القصبة .. أزقة تحفظ ذاكرة المحروسة
عندما تزور الجزائر العاصمة، لا شك بأن أهم ما سيجلب انتباهك هو منظر حي "القصبة" العتيق بطابعه المعماري الفريد وهو يولي وجهه صوب البحر في شموخ، ما يدفعك لزيارته و التجوال في أزقته و دروبه الضيقة التي ستشم فيها حتما رائحة التاريخ وعبق الماضي، و ستستمتع بمعالمه التاريخية، التي لا تزال شاهدة على ذاكرة الجزائر، لكنك في نفس الوقت ستشعر بحرقة كبيرة عندما تجد أن الكثير من أبنية "القصبة" لم يبق منها سوى الجدران، و ستتأسف كثيرا عندما يحدثك سكانها الطيبون، بحرقة أيضا عن تقاليد جزائرية عريقة أوشكت على الاندثار، على غرار تلك المرتبطة بشهر رمضان.
روبورتاج: عبد الحكيم أسابع
رحلة بحث عن شهود على بقايا التاريخ‮
عندما زرت حي القصبة الذي بناه العثمانيون في القرن 16 الميلادي، في صباح أحد أيام شهر رمضان، انطلاقا من مدخل باب جديد، تفاجأت بأن أغلب الأزقة تكاد تكون خالية، سوى من بعض المارة الذين يهرولون نحو وجهاتهم المختلفة، فيما لا تزال أغلب المحلات موصدة، خلافا لأيام زمان.
سألت أحد الذين صادفتهم في طريقي على مستوى مدخل شارع الشهيد عرباجي عبد الرحمان ( مارينغو – سابقا)، عن المكان الذي يمكن أن ألتقي فيه بكبار السن من السكان القدامى للقصبة، فقال لي ما عليك سوى التوجه إلى "مارشي جامع ليهود" ، و يقصد به السوق الجواري الذي يتوسط ذات الشارع، بمحاذاة جامع فارس، وهو المسجد الذي حل محل بناية المعبد اليهودي الكائن بالضبط في ساحة الموحدين.
انتظرت إلى غاية أن بدأت الحركة تدب في السوق الذي يميزه انتشار طاولات بيع الخضر و الفواكه و طاولات و محلات بيع الألبسة، التي عوضت محلات المواد الغذائية و المطاعم على طرفي الشارع شبه المستقيم الذي يوصلك نحو شارع العربي بن مهيدي.
أول من التقيت به هو السيد بشير عطية وهو فنان حرفي يبلغ من العمر 71 عاما، كان يحمل قفة من سعف النخيل، وبمجرد أن أخبرته بالمهمة التي حضرت من أجلها، أطلق العنان للحديث عن كل ما تحتفظ به ذاكرته من وهج الأيام الخوالي للقصبة التي تتكئ على هضبة تنكسر من ارتفاع 118 مترا،  تحسر لما آلت إليه و ما فقدته من تراث و تقاليد عريقة، و اندثار العديد من الحرف كصناعة النحاس و الصوف و المجبود و الذهب.

«الوافدون الجدد أغرقوا الحي في الفوضى»
قال محدثي " كانت القصبة الشاهد الحي على ذاكرة الجزائر لعقود متعاقبة، ورمزا للحرمة و اللباس العاصمي من الحايك مرمّة، و العجار  و الشبيكة والمجبود وغيرها، مما كانت تنتجه محلات الحرف اليدوية المتقنة التي تذكر بزمن يصعب اليوم محاكاته"، و أضاف "لقد تغير اليوم كل شيء، فأغلب أبناء القصبة هجروها نحو أحياء أخرى، أو تم ترحيلهم لإعادة إسكانهم، فيما لا يزال البعض يتمسك بالبقاء بها، كما أن الوافدين الجدد غيروا كل شيء، كنشاط المحلات وحتى مداخل البيوت التي كانت تميزها الأبواب الخشبية التي يمكنك أن تشم بها رائحة التاريخ ، غيروها بأخرى حديدية، بعد أن انتشر اللصوص ".
 ليس بعيدا عن مكان محدثنا الأول، صادفنا عمي أحمد نعيمي، صاحب اللحية الخفيفة التي طالها الشيب، يخرج من زقاق "خير الدين زنودة "، و فلم يتردد في دعوتنا لولوج وسط داره، بعد مضي 10 دقائق على لقائنا، لكنه طلب منا عدم التقاط صور.
عندما دخلت إلى  وسط الدار المربع الذي تشترك فيه عدد من العائلات المتجاورة، رفعت رأسي إلى الأعلى، حيث الطابق الثاني الذي ينتهي بسطح ككل البيوت، فتذكرت مسلسل "الحريق"، واستحضرت صرخات "لالة عيني" ونظرات عمر و أنين الجدة، شعرت للحظات أن تفاصيل الأشياء هنا تعيد تشكيل نفسها‮، ويعيد المشهد تركيب أجزائه‮ وتعود القصبة كما كانت‮ ولو‮ لدقائق في ذهن محدثي السبعيني الذي يصر على العيش في ذكريات الماضي‮.‬
وعندما خرجنا من المنزل المشكل، كما قال من مجموعة من " الدويرات " يتقاسمها الجيران الذين لم يصل دورهم في عمليات الترحيل، حرص عمي أحمد على مرافقتي إلى المدخل الأسفل للزقاق الذي تتكدس فيه أكوام من النفايات المنزلية وأكياس من بقايا الترميمات ، لم تتم إزالتها منذ مدة غير قصيرة ونبهني إلى أن تجار سوق "جامع اليهود " وبعض السكان اعتادوا على رمي نفاياتهم أمام مسجد فارس.
حنين لتجارة التوابل وحملات تجيير البيوت والأزقة
أكد الكثير من الذين التقينا بهم، أن عادات رمضان في الزمن الجميل تتجه نحو الاندثار، غير أن بعض العائلات لا تزال تقاوم من أجل الحفاظ على نكهة الشهر.
يروي السيد محمد زعاف، المقيم في شارع عرباجي عبد الرحمان " القلب النابض للقصبة"، شيئا مما تحتفظ به ذاكرته عن استعدادات سكان القصبة لاستقبال شهر رمضان " عندما كنا أطفالا كنا نشم رائحة رمضان قبل حلوله بأكثر من شهر، من خلال "تسابق" أصحاب المحلات التي كانت تنتشر بكثرة، على عرض كميات كبيرة من مختلف أنواع التوابل، وكان أول شيء يقوم به السكان هو التعاون في ما بينهم لتنظيف الحي، فيما تقوم فئة أخرى بجمع الأموال لشراء الجير من أجل طلاء جدران البيوت من الداخل باللون الأبيض وطلاء كل شوارع وأزقة الحي لإعطاء وجه يليق بشهر رمضان".

أما عمي بشير فقال " إن الميزة التي تنفرد بها القصبة، في شهر الصيام هي تنافس الجيران في ما بينهم من أجل دعوة المعوزين وعابري السبيل لتقاسم وجبة الإفطار معهم داخل بيوتهم ولم نكن نعرف آنذاك مطاعم الرحمة".
أما عن سهرات رمضان فقال " بعد أداء التراويح ،  يجتمع الجيران على طاولات الشاي و قلب اللوز الذي ظل السكان يحرصون على شرائه، خاصة من محل " حميد " الذي لا يزال وفيا لتحضير هذا النوع من الحلويات إلى غاية اليوم، فيما كان عشاق الفن الشعبي يسهرون في المقاهي للاستمتاع بالحفلات اليومية التي كان يحييها الراحل الحاج محمد العنقى وغيره من عمالقة الغناء الشعبي في العاصمة".
 و يتأسف عمي بشير والسيد محمد زعاف على الفوضى التجارية السائدة الآن في الحي وانتشار الأوساخ والاعتداءات التي تتم في وضح النهار وتحت جناح الليل . و قال زعاف " لقد دخل القصبة دخلاء أفسدوها وأغرقوها في الجريمة وأصبحنا نحرص على الخروج جماعيا من أجل أداء التراويح، تفاديا للاعتداءات في سكون الليل الذي غاب عنه وهج حركة الماضي، عندما كان السكان يعرفون بعضهم البعض عكس اليوم تماما".
 «البوقالات» و»المحاجيات» وسهرات زمان
أما عن الأجواء الرمضانية واستعدادات النسوة لاستقبال شهر رمضان،  تقول خالتي دوجة التي التقينا بها في محل  حميد ، المتخصص في قلب اللوز ، "تلجأ العديد من نساء القصبة باختلاف أعمارهن و شرائحهن إلى التفرغ لمختلف النشاطات المنزلية، و حياكة الألبسة التقليدية ، و كانت أغلب ربات البيوت يجتمعن في وسط الدار من أجل تحضير بعض العجائن يدويا، مثل "  الشعيرية،  و "المقطفة" و كذا تحضير الفريك و الحلويات".
و تشتهر القصبة، حسب محدثتنا، بالتفنن في تحضير أطباق " الشوربة " و المثوم و "السكران طايح فالدروج" و" لالة خداوج" و" السفيرية " و "طاجين المصران" و كذا " الطاجين الحلو".
أما خلال السهرات، حسب المتحدثة، فكانت العائلات تجتمع كل ليلة في بيت تتكفل صاحبته بتحضير القهوة والشاي والحلويات التي تكون عادة قطايف و محنشة، وخاصة مقروط العسل .
ومن الأشياء التي ظلت ميزة السهرة في رمضان القصبة، هو التفاف الفتيات العازبات حول كبيرات السن ليسمعن البوقالات، ثم يتابعن الفال بشغف. و بعد ذلك تعمد أكبر العجائز سنا، إلى سرد الحكايات القديمة  "المحاجيات"، و طرح الألغاز، و الحكم، على أن تتواصل السهرة في وسط كل دار أو فوق سطحها، بالغناء على وقع الدربوكة و الطار.
ع. أ

الرجوع إلى الأعلى