البسباسة..  هكذا حصل الانتقام الدامي  
تساقطت الحمم الملتهبة على أكواخ الديس بالمشاتي الريفية البائسة، و انبعث في السماء دخان أسود و تصاعدت رائحة الأجساد البشرية المحترقة، و صرخ طفل صغير رأى أمه تقتل رميا بالرصاص، و اختبأت الحيوانات في أوكارها هربا  من دوي القنابل و أزيز الطائرات الرهيبة و هي تلاحق كل كائن يتحرك.  
في 6 مارس 1956 ارتكب العدو الفرنسي مجزرة رهيبة بمنطقة البسباسة الواقعة شرقي ولاية قالمة، في واحدة من أبشع المجازر الدامية بعد مجازر ماي الأسود سنة 1945، سقط أكثر من 360 شهيدا بينهم نساء و أطفال، في ذروة الجنون الفرنسي المقيت بالقاعدة الشرقية، حاضنة الثورة المقدسة، و ملاذها الحصين.   
إنه يوم الانتقام الدامي، الذي أعقب عملية الهروب الأكبر التي نفذها جزائريون مجندون في صفوف الجيش الفرنسي، قرب مدينة خميسة الأثرية بولاية سوق أهراس، مجندون قسرا قرروا الالتحاق بالثورة المتأججة بالقاعدة الشرقية الممتدة من قالمة و الطارف و سوق أهراس إلى الحدود التونسية، أفرغوا ثكنة العدو من الأسلحة الثقيلة و الخفيفة، و أجهزة الاتصال، و الذخيرة، و توجهوا غربا إلى جبال البسباسة، حمام النبائل و الدهوارة بقالمة، و انتشروا بمشاتي المنطقة و شعابها يساندهم و يحميهم مجاهدون و مواطنون، حتى لا ينكشف أمرهم و يفلتوا من ملاحقة العدو، الذي أصيب بالجنون بعد عملية الهروب الأكبر، و استدعى أسراب الطائرات، و قوات برية ضخمة لتنفيذ عملية تمشيط و ملاحقة الهاربين، لكنه لم يتمكن منهم، فقرر الانتقام من أهالي المنطقة، بعد اتهامهم بالتستر على الفارين و تقديم المساعدة لهم.  
كان اليوم يوم خميس، موعد السوق الأسبوعي بحمام النبائل، موعد يلتقي فيه أهالي المنطقة لشراء المؤن و تبادل أخبار الثورة الفتية، رأى العدو بأنها الفرصة المناسبة للانتقام، فاعترض طريق العائدين من السوق، و جمعهم بمنطقة البسباسة مع النساء و الأطفال، و نفذ فيهم عملية الخميس الأسود، التي بقيت آثارها المدمرة إلى اليوم، يتامى و أرامل، و مصابون بالجنون، و مقبرة جماعية كبرى يرقد فيها الضحايا جنبا إلى جنب، ينتظرون القصاص، و من حواليهم مشاتي بائسة تنتظر ساعة الخلاص من الفقر و العزلة و الحزن الأبدي الذي سكن القلوب و استوطن الأودية و الشعاب على مدى 62 عاما.   في 6 مارس من كل سنة تتدفق الوفود من كل حدب و صوب على المنطقة الجريحة، لاستنطاق التاريخ، و جبر أهالي الضحايا و شحن الذاكرة حتى لا تنسى أبشع استعمار عرفته البشرية في العصر الحديث.                                                                   
فريد.غ   

الرجوع إلى الأعلى