يستغرب الأطباء المختصون لجوء الكثيرين إلى تفسير الاضطرابات العقلية التي تظهر على المرضى، بمسّ من الجن، و يؤكدون أن مثل هذه الاعتقادات الخاطئة التي غذّتها الثقافة السائدة في المجتمع، أدت بالكثير من الأشخاص المصابين بالفصام و غيره من الأمراض، إلى ارتكاب جرائم شنيعة كان يمكن تفاديها بمراجعة طبيب مختص، يأتي ذلك في وقت ما تزال مشكلة نقص الأطباء المختصين في الأمراض العقلية بالجزائر مطروحة، حسب الآراء التي جمعتها النصر على هامش المؤتمر المغاربي السادس حول الطب العقلي الحر الذي احتضنته قسنطينة أمس.
أعدت الندوة: ياسمين بوالجدري
رئيس الجمعية الجزائرية الفرنسية للأمراض العقلية الدكتور محمد طالب
الاضطراب العقلي سببه تغيرات في الدماغ و ليس الجن!
يؤكد الدكتور محمد طالب رئيس الجمعية الجزائرية الفرنسية للأمراض العقلية، أن قرابة 30 بالمائة من الجزائريين يعانون من اضطرابات عقلية من بين أخطرها الاكتئاب الحاد، كما استغرب ربط بعض قضايا القتل بـ «تأثير الجن» على الجُناة و قال إن العلم لا يعترف بمثل هذه التفسيرات، بل أوجد أجهزة طبية توّصلت إلى أن كل اضطراب سببه تغيرات تطرأ على الدماغ.الدكتور طالب و إن أكد غياب أرقام دقيقة حول عدد المصابين بالأمراض العقلية ببلادنا، أوضح أن الإحصائيات العالمية تُبيّن أن 30 بالمئة من سكان كل بلد يشكون من هذه الاضطرابات، 1 بالمئة منهم مصابون بالفصام أو انفصام الشخصية، فيما يعاني من تبقوا من أمراض أخرى، تبدأ من نوبات القلق و تتدرّج من حيث الخطورة إلى أن تصل للاكتئاب الحاد الذي يمكن يؤدي بصاحبه إلى الانتحار. و أوضح المختص أن الاكتئاب يُعدّ المرض العقلي الأكثر انتشارا ببلادنا، و يمس لوحده قرابة 9 بالمئة من مجموع السكان، لكن درجة خطورته تتفاوت، إذ توجد حالات يمكنها العيش معه شرط متابعة علاج طبي أو نفسي، و أخرى خطيرة جدا تمنع أصحابها من ممارسة حياتهم بشكل عادي، و عن الأسباب، يرجع الدكتور طالب الاكتئاب إلى عدة عوامل أولها العامل الوراثي، يليه التوتر و مشاكل الحياة مثل الطلاق و فقدان العمل أو الأزمات المالية، و كذلك ما يحدث في فترة الطفولة كسوء المعاملة أو فصل الطفل عن والديه أو التعنيف و تعرضه لاعتداء جنسي.و عن ربط الجرائم التي أصبحت تُرتكب في مجتمعنا باسم الجنّ و الشعوذة، قال الدكتور باستغراب إن الطبيب لا يؤمن بذلك و لم يرصد يوما الجن في عمليات التصوير بالأشعة للدماغ، مؤكدا وجود دلائل علمية و تقنيات ابُتكرت منذ 20 سنة، تسمح بتصوير التغيرات التي تحدث في دماغ الإنسان و تفسير بعض الحالات، فهناك، مثلما يشرح، أمراض عقلية و نفسية تحدث نتيجة خلل عضوي في عمل إحدى مناطق المخ، هذا الأخير الذي يعمل حسب البيئة، لذلك فهو يتأثر بها.
بالمقابل، يرى الدكتور أن الجزائر التي يزيد عدد قاطنيها عن 40 مليونا، لا تتوفر على العدد الكافي من الأطباء المختصين في الأمراض العقلية، فهي بحاجة، كما أضاف، إلى ما يقارب 1200 طبيب عمومي و خاص، مقدما مثالا عن فرنسا التي ينشط بها 15 ألف طبيب أمراض عقلية يغطون 60 مليون نسمة، كما أشار الدكتور إلى عجز في عدد الأسرّة بمستشفيات الأمراض العقلية، ببلاد شاسعة مثل الجزائر، إلى درجة أن هناك أماكن يتطلب قاطنوها قطع 300 كيلومتر للوصول إلى هذه المستشفيات، لذلك يجب تطوير هذا التخصص عن طريق التكوين.

الدكتور بلعيدي الهواري المختص في الأمراض العقلية
ربط الأمراض العقلية بعالم خفي أخرّ علاج الكثير من الحالات
يرى الدكتور بلعيدي الهواري المختص في الأمراض العقلية، أن العديد من الاضطرابات العقلية التي يعاني منها أفراد المجتمع، سببها اختلالات في العلاقة بين الطفل و بيئته، كما يؤكد أن الكثير من المرضى تأخروا في تلقي العلاج أو أنهوا حياتهم بجريمة، بسبب عدم تشخيص حالاتهم و ربطها مباشرة بالجنّ.و ذكر الدكتور بلعيدي أن مراجعة طبيب الأمراض العقلية لم يعُد اليوم من الطابوهات ببلادنا، كما لم يعُد يُنظر لمستشفى الأمراض العقلية على أنه ذلك المكان المخيف، مضيفا أنه و كصاحب عيادة خاصة بوهران، يستقبل الكثير من الحالات كغيره من الزملاء، موازاة مع انفتاح المؤسسات الاستشفائية العمومية على المعاينات،  و إقرار مشاريع لإنجاز عدد أكبر من المؤسسات المتخصصة في طب الأمراض العقلية. و عن أكثر الحالات التي تستقبلها عيادته، أكد الدكتور بلعيدي أنها تتمثل خصوصا في المدمنين على الأنترنت و الأدوية المهلوسة، و كذا الأشخاص الذين تعرّضوا إلى صدمات في العشرية السوداء، زيادة على من يشكون من اضطرابات ناجمة عن المشاكل الاجتماعية المتعلقة بالسكن و العمل و غلاء المعيشة، فيما أصبحت بعض المؤسسات التربوية توجه التلاميذ الذين تظهر عليهم أعراض كثرة الحركة و مشاكل التركيز، إلى الطبيب المختص.الدكتور بلعيدي أوضح بأن عالم الجن موجود لكنه خفيّ و من الخطأ الاعتقاد أنه وراء الاضطرابات العقلية و النفسية، مُرجعا هذا الاعتقاد إلى ثقافة المجتمع الجزائري التي أصبحت تربط كل شيئ بالجن، فكثيرا ما يظن البعض بأن الشخص الذي يتكلم مع نفسه مُصاب بمسّ من الجن، مع أنه مريض فصام، و هو وضع يضيف الدكتور، أدى إلى تأخر علاج العديد من الحالات منذ بداية ظهور أعراض المرض، مقدما مثالا عن حالة الأم التي قتلت ابنيها بقسنطينة قبل أشهر، حيث قال بأن مرضها لم يشخص في وقته و تم أخذها للراقي رغم أنه لا يمكن أن يفعل لها شيئا، مُرجحا أن تكون قد أصيبت بالذهان النفاسي أو اكتئاب ما بعد الولادة.و يؤكد المختص أن القليل فقط من حالات العنف المتفشية في المجتمع الجزائري سببها اضطرابات عقلية، مُرجعا الظاهرة إلى «نقص التحضر» و إلى مشاكل تبدأ مع الفرد منذ مرحلة الطفولة، على اعتبار أن الأسرة هي النواة، و أي اختلالات بها، خصوصا في العلاقة مع الوالدين، تؤثر على الشخص لاحقا.

الدكتور شويط أخصائي أمراض عقلية بقسنطينة
أكثر مُرتكبي الجرائم مرضى عقليا
كشف الدكتور شويط أخصائي طب الأمراض العقلية بقسنطينة، أن الكثير من الجرائم التي يشهدها المجتمع الجزائري، ارتكبها مرضى عقليا لم يتلّقوا العلاج اللازم في المراحل الأولى من الإصابة.و أوضح الدكتور للنصر أن أكثر الجرائم يتبيّن أن سببها الأول الحالة الصحية و النفسية للأشخاص، حيث يرتكبونها و هم مرضى مسبقا، لكن المجتمع يجعلهم، كما أضاف، يتناسون المرض و يذهبون إلى طرق ملتوية غير صحية من أجل العلاج، و من بينها اللجوء إلى الرقاة، مُبتعدين بذلك عن العلم الذي يضع أعراضا واضحة تفسر بها الأمراض، و تتابع من طرف أطباء أخصائيين و نفسانيين للتوصل إلى علاج نهائي.

رئيس الجمعية الجزائرية لأطباء الأمراض العقلية الخواص الدكتور فريد بوشان
40 ألف جزائري مُصاب  بـ «السكيزوفرينيا»
يكشف الدكتور فريد بوشان رئيس الجمعية الجزائرية لأخصائيي طب الأمراض العقلية الخواص، أن قرابة 1 بالمئة من الجزائريين مُصابون بمرض الفصام أو “السكيزوفيرنيا»، بما يمثل حوالي 40 ألف شخص، متحدثا عن تسجيل نقص في عدد الأسرّة لفائدة المرضى بالمؤسسات الاستشفائية المختصة.
و ذكر الدكتور بوشان أن الطب الحديث توّصل إلى دراسات جديدة فيما يخص التشخيص و علاج المصابين بالأمراض العقلية، سواء من الناحية البيولوجية أو العصبية، و هي تطورات قال إن الجزائر مواكبة لها، و سمحت للمريض بتلقي العناية الطبية اللازمة، لكنه تحدث عن “مشكلة عويصة”، تتمثل، برأيه، في نقص عدد المؤسسات الاستشفائية المختصة في طب الأمراض العقلية، فعند الاستقلال كان هناك ألفي سرير عبر الوطن، و هو عدد قال الدكتور بأنه تقلّص مع مرور الوقت، بعد أن أخذت أجزاء من هذه المستشفيات إلى مصالح أخرى، غير أنه أكد أن السلطات انتهجت في الخمس سنوات الأخيرة، سياسة جديدة تشمل إنجاز مستشفيات مختصة و مراكز وساطة، خاصة مع ظهور آفات جديدة، مثل الإدمان.
و أكد الدكتور بوشان للنصر أن مرض الفصام، الذي تتمثل بعض أعراضه في الفشل في تمييز الواقع و الهلوسة، يمس 1 بالمئة من السكان، حسب الإحصائيات الدولية، بما يعني أن 40 ألف شخص مصاب به في بلادنا التي تضم 40 مليون نسمة، مضيفا أن المستويين المعيشي و الصحي للجزائريين تطور و أصبح المواطن لا يتردد في مراجعة طبيب أمراض عقلية. و في تعليقه على ظاهرة تجوّل “المجانين” في الشوارع و خاصة بالمدن الكبرى، أوضح الدكتور أن الظاهرة قلّت مقارنة بما كنا نراه في السنوات الماضية، مشيرا إلى ضرورة التفريق بين الأشخاص دون مأوى و بين المصابين بأمراض عقلية.

أخصائيون من تونس
هناك توجه لإدخال الشق النفسي في علاج المريض
ذكر أخصائيون في طب الأمراض العقلية من تونس، أن العالم يتجّه إلى إدخال طرق جديدة لا تعتمد فقط على الأدوية في علاج المريض عقليا، بل تشمل أيضا الجانب النفسي، بما يستلزم إخضاع الأطباء لتكوين إضافي.و قال الدكتور احسن العاتي رئيس الجمعية التونسية للطب النفسي بالقطاع الخاص، أنه و مع تقدّم الطب، توصّلت آخر الأبحاث إلى ضرورة وجود تكامل بين العلاج الكيميائي و النفسي للمريض عقليا، بما يمكن أن يُحدث نتائج أكثر إيجابية، لكن بعد إخضاع طلبة تخصص الأمراض العقلية إلى تكوين في هذا الخصوص، مضيفا أن دول المغرب العربي و من بينها الجزائر، مواكبة للتطور الحاصل.أما الدكتور حسام لويس، عضو الجمعية التونسية للطب النفسي الحر، فيرى بأن مستوى الطب العقلي في الجزائر و تونس و المغرب متقارب، إذ تتوفر هذه البلدان على نفس الإمكانيات من حيث العلاج، كما ارتفعت بها عمليات التشخيص و صارت أسهل و أسرع، و هو ما ساهم في تشخيص أكبر عدد من حالات الاكتئاب الناجمة بالأساس عن تغير نمط الحياة، و عن الضغوطات التي قد تكون، حسبه، اجتماعية أو سياسية أو مادية. و عن تأثيرات الثورة التونسية على الفرد التونسي، أكد المختص أن بعض المصالح الاستشفائية سجلت، بعد اندلاعها، ارتفاعا بـ 30 بالمئة في نسبة الوافدين لمصالح الأمراض العقلية و النفسية، بسبب فترة اللاأمن التي شهدتها البلاد و خلّفت خوفا على المستقبل و الحياة، قبل أن يعود الوضع إلى الاستقرار.

الرجوع إلى الأعلى