هكذا قضى  400  مجاهد على 700 جندي فرنسي و أسقطوا  20 طائرة
لم تكن معركة «الجرف» الأشم بولاية تبسة في خريف 1955 معركة عادية، ولكنها كانت الأشرس والأقوى وأم معارك ثورة التحرير لطول مدتها والنتائج التي حققتها، فقد استغرقت أكثر من 08 أيام نال خلالها جيش التحرير وسام الشرف، فيما لحق الخزي والعار بالقوات الفرنسية الاستدمارية التي لم تتمكن من تحقيق الانتصار رغم الحشود ومشاركة اللفيف الأجنبي، بحيث تروي المصادر المتواترة بأن هذه المعركة أسفرت عن قتل 600 إلى 700 جندي وإسقاط وعطب نحو 20 طائرة وإصابة 10 دبابات و30 مزنجرة، فضلا عن غنم 150 قطعة سلاح، فيما استشهد فيها نحو 170 مجاهدا وجرح بين 40 و50 آخر ممن كان لهم شرف المشاركة في هذه المواجهة.
نقطة تحوّل مهّدت لتدويل القضية الجزائرية
واستطاع المجاهدون الذين كانوا يومئذ قلة بالمنطقة - حوالي 400 مجاهد – الانتصار على 40 ألف عسكري تم جلبهم من عدة ولايات أخرى لموقعة – الجرف 100 كلم إلى الجنوب الغربي من تبسة-، واعتبرت المعركة انتصارا تاريخيا مكن الجزائر من تدويل القضية الجزائرية في مؤتمر “باندونغ”، كما مكن من فك الحصار على جزء مهم من المنطقة الأولى أوراس النمامشة، كما زادت ثقة المجاهدين في الاستقلال بعدما ظن بعض المتخاذلين أن الاستعمار شر لا بد منه، واعتبرت نقطة تحول في مسار الثورة الجزائرية ويكفيها فخرا أن الشهيد العربي بن مهيدي أثنى عليها وعلى صانعيها حينما خاطب المستعمر بقوله “ يكفينا فخرا أننا لقّنا فرنسا درسا في البطولة في الجرف لن تنساه”، كما ذكرها الجنرال “بوفو “قائد الفرقة الثانية للمشاة في تبريره لفشل جنوده في دخول قلعة الجرف المحصنة حين قال” تجابه قواتنا أعنف عمليات هجومية تصدت لها عمليات التمشيط والتطهير، بحيث اعترضت قواته صحراء صلدة تمثلت في قلعة الجرف،وهو جبل قاحل محدب”، أما الطيار كلوسترمان الملقب عسكريا بدوفال المجند بين 1955 و1957 فيقول”كل ممر عبارة عن خرسانة تأوي كل شيء، السلاح والذخائر والمغارات التي بها مهاجع الجنود وقاعات التمريض، وقطعان الماعز والأغنام، أما الماء فهو متوفر في سائر المواسم،إنها قلاع دائمة ومراكز اجتماع قادة الولايات.”

لقد حشدت فرنسا للمعركة جيدا وذلك لمحاصرة المجاهدين والقضاء عليهم، فأقبلت أسراب الطائرات العمودية من مطاري سطيف وتلاغمة وحطت بالجرف، كما تدعم ذلك بنحو 40 ألف جندي مدعمين بالعتاد المتطور واللفيف الأجنبي، ولمواجهة ذلك فضل المجاهدون أسلوب حرب العصابات لتجاوز الفارق بين القوتين ومباغتة العدو واختيار المكان والزمان، وتوقيت المباغتة والانسحاب والكر والفر لإنهاك قوات العدو، وهي التكتيكات التي لم تنفع معها الطائرات والمدرعات، وفي هذه النقطة أقر ضباط الجيش الفرنسي في مذكراتهم الشخصية وتقاريرهم بحسن تنظيم ما كانوا يسمونه “بالفلاقة” وبضراوة المواجهات وبصلابة المجاهدين، كما أقروا بعائق التضاريس الوعرة التي ساهمت هي الأخرى في حماية أعدائهم، ولم يتوان أحدهم في نعت الطبيعة بواد هلال بالطبيعة الجهنمية، أما عن قادة المعركة  فيؤكد المجاهد العيد بوقطف في شهادته بأن المعركة حضرها عدة قادة من جيش التحرير بينهم شيحاني بشير، سيدي حني، فرحي ساعي، عجول عجول، عباس لغرور والوردي قتال –كاتب القيادة-، مضيفا في السياق ذاته بأن المعركة انتهت بمقتل 700 عسكري وجرح أكثر من 350 عسكري فرنسي، فضلا عن إسقاط عدد من الطائرات وحرق الشاحنات الدبابات، بينما لم تتعد خسائر المجاهدين 70 شهيدا وجرح 15 مجاهدا آخر.
 مواجهات كبّدت فرنسا خسائر بمليون فرنك يوميا  
أما المجاهد والقائد الوردي قتال فيذكر في إفادته لمجلة الجيش باستقالة عدد من نواب البرلمان الفرنسي بسبب استعمال جيشها للقنابل الغازية المحرمة دوليا، فضلا عن تسجيل القضية الجزائرية وجدولتها في هيئة الأمم المتحدة، أما في المجال الاقتصادي فقد تكبدت فرنسا حسبه خسائر بحوالي مليون فرنك فرنسي يوميا ولمدة أسبوع كامل، كما تضررت ميزانية الحكومة مقدرا عدد قوات فرنسا المشاركة في معركة الجرف بنحو 40 ألف، واستنادا لرواية المتحدث فإنه تم إسقاط 4 طائرات وتحطيمها عن آخرها ولا زالت شواهدها باقية لحد الآن”، أما عن سير المعركة فيضعنا المجاهد إبراهيم قاسمي في صورة ما حدث، حيث يشير إلى أن المعركة اندلعت من 22 سبتمبر 1955 إلى غاية 29 سبتمبر مضيفا بأن رفاق سلاحه لم يكونوا ينوون الدخول مع العدو في معركة كبيرة من هذا الحجم بالنظر لتباين الإمكانيات المسخرة لكل طرف، غير أن تطور الأحداث وتسارعها فرض عليهم القتال بهذه النقطة الملتهبة التي تعد ملجأ للأحرار والرافضين لأداء الخدمة العسكرية الإجبارية في الجيوش الفرنسية وكذا الفارين منها بأسلحتهم وذخائرها، ويضيف المتحدث بأنها تعد كذلك حصنا منيعا لكل المطاردين من الإدارة الاستعمارية وأجهزتها الأمنية لسبب أو لآخر، بالإضافة إلى استعمال الموقع كمستودع كبير لتجميع السلاح بعد الثورة التحريرية، واستعماله كنقطة التقاء لقادة الناحية على غرار شيحاني بشير، مشددا على أن قوات الطرفين لم تخطط مسبقا لهذه المعركة ولكن تواجد قادة الولاية التاريخية في تلك الأيام وترؤسهم لسلسلة اجتماعات وخاصة “برأس الطرفة” كان الفتيل الذي ألهب المنطقة ودفع بفرنسا إلى الإعلان عن حالة الطوارئ، وتوجيه قواتها وآلياتها بسرعة نحو الجرف على أمل اقتناص هذا الصيد الثمين، وتحقيق جرعة أكسجين للجيش الفرنسي الذي لم يتمكن رغم مرور عام من إخماد شعلة ثورة أول نوفمبر.

 وهكذا استمرت مشاهد الثلاثة أيام وأربعة ليال، وعن تواجد عدد من قادة الثورة بالجرف يؤكد المجاهدون بأن ذلك جاء في إطار سلسلة من اللقاءات التي عقدها القائد شيحاني بشير الذي خلف مصطفى بن بوالعيد بعد استشهاده مع المناضلين والمواطنين لتوعيتهم ووضعهم في صورة ماذا تحقق بعد عام من الثورة، وهي الاجتماعات التي حضرها أغلب قيادات المنطقة الأولى في صورة عباس لغرور، عاجل عجول، فرحي ساعي، بشير الورتلاني وغيرهم،،، غير أن هذه المساعي بلغت فرنسا ويقع أول صدام بين الطرفين بالمنطقة المسماة “فرطوطة” (10 كلم إلى الشمال من موقع الاجتماع)، حيث تشير المصادر ذاتها إلى أن الاشتباك أسفر عن استشهاد القائد محمد عجرود و30 من فصيلته، ليتقرر بعد مشاورات البقاء بالجرف و التحصن فيه ومباغتة العدو بعمليات خفيفة، ولم يتوان الجيش الفرنسي على إمطار المنطقة بأطنان من قنابل الطائرات وقذائف المدفعية والدبابات وتكرر المشهد 3 أيام كاملة مع وجود مقاومة شرسة من المجاهدين، وفضل المجاهدون الانسحاب تحت جنح الظلام ورغم قلة المأكل والمشرب وعدم النوم فقد استبسلوا في المقاومة.
تعليق جمجمة الشهيد سدراتي على مصفحة لترهيب السكان
واستغل الجيش الفرنسي الدفاعات المنهارة للمجاهدين لدخول القلعة التي كان بها عدد من الشهداء ومجاهدين اثنين أعاقتهما جراحهما على الحركة فقام الضباط بإعدام أحدهما المدعو محمد السدراتي في الحين وفصل جمجمته عن جسده وتثبيتها في مقدمة إحدى المصفحات، ولم يكتف الاستعمار وأذنابه بذلك بل أوتي بجثته لمدينة الشريعة بولاية تبسة وهي على تلك الحالة يجوبون بها شوارع المدينة وذلك لترهيب الناس وتخويف السكان، كما تم حرق العشرات من المنازل وإبادة المئات من رؤوس الماشية انتقاما من المجاهدين والمتعاطفين مع القضية الوطنية، أما بالنسبة للقيادة فقد نجت هي الأخرى، أما القائد شيحاني و06 من رفقائه فقد رفضوا الخروج من مخبئهم بالرغم من استعمال الجيش الفرنسي لقنابل الغاز الممنوعة دوليا، ليتمكنوا من الخروج بعد أن نجح المجاهد “علي المعافى” في استحداث كوة صغيرة والخروج منها والتسلل ليلا عبر نفق باتجاه وادي الجرف إلى أن وصلوا حسب الوردي قتال إلى بئر الزريق ومنها إلى القلعة، لتنتهي هذه الملحمة بفوز معنوي ومادي ساحق.
للإشارة أعدت ولاية تبسة برنامجا ثريا بهذه المناسبة سيتم خلاله تذاكر هذه المعركة وما حققته من أهداف عبر العديد من المؤسسات التربوية والشبانية، ومن المرجح أن يشارك في هذه الاحتفالات وزير المجاهدين، مع العلم أنه سبق للمجلس الشعبي الولائي أن قدم إلتماسا لوزير المجاهدين الطيب زيتوني لترسيم معركة الجرف ضمن الاحتفالات بالأيام والأعياد الوطنية بالنظر لبعدها الوطني، كما قدم لوزارة البريد وتكنولوجيات الإعلام والاتصال إلتماسا ثانيا لاستصدار طابع بريدي يخلد هذه المعركة.
الجموعي ساكر

الرجوع إلى الأعلى