ثقافة "المسكينة و "المغبونة" تزج بالجزائريات في زنزانة العنف الزوجي  
استخلصت السيدة مليكة شطوح رئيسة جمعية راشدة فرع قسنطينة، من تجربتها المهنية كقابلة، و أستاذة مكونة و مديرة ، ثم عضوة في الجمعية، بأن تفشي مختلف أشكال العنف و التفكك الأسري بمجتمعنا،  راجع إلى نمط التربية السائد فيه، انطلاقا من خليته الأولى و هي الأسرة التي تفتقد في الغالب للتلاحم و الحوار، و لا تزال تعتبر الفتاة «مسكينة» و «قاصرا» و تحزن لدى ولادتها و تغتنم كل الفرص و المواقف لتعنيفها، وصولا إلى المدرسة التي تحتضن منظومة تربوية تتضمن عدة نقائص و لا تتيح في حالات كثيرة للتلميذ حرية التعبير و لا تلقنه نبذ العنف و قد أدى ذلك، حسبها، إلى عدم بلوغ أحد طرفي معادلة الزواج أو كلاهما، في حالات كثيرة ، مرحلة النضج العقلي و الانفعالي و النفسي الذي لا يرتبط ببلوغ سن الرشد، بل يرتبط بالقدرة على الحب و الاحترام
و التسامح و تحمل المسؤوليات، و قد رصدت ذلك لدى ثلثي الحالات التي استقبلتها شبابيك راشدة منذ تأسيسها في 9 مارس 2000  و عددها الإجمالي حوالي ألف و 500 حالة من ضحايا العنف الزوجي و الطلاق.

و قالت رئيسة راشدة في لقائها بالنصر، بأنها ترى في قانون تجريم العنف ضد المرأة بارقة أمل و خطوة إيجابية لتغيير واقع المرأة و نظرة المجتمع إليها، لكن لا بد من التركيز على التربية و غرس الأخلاق و القيم في كنف أسرة متوازنة تمد جسور الاستقرار و الحوار و التفاعل بين أفرادها و لا توبخ أو تقمع أبناءها لمجرد تعبيرهم عن رأي أو شعور أو اتخاذهم لموقف، و كذا إعادة النظر في المنظومة التربوية و طرق التدريس، لتتماشى مع خصائص العصر و احتياجات أبنائه و السعي لإعداد مواطنين صالحين.

كنت أول قابلة في الوسط الريفي في الستينات

  و ذكرت المتحدثة البالغة من العمر71 عاما، قضت 17 عاما في صفوف جمعية راشدة كعضوة ثم كرئيسة، بأن عملها كأول قابلة في الوسط الريفي بالشرق الجزائري سنة 1966، و هي في ربيعها العشرين، ضمن فرقة متعددة الاختصاصات و الجنسيات، كانت تشرف عليها منظمة الصحة العالمية و وزارة الصحة، جعلها تكتشف الوضع الكارثي للمرأة الريفية في قبضة الثالوث الأسود الفقر و المرض و الأمية، و بين براثن مجتمع رجالي يجلدها بكل أشكال العنف، و لدى تحويلها إلى الوسط الحضري، تأكدت بأن المرأة هناك ليست أفضل حالا من أختها في الريف فهي أيضا معنفة و «محقورة» في أغلب الأحيان، فقررت أن تكرس حياتها و جهودها للدفاع عن حقوق بنات جلدها و مساعدتهن و دعمهن و نبذ كل أشكال التفكك الأسري ، انطلاقا من وظيفتها ، ثم  وجدت لاحقا في جمعية راشدة ضالتها.
 السيدة مليكة أوضحت بأن وزارة الصحة التي كانت تنشط بالتعاون و التنسيق مع منظمة الصحة العالمية، أرسلت في سنة 1966 وفدا لإجراء عملية تفتيش و استطلاع بالمناطق الريفية في الشرق الجزائري، و اكتشفت بأن منطقة سدراتة الكائنة بولاية سوق أهراس، تعاني من وضعية كارثية في ما يتعلق بالتغطية الصحية، فقد كان يعمل بها طبيب عام واحد و هو فرنسي، و سجلت بها أكبر نسبة من وفيات النساء بعد الولادة و كذا المواليد و الأطفال عموما،  بسبب الإسهال و الجفاف الناجم عنه، إلى جانب تفشي الكثير من الأمراض الأخرى.
هذا الواقع جعل الهيئتين  ، كما قالت المتحدثة، تقرران اعتبار سدراتة منطقة تجريبية و نموذجية، و تم اختيارها، لأنها كانت الأولى في دفعة تتكون من 8 قابلات تخرجن في 1966، كعضوة في الفرقة متعددة الاختصاصات التي أرسلت للعمل هناك، و ذكرت المتحدثة بأنها عملت و تعلمت هناك الكثير، فقد اكتشفت ذهنيات و عادات و تقاليد مختلفة عن تلك السائدة في قسنطينة، المدينة التي عاشت و درست بها ، و عين البيضاء، المدينة التي تنحدر منها ، مضيفة بأنها غاصت هناك في مجتمع كان يتخبط في العديد من المشاكل الاجتماعية و المادية و الصحية ، و كان ينظر دوما إلى المرأة بأنها أقل شأنا و مكانة و نضجا من الرجل، وظيفتها في الحياة تلبية طلباته و الإنجاب و تربية الأطفال و أشغال البيت و لا حقوق لها ، حتى في المساواة في المعاملة بينها و بين أخيها و هي طفلة صغيرة في بيت والدها، فكانت تضرب و تهان و تابعت « كلما كنت أدير وجهي، أرى رجالا ينعتون المرأة بالمسكينة و «المغبونة»، كأن الأمر يتعلق بثقافة متجذرة في المجتمع».

منبوذات بسبب
إنجاب البنات

و استطردت قائلة «كنت أتألم كثيرا و أنا أرى نساء يتألمن في الحمل و المخاض و يمتن من وجع الفراق و هن يفقدن مواليدهن بسبب الفقر وعدم المتابعة الطبية للحمل، و أخريات يصدمن عندما ينجبن الإناث، و كأنهن وصمة عار، لأن أزواجهن يفضلون الذكور، أتذكر أنني كلما كنت أقول لزوج "مبروك المزيودة" ينظر إلي و إلى زوجته نظرة شزراء، و يكاد ينفجر غضبا،  ثم يتحكم في انفعالاته بصعوبة و يهمس «واش عليه». و المؤلم أكثر أننا نضطر أحيانا إلى الاتصال عدة مرات ببعض الأزواج ليحضروا إلى العيادة، من أجل مرافقة زوجاتهن و مولوداتهن إلى البيت. أما عن الحالات التي يحضر العرسان فيها العرائس للكشف عن عذريتهن في اليوم الأول من الحياة الزوجية، فحدث و لا حرج ...كنت أضطر لتقديم دروس أخلاقية و دينية و علمية لهم، لإنقاذ الزوجات  من جهلهم و غضبهم».
و تحدثت السيدة شطوح عن حالات عديدة لفتيات تعرضن للاغتصاب و اكتشفت أنهن حوامل بعد فحصهن، و تأسفت لأن المجتمع في مثل هذه الحالات، يحمل المسؤولية  للمرأة و حدها و من بينهن ، كما قالت، حالة فتاة في 16 من عمرها زارت خالتها،  فاغتصبها زوج خالتها ، فأحضرتها أمها إلى المصلحة لتخضعها للفحص، فاتضح أنها حامل، و تسمرت الصغيرة في مكانها من هول الصدمة، وحدها دموعها المنهمرة على خديها كانت تعبر عن معاناتها التي لا يحتملها بشر، و توسلت أمها المنهارة إليها، لكي تكتم السر، درءا للفضيحة إلى أن تلد ابنتها و تتخلى عن مولودها غير الشرعي بالمستشفى،  لكي ينقل إلى مركز الحضانة، و توسلت إليها الأم أيضا أن تقول لكل من يسألها عن حالتها، بأنها مريضة، و اعترفت المتحدثة بأنها لم تستطع أن تقاوم دموع الطفلة وتسترت عليها، حتى لا تتعرض للمزيد من الأذى من أهلها.
و تنهدت القابلة المتقاعدة و هي تتذكر العديد من الحالات المماثلة التي صادفتها لاحقا، و تركت بصماتها في مسارها المهني و الإنساني، و أكدت بأن هناك قواسم كثيرة مشتركة بين المرأة الجزائرية في الريف و المدينة،   لم يغيرها نمط المعيشة و المستوى التعليمي، و في مقدمتها التشبث ببعض العادات و التقاليد السيئة و نظرة المجتمع القاسية لها.
و عادت بذاكرتها إلى محطات  عديدة في مسارها المهني ، فقد رشحتها منظمة الصحة العالمية للاستفادة من تكوين في رعاية الأم و الطفل بباريس  ثم تكوين آخر في مونتريال بكندا في علم النفس التربوي، فسافرت مع زوجها و زملاء آخرين.   
و بعد العودة إلى قسنطينة ، عينت كمديرة للدراسات في المعهد التكنولوجي، و  المعهد شبه الطبي، ثم مديرة  التكوين المتواصل للطاقم الطبي و شبه الطبي، إلى أن أحيلت على التقاعد في 2006.

تعلمت من سعاد بن جاب الله التصميم على تجسيد الغايات

و أشارت المتحدثة إلى أنها بدأت قبل سنوات تفكر و تحضر نفسها للتقاعد، خشية أن تسقط في قبضة الفراغ الذي كان يعني بالنسبة إليها الموت، و في سنة 2000 أخبرها ابنها الذي كان طالبا جامعيا، و يعرف جيدا اهتمامها و تأثرها الشديد بوضعية المرأة ، عن جمعية في طور التشكل تهتم بحقوق المرأة و هي راشدة، فانضمت إليها و كانت آنذاك على رأسها الوزيرة السابقة للتعليم العالي و البحث العلمي، ثم التضامن و شؤون المرأة سعاد بن جاب الله.
« مهمة إنشاء الجمعية لم تكن سهلة بالنسبة إلينا، لأننا لم نكن نملك المقر و كنا نلتقي في بيت الرئيسة ، لقد كانت امرأة بسيطة و متواضعة و ذات رأي سديد و تملك قدرة فائقة على التكيف مع جميع المواقف،  تعلمت منها الصبر و التفكير العميق و التنظيم و المثابرة و التصميم على تجسيد الغايات. و لها فضل كبير في حصول الجمعية على المساعدات و تحقيق العديد من أهدافها.  في سنة 2013 حصلت السيدة بن جاب الله على منصب وزيرة و غادرت راشدة و تم انتخابي كرئيسة جديدة و لا أزال أمارس مهامي بإصرار و عزم»، أكدت المتحدثة.

90 بالمئة من السيدات اللائي يقصدن الجمعية ضحايا العنف الزوجي

و أضافت بنبرة حزينة « لقد استقبلت شبابيك الجمعية القانونية و النفسية و الاجتماعية أكثر من ألف و 500 حالة منذ ميلادها و تكفلت بكل انشغالاتها و ساعدتها و دعمتها لتجاوز محنها بالتعاون مع شركائها في مختلف القطاعات، و الملفت أن 90 بالمئة من السيدات من ضحايا العنف الزوجي و تتراوح أعمارهن بين 31 و 50 عاما،  و 80 بالمئة منهن ربات بيوت مستواهن التعليمي متوسط ، ما دفعنا لإتاحة الفرصة للعديد منهن للتكوين و التشغيل من أجل تحقيق الاستقلالية المادية و الإمساك بزمام حياتهن بأنفسهن ، بالمقابل نظمنا حملات تحسيسية لمحاربة العنف و الظواهر الاجتماعية التي تؤدي إلى تفكك الأسر و تشرد الأبناء، إلى جانب حملات أخرى لزرع روح المواطنة و التضامن».
و شددت المتحدثة بأن العنف ينهش مجتمعنا بكل أشكاله في كل المستويات و الأماكن، و لا بد من تضافر جهود الجميع لمحاربته، و كذا محاربة ظاهرة الإهمال العائلي و الطلاق بكل الطرق و في مقدمتها حث الشباب و الشابات على عدم التسرع في الزواج، و لما لا تنظيم تكوين لهم قبل إكمال نصف دينهم، مشيرة إلى أن الجمعية تبقى مكتوفة اليدين عندما تقصدها سيدات طردن من بيت الزوجية بمعية أطفالهن إلى الشارع بسبب نزاعات عائلية أو طلاق، و لم يجدن مأوى.
و ختمت حديثها بالقول بأن راشدة لم تحصل منذ سنة 2014على مساعدات من الجهات المعنية لتنفيذ مشاريعها الطموحة  لفائدة المرأة و الأسرة ،ما جعلها تقلص نشاطاتها كثيرا و تكتفي بتنظيم لقاءات و أبواب مفتوحة و المشاركة في الملتقيات.                

إلهام طالب

الرجوع إلى الأعلى