقى به في دار العجزة، الأمر الذي حز في نفس عبد الحق الذي كان متواجدا آنذاك في العاصمة، لذلك قرر شقيقه الأكبر  المجاهد أحمد بن حمودة أن يواجه المدعين، فذهب إلى الإمام و فاتحه بالموضوع، وكانت لتلك المواجهة تبعات سلبية، إذ اغتيل الإمام بعد فترة من اللقاء، ثم قتل عبد الحق الذي عاش، كما قال المتحدث، تحت وطأة التهديد، إذ كانت تصله رسائل مجهولة و مكالمات هاتفية عدوانية، وكانت حياته دائما على المحك، مع ذلك لم يتوقف يوما عن زيارة المنزل العائلي ، حتى بعد وفاة شقيقه و والده.
و يواصل الحاسن بن حمودة سرد الأحداث " أذكر أنني ذهبت لزيارته يوما في العاصمة، فلم أتمكن من الدخول إلى مكتبه إلا بشق الأنفس، على اعتبار أن المحيطين به كانوا يجهلون بأنني شقيقه، خضعت لإجراءات مشددة قبل أن أصل إليه ، و لولا تدخله لما سمح لي بالدخول، لذلك عندما أتذكر هذه الحادثة، أشك في ظروف مقتله، فكيف للمحيطين به أن يتخلوا عنه و يتركوه فريسة سهلة بساحة دار الشعب، بعد ما رأيت منهم حرصا شديدا على حياته سابقا؟".
يؤكد  بدوره بوجمعة رحمة ، بأن الفقيد تعرض للتهديد بمختلف أشكاله، حتى أن أتباع الحزب المحل خلال مسيرتهم الشهيرة بقسنطينة كانوا يرددون عبارة " يا طاغوت سوف تموت"، في إشارة إليه، كما أنه نجا مرتين من محاولة اغتيال، كانت الأولى في القبة و الثانية في طريق سطاوالي، قبل أن يتمكنوا  منه في نهاية المطاف.
يقول " مشكلته أنه كان شخصية عنيدة تعايش مع التهديدات، وكأنه أراد الشهادة في سبيل الوطن، ورغم محاولات قتله كان يسلك يوميا الطريق  نفسه، و يقضي الليل في منزله، حتى أنه تعمد التخلص من الحراسة التي خصته بها الدولة، بعد تعرضه لمحاولة القتل الأولى، كان يقول لي  أين حياتي و حياتك من حياة الوطن".
مشروع حزب التجمع الوطني الديمقراطي وفكرة النضال الجديد
يؤكد بوجمعة رحمة، بأن عبد الحق بن حمودة كان صاحب اللبنة الأولى في مشروع إنشاء حزب التجمع الوطني الديموقراطي، فالفكرة سكنته بداية التسعينات، تحديدا بين 1994 و 1996عندما بدأت الأوضاع تسير نحو الأسوأ في الجزائر، خصوصا و أن حل الاتحاد العام للعمال الجزائريين، كان مطلبا أساسيا للحزب المحل.
و حسب المتحدث، فإن بداية التعددية الحزبية، رافقها انكماش في تأثير القاعدة النقابية في الحياة العامة، كجبهة هدفها خدمة المواطن البسيط و العامل و حماية الوطن ، "مع ذلك حاول الفقيد حماية هذا التنظيم  والحفاظ على ثقله، بتأسيس  فضاء سياسي  بعيد عن النقابة، يجمع كل الأطراف الراغبة في خدمة الجزائر ويسترجع التيار الوطني، وهي حركة جاءت مع قدوم الرئيس الأسبق اليامين زروال و شملت مثقفين و صحفيين و عمال و فلاحين و مناضلين سابقين بجبهة التحرير الوطني، وقد باشرنا العمل ونظمنا تجمعات  ومسيرات عديدة، بادر بعدها بن حمودة الى تأسيس اللجنة الوطنية لإنقاذ الجزائر، لكن أيادي الغدر أوقفت مساره واغتالته ذات 28 جانفي 1997"،كما قال رحمة.
في ختام حديثه عن شقيقه الراحل، أكد الحاسن بن حمودة، بأن اسم الفقيد خدم الكثير من الانتهازيين بعد وفاته،  فهناك من تاجروا به و حققوا مكاسب شخصية على حساب نضاله و شهامته، حتى أن البعض توصلوا إلى درجة الادعاء بأنهم أفراد من عائلته، ليتمكنوا من استغلال صفة القرابة المزعومة في تحقيق مآرب شخصية و مكاسب غير مشروعة و الوصول إلى مناصب.                 
ن.ط

الرجوع إلى الأعلى