يغمر  زائر المنطقة السياحية  تاغيت ، الواقعة بالجنوب الغربي للعاصمة، شعور بالسعادة و هو يقطع مسافة يوم كامل و يشخص بصره  بين مساحة شاسعة منبسطة تكاد تتقاطع  مع سماء صافية، و تشكل أشعة الشمس القريبة من الأرض سرابا يحسبه الظمآن ماء.
روبورتــاج :هشـــام. ج
الرحلة إلى مدينة تاغيت، التابعة إقليميا إلى ولاية بشار، تستغرق يوما كاملا و بذل الكثير من الجهد، من أجل الوصول إلى هذا الموقع المتميز ضمن مسار السياحة الصحراوية، وقد يتطلب بالنسبة للقاطنين بولايات الشرق، الباحثين عن متعة السفر، قطع يومين كاملين برا ، من أجل الوصول إلى تاغيت.

المسار الحقيقي للرحلة يبدأ من ولاية النعامة ، مرورا بعين الصفراء و بني ونيف، وصولا  إلى عاصمة الولاية بشار على مسافة لا تقل عن 500 كلم، و بين كل تجمع سكني و الآخر ، مسافة طويلة تنعدم بها أدنى الضروريات، فيجد الزائر نفسه على طريق معبد شبه خال،  يشخص فيه بصره  بين مساحة شاسعة منبسطة تكاد تتقاطع مع سماء صافية، و تشكل أشعة الشمس القريبة من الأرض بمدخل الصحراء الكبرى سرابا يتصور الظمآن أنه ماء.
 تتميز المنطقة بتنوع جغرافي استثنائي، حيث تحتضن سلسلة الأطلس الصحراوي ، و تعتبر قمة جبل عيسى بعين الصفراء التي تتراءى للزائر من بعيد بارتفاع يفوق ألفين و 236  مترا ، و تتميز بمناخ قاري وجاف في الشتاء، أين تنخفض درجة الحرارة لأقل من 10 درجات مئوية في الليل، حسب بعض المواطنين ، في حين سجل مقياس الحرارة المتواجد في السيارة في حدود الساعة الحادية عشرة و النصف صباحا، 22 درجة مئوية، و هي درجة تعتبر مرتفعة، مقارنة بالمناطق الشمالية من الوطن .
شجرة « الطلح »  للوقاية من الحرارة
   يقتضي طول المسافة أخذ قسط من الراحة تحت شجرة « الطلح « بتاجها المظلي، و الملاحظ أن هذا النوع من الأشجار  ينتشر هنا وهناك، بأعداد قليلة جدا، و تعتبر رمز البيئة الصحراوية، إذ تقتات منها الجمال ، كما أنها مصدر للطاقة بالنسبة للسكان البدو الرحل ، وقد استفسرنا عن أشجار «الطلح «، فقيل لنا بأنها مقاومة للحرارة و تستعمل لعلاج بعض الالتهابات و الحروق، و يزداد عددها كلما اتجهنا نحو الجنوب، كما تشكل نبتة الشيح نسبة معتبرة من الغطاء الصحراوي بالجهة الجنوبية الغربية للبلاد ، لما له  من أهمية علاجية، كما يحافظ على البيئة من ظاهرة التصحر. حتى أن أوراقه العطرية ، تدفعك لقطف كمية منه للاستفادة من منافعها العلاجية ، و يعد الشيح من بين النباتات الصحراوية التي تعرض للبيع عبر أهم نقاط تجمع السياح، من بينها منطقة تاغيت، الواقعة على بعد 85 كلم جنوب بشار .
     وصلنا إلى عاصمة الولاية بشار في اليوم الثاني من احتفالات رأس السنة الميلادية التي تزامنت مع العطلة الشتوية، فوجدنا جل الفنادق محجوزة ، بأسعار لا تقل عن 6 آلاف دج للشخص الواحد، بخدمات جد متواضعة.
   و أكد كمال أحد موظفي الاستقبال بفندق خاص، بأن أصحاب الفنادق يغتنمون الفرصة لرفع الأسعار  و بالتالي تختلف عن تلك المطبقة في باقي أيام  السنة ، و ذلك لأن السياح من مختلف الجنسيات يقبلون على زيارة مدينة تاغيت وغيرها من المدن الأثرية الجميلة، على غرار بني عباس، الواقعة على الضفة اليسرى لواد الساورة و تحيط بها كثبان العرق الغربي، و  تحتوي ، حسب محدثنا، على عدة قصور من بينها قصر أولات أوروت ، بني حسان، قصر القصيبة وغيرها. أما القنادسة المشهورة بقصرها البني المائل للاحمرار المصنف ضمن التراث الوطني ، فقد اختزلت اسمها ،حسب ذات المصدر، من القندوسي وهو شخص مكلف بحراسة أمتعة القوافل في أزمنة غابرة ، و تضم زاوية الشيخ سيدي امحمد بن بوزيان و زواية الحاج أحمد ذات النمط العمراني الإسلامي ، كما تتوفر على خزانة من المخطوطات النادرة في الفقه وأصول الدين.
 من بين العادات الراسخة ، يضيف محدثنا ، إقامة مهرجان « بركاشو «من أجل توطيد العلاقة وفك النزاعات و الخلافات بين أبناء المنطقة ، فيما تعد، حسب  كمال، تاغيت أشهر منطقة سياحية بالجزائر و يطلق عليها اسم  الواحة الحمراء و عروس الساورة ، ولا يمكن بأي حال من الأحوال زيارة كافة المواقع السياحية التي توجد بها، لأنها تقع بمناطق بعيدة ومتفرقة، و  تتطلب منك زيارتها المكوث لأسابيع كاملة تدفع خلالها مبالغ كبيرة ،مقابل الإقامة و الأعباء الأخرى.

كدنا خلال الرحلة أن نفقد هدوءنا ، لأن بعد المسافة فاق كل توقعاتنا، للوصول إلى جوهرة الساورة في الصباح الموالي ، ففي منعرج صغير و بصورة مفاجئة ظهرت  كثبان رملية في شموخ، ضمن العرق الغربي الكبير على امتداد الصحراء الصخرية، أو ما يطلق عليها الحمادة ، تفصل بينها على مسافة تتجاوز 20 كلم واحة «بربي « ، بمحاذاة وادي زوزفانة، إلى جانب القصور العتيقة الستة  لتاغيت .
لحظة تجاوزك الجسر الصغير للوادي المذكور ، تلمح قوافل من السياح الأجانب الذين قدموا لاستكشاف سحر وجمال المكان المؤثث بالرمال الذهبية و النخيل والرسومات الصخرية و القصور العتيقة ، كما يقبلون على اقتناء بعض الأغراض و التذكارات التقليدية من السوق المحاذي لمقر البلدية، أو من الدكاكين المخصصة لبيع شتى الأواني الفخارية و الحلي و الزرابي و السيوف و الأقمشة التي تعبر عن البيئة الصحراوية .
 تبقى آلة «القُمْبري» من بين الآلات الموسيقية الفريدة الموجودة في الصحراء الجزائرية، و يتهافت السياح و الزوار على اقتنائها أكثر من باقي الآلات الموسيقية المعروضة في المحلات ، حيث تشتهر بصناعتها  منطقتا تاغيت و بشار، الواقعتين في الجنوب الغربي للجزائر، و يعود تاريخ صنعها إلى 5 قرون، كما قال لنا أحد الباعة .
القصر العتيق.. شاهد على حضارة تتجاوز 10 قرون
   في أول محطة لنا في المنطقة السياحية، دعانا مرافقنا المرشد السياحي حمزة، لزيارة القصر العتيق الذي شيد في القرن   11فوق هضبة صخرية، و يطل مباشرة على واحة النخيل بوادي زوزفانة ، و يمكن للزائر المرور عبر البوابة الرئيسية  التي تؤدي مباشرة إلى الساحة التي كانت تعقد فيها الاجتماعات و تتخذ أهم القرارات ومن بين الشواهد القائمة ،  المقاعد المتراصة على الجدار الطوبي، و منها يتم عبر الأروقة الضيقة للتوغل إلى المنازل المشيدة بالطين و الحجارة و بعض المواد المحلية كالأعمدة و جريد النخيل ، و هي  المواد المستعملة لبناء هذه المنازل، كما أوضح حمزة، مشيرا إلى أنها توفر الحرارة في الشتاء و البرودة خلال فترة الصيف.
  القصر يضم بعض المرافق الحيوية، من بينها المسجد و دور لاستقبال الضيوف وعقد الاجتماعات الرسمية، كما يضم أزيد من 120 منزلا  لا تزال لحد الآن قائمة و متماسكة،  رغم مرور مئات السنين على تشييدها من طرف  إثنين من الأولياء الصالحين، وهما سيد سليمان و مرابط سيد أحمد من قبيلة عمارة، واشتهرا بأن أصولهما تمتد إلى وادي الساحل و الساقية الحمراء ، وفق الروايات المتواترة التي استقيناها من عين المكان
و قال الكاتب  بول لاغات،  حسب الدليل السياحي، أنّ الدخول إلى قرية تاغيت في الخمسينيات، كان يتم عن طريق باب منخفضة تجعل الزائر يمر بدروب ضيقة متشابكة بين المنازل، حيث تجدها تارة تصعد و تارة أخرى تنحدر، لتغير فجأة الاتجاه، حسب تغيرات الأرضية و تصميم المعماريين.

يمكن لزوار القصر العتيق بتاغيت، أخذ قسط من الراحة في بعض الغرف المهيأة  بأفرشة  وزراب محلية الصنع ، وتناول المكسرات والشاي الصحراوي بكؤوسه الثلاث ، و لا يختلف اثنان حول نوعيته ونكهته التي لا تقاوم ، كما أن الشاي الصحراوي يبعث الطاقة من جديد في الجسم ، لمواصلة استكشاف أروع المناظر بالصحراء الجزائرية،  و ذكر حمزة بأن القصر، يشهد أشغال ترميم دورية ، بمواد بناء أصلية ، مشيرا إلى أن الزوار الذين لا علاقة لهم بالسياحة و التراث، يقومون بالكتابة العشوائية على جدرانه ، و هذا الأمر يسيء  إلى رمزية القصر الذي يؤرخ للمنطقة بأكملها، و يشكل خطرا على تراث عريق .
نخيل « بربي »  تغرق في المياه الصاعدة
من بين الواحات التي تجلب الزوار واحة «بربي « التي تقع على مسافة 20 كلم ، لكن اللافت للانتباه، أن عشرات أشجار النخيل تغرق في المياه الصاعدة، مما يهدد الواحة بالموت البطيء و الاضمحلال، فكلما توجهت صوب الزواية الفوقانية تتراءى لك  مساحة أصابتها ألسنة اللهب ، ومن بين المظاهر السلبية التي قد تؤثر على الحركية السياحية، الرمي العشوائي للنفايات بعد تناول  الوجبات الغذائية، في ظل افتقاد المنطقة لحاويات لجمع ورمي النفايات على طول المسلك .
أشباه السياح  يشوّهون نقوشا صخرية تعود  إلى 7 آلاف سنة

من بين المظاهر السلبية التي تعاني منها المواقع السياحية بتاغيت ، تشويه و طمس نقوش صخرية تعود إلى حوالي 7 آلاف سنة ، عن طريق كتابة بعض الأسماء بواسطة الطلاء أو النقش و الحفر،  مما عرض الكثير من النقوش لأضرار بليغة. و قد أعرب الكثير من السياح الأجانب عن أسفهم لما آلت اليه النقوشات الصخرية ، أو ما يسمى "ليقرافور"  التي تبرز عديد العادات و التقاليد و أصناف و أنواع الحيوانات التي استقرت في حقب غابرة بالمنطقة من بينها  الأبقار، الظباء ، الفيلة ، النعام، الغزلان، الجمال و الزرافات ، وتقع هذه الصخور،  حسب أحد الباعة الذين استغل الموقع للترويج لبعض الحرف التقليدية، على مساحة 500 هكتار،  في ظل غياب مرشد أو لوحة توجيهية أو تعريفية بالموقع الذي يعود إلى العصر الحجري الحديث ، في انتظار اعتماد مخطط لحماية المنحوتات الصخرية بمنطقة تاغيت وتصنيفها كتراث مادي إنساني .
ركوب الرمال الذهبية بين الهواية و الاحتراف
يفضل الكثير من زوار تاغيت الصعود إلى قمم الكثبان الرملية التي تعانق السماء ، و التزحلق بمختلف الوسائل حتى البسيطة منها، كاستخدام المواد البلاستكية في سباق يظهر بطولات الأطفال على حساب فئة الكبار ، فيما يستمتع بعض المحترفين بركوب السلاسل الرملية بواسطة الدراجات النارية رباعية الدفع ضمن سباق يمتد إلى عمق الصحراء ، وغالبا ما تستهوي هذه الرياضة عديد الأشخاص القادمين من مدن الشمال لقضاء أيام  ممتعة بين أحضان الطبيعة ، مرفقين بمختلف الوسائل و التجهيزات الضرورية التي تغنيهم عن المبيت حتى في الفنادق ، ومن بين الرياضات الأكثر استخداما المظلات الهوائية لحظة نزول المتسابقين ، ويتطلب  ركوب الرمال الذهبية مهارات ودرجة تحمل ونفس عميق. .        
هـ. ج

الرجوع إلى الأعلى