يطرح مشكل الضجيج في مدننا خلال السنوات الأخيرة كأحد الملوثات البيئية ذات الانعكاسات السلبية على مستوى معيشة المواطن، مشكل أصبح سببا في الكثير من أمراض العصر، خصوصا في ظل النمو الديموغرافي المضطرد و فوضى العمران و ارتفاع عدد السيارات و الاستعمال غير العقلاني للأبواق، بالإضافة إلى المفرقعات و البارود و قاعات الحفلات في المناطق السكنية، باعتبارها أحد مصادر الإزعاج التي يصعب التحكم فيها. بالرغم من أن المشرع الجزائري ضبط قوانين خاصة لحماية المحيط العام والتقليل من الصخب،  إلا أنه يطرح كمشكل صحة عمومية، كما أكده خبراء و باحثون في الصحة و العمران والتسيير الحضري في هذه الندوة التي تتناول موضوع الضجيج في المدن الجزائرية، أسبابه و انعكاساته و آليات الحد منه.
رصدتها : نور الهدى طابي
شراف أنيس جريدي مختص في تسيير التقنيات الحضرية
المشكل   من مسببات الإرهاق والعصبية
يصف الأستاذ بكلية تسيير التقنيات الحضرية بجامعة قسنطينة 3، شراف أنيس جريدي ، مستوى معيشة المواطن الجزائري في المحيط الحضري بالمتدهور، بسبب الضجيج الذي يعد نوعا من أنواع التلوث، وذلك على اعتبار أن معايير منظمة الصحة العالمية تضبط الحد الأقصى للضجيج في المحيط الحضري عند 70 ديسيبالا، و إذا تجاوز ذلك يصبح خطرا على الصحة، بينما لا يجب أن يتعدى 35 ديسيبالا في الفضاءات المغلقة كالمنازل مثلا، وهي معايير لا تحترم في مدننا بسبب ضعف تقنيات التعمير التي لا تأخذ آليات التحكم في الضجيج بعين الاعتبار و لا تخضع عملية البناء لدراسة استشرافية.
 إن الضجيج الذي تسببه مؤثرات مختلفة، قد بات متعبا ومسببا للإرهاق والقلق والعصبية  وفقدان التركيز، لأنه يؤثر مباشرة على المراكز العصبية التي تصبح مضطربة و تتلف وظائفها، وقد يصاب الشخص في هذه الظروف بأمراض وعاهات مستديمة، كما تنقص مردوديته المهنية، ما يتسبب في انهيار الاقتصاد.
 و هناك، حسبه، الكثير من الأشخاص الذين يعملون في ورشات يسود فيها الضجيج مصابين بالصمم، ويسمى الصمم المهني الذي يعد من الأمراض المهنية التي تعوضها مصالح التأمين.
 من جهة ثانية، يضيف المختص بأن التحكم في الضجيج أصبح اليوم معيارا من معايير التطور و الحضارة ، لأنه ينعكس على نمط عيش الفرد و صحته، لذلك يتوجب على المهنيين في مجال العمران، وضع آليات للوقاية من الضجيج أثناء إعداد مختلف مخططات التعمير، سواء الخاصة بالبنايات أو المساحات العمومية.

البروفيسور حسن بن ميسي مختص في التسيير الحضري
الصخب في المدن الكبرى مشكل صحة أخلاقية  
 يعتبر البروفيسور حسن بن ميسي، أستاذ باحث بمعهد تسيير التقنيات الحضرية، بأن الصخب أو الضجيج هو مشكل صحي و أخلاقي في مدننا، لأنه ينعكس على السلامة الجسدية و الذهنية للمواطن، و هو قبل ذلك نتاج لنقص الوعي.
فالمدن التي يتجاوز عدد سكانها 100 ألف نسمة، تخلق فيها حركية كبيرة و تتضاعف تدريجيا بسبب الأنشطة البشرية و السيارات، ما يخلق مشكل الضجيج الذي يبدو بسيطا لأنه حسي، لكنه يخلف آثارا كبيرة قد تصل حد الصمم.
 الضجيج مشكلة مطروحة بقسنطينة التي يتعدى عدد البشر فيها يوميا عتبة المليون نسمة، حسبه، كونها مدينة ميتروبولية تضم 100ألف سيارة خاصة و 4آلاف سيارة أجرة و 200 ألف حافلة، كما أثبتت دراسة أجريت في هذا الإطار، و بينت نتائجها بأن الصخب يعد مشكل حقيقي في هذه المدينة.
وقد شملت الدراسة محاور حركية رئيسية كحديقة بن ناصر « لابريش»، باب الواد، محور الدوران بحي بوالوصف ، محور الدوران بجنان الزيتون، ومحور الدوران بحي الدقسي، و اتضح من خلال المعاينة اليومية، بأن الضجيج في حدود الساعة التاسعة صباحا  يعادل 60ديسيبالا وهو مقياس مقبول صحيا، لكنه بعد الساعة الواحدة يقفز إلى 75ديسيبال، وهي نسبة تعد مزعجة و حتى خطيرة، لأنها تتعدى معايير منظمة الصحة العالمية ب5 درجات كاملة.
و يرجع الباحث السبب في ذلك، إلى  قاعات الأفراح الموجودة في المحيط السكني، و السيارات و الاستخدام اللاعقلاني للأبواق، فضلا عن قدم الحافلات الذي يتعدى عمرها أحيانا 20سنة، رغم أن الدراسات تشير إلى أن العمر الأدنى للسيارة هو5 سنوات، و كلما زاد بأربع سنوات، تزيد نسبة إزعاجها بحوالي 6ديسيبالات.
من جهة ثانية، فإن مجتمعنا لا يحترم، كما عبر، القوانين، فالسكن مندمج بشكل غير صحي في الفضاء الاقتصادي و الأحياء قريبة من الطرقات السريعة، و المواطن لا يتمتع بوعي كبير تجاه مشكل الضجيج، و يجهل بأن المشرع الجزائري أصدر في 2003 قانونا يضبط الحد الأقصى للصخب في المحيط الحضري بـ 70 ديسيبالا.
وهذا القانون، حسبه، موجود لكن المشكلة تكمن في غياب آليات ميدانية لتفعيله، وهو نفس الطرح الذي تبنته أيضا البروفيسور سميرة دباش، مشيرة إلى وجود فراغ قانوني حقيقي في ما يخص إجراءات تفعيل هذا التشريع، عكس ما هو معمول به في باقي الدول كمصر مثلا، أين توجد ضريبة على استخدام منبه السيارة.

الأستاذة بكلية الهندسة المعمارية سميرة دباش
المعايير محترمة في النسيج الحضري القديم ومنعدمة في المدن الجديدة
تؤكد البروفيسور سميرة دباش، أستاذة بكلية الهندسة المعمارية و العمران بقسنطينة، بأن المدن الجزائرية غير مطابقة لمعايير البناء بمفهومها الواسع، فهي لا تحترم تقنيات العزل الصوتي بأي شكل، لذلك يعاني سكانها من مشكل الضجيج الذي يصنف كشكل من أشكال التلوث.
 و حسب دراسة ميدانية أجرتها الباحثة مؤخرا واعتمدت فيها على مقارنة بين المدينتين القديمة و الجديدة بقسنطينة، حيث أن النسيج الحضري القديم يعد أكثر احتراما لمعايير التحكم في الضجيج، مقارنة بالمدينة الجديدة، فالمنازل القديمة رغم أنها مدمجة بشكل مباشر في الفضاء التجاري، إلا أنها معزولة بطريقة غير مباشرة من خلال الممرات الضيقة و المتشعبة التي تؤدي إليها، فضلا عن أنها هندسيا صممت لتعزل المرأة و بالتالي صوتها، فهي مفتوحة على الداخل أي نحو» وسط الدار» ، و لا تملك سوى نوافذ أو منافذ بسيطة و ضيقة باتجاه الخارج، بمعنى أن الهندسة في حد ذاتها، تمتص الضجيج و تمنع وصوله للمنزل.
و تقدر نسبة الضجيج في المنازل القديمة ،حسبها، بـ 25 ديسيبالا، وهي نسبة أقل من المعيار المحدد عالميا كحد أدنى و قدره35 ديسيبالا، بالمقابل فإنه يتعدى ذلك إلى 45 ديسيبالا في بنايات المدينة الجديدة، لذلك فسكان هذه المنازل كانوا أكثر هدوءا لأن الضجيج لديه انعكاسات مباشرة على التركيبة النفسية للفرد، ومن هنا يأتي التأكيد على أهمية التوعية بمشكل الضجيج كأحد المشاكل الاجتماعية الصحية والحديث عن آليات محاربته ، خصوصا في ظل توفر دراسات مهمة تعنى بهذا الأمر بالجامعات و المعاهد.
 وترجع الباحثة السبب وراء فقدان التحكم في مشكل الضجيج، إلى آليات البناء و التعمير في حد ذاتها، و الميل أكثر إلى الكم على حساب النوع ، فضلا عن أن عملية بناء المدن والأحياء ، لا تعتمد على عمل منسق واستشرافي ، لأنها تقصي دور علماء الاجتماع و المهندسين المتخصصين و الباحثين في الاقتصاد  وحتى الفيزيائيين، الذين من شأنهم تصور مستقبل المكان بعد سنوات، و بالتالي ضبط آلية للتحكم في الضجيج الذي سينجر عن تطور الحياة و الذي سيواجه أي مسعى للتحكم فيه لاحقا عراقيل تقنية صعبة.

البروفيسور جمال بن ساعد مستشفى ديدوش مراد
 من أسباب الإصابة بالأمراض المزمنة
يؤكد البروفيسور جمال بن ساعد، رئيس مصلحة الوقاية و علم الأوبئة بمستشفى ديدوش مراد بقسنطينة، بأن غياب الدراسات في مجال الضجيج و انعكاساته على الصحة في الجزائر، حال دون إدراج الصخب كمشكل صحة عمومية، ضمن الخارطة الصحية لبلادنا، بالرغم من أن للضجيج علاقة تراتبية بالإصابة بالأمراض المزمنة، لأنه يحفز التوتر و القلق وهي عوامل مباشرة تؤدي إلى الإصابة بهذه الأمراض.
و قال الأخصائي، بأن المشرع الجزائري تناول مشكل الصخب ضمن قوانين تنظيم المحيط العام وحمايته، وذلك بداية من فيفيري1983،  وهناك، حسبه، نص تشريعي خاص آخر صدر في جويلية 1993تناول أضرار الضجيج، وبعدها جاء قانون 2003  ليؤكد نفس الطرح، مع ذلك يبقى مشكل التحكم في الصخب و الحد منه راجع لغياب تفعيل حقيقي لهذه القوانين، أي غياب نصوص تنفيذية تشرح كيفيات العمل بها، بالرغم من أنه في مجال الصحة هناك حالات تتأثر كثيرا بالصخب، خصوصا الأشخاص المصابين بالأمراض المزمنة و الاضطرابات العصبية، وهو ما يلاحظه الممارسون في المجال، خصوصا في السنوات الأخيرة مع ارتفاع عدد السيارات و زيادة النشاطات و الورشات و ما يترتب عنها من ضجيج، لا يجد الفرد حلا للتخلص منه، لأن الفضاءات العامة المفتوحة كالحدائق، مدمجة هي أيضا في المدينة بعمرانها و طرقاتها و بالتالي فإنها غير ملائمة للراحلة الحسية.
وهنا يشدد الباحث على أهمية توعية المواطن بالدرجة الأولى بخطورة الصخب، ومن ثمة حث السلطات العمومية على التدخل للتحكم فيه من خلال تطبيق القوانين و وضع، لما لا ،جهاز لمراقبة الأحياء، يكون بمثابة خارطة صخب تحدد الأماكن الأكثر عرضة للضجيج، ومن ثم التوجه لإجراء دراسة سوسيولوجية وعمرانية هدفها إيجاد حلول مناسبة للمشكل.

الرجوع إلى الأعلى