بعد سنوات من العمل الدعوي السلمي والصبر في مكة، ومخاطبة الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، ثم الهجرة والجهاد والتصدي لقريش واليهود والمنافقين في المدينة، يتحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو مكة ليطهرها من الشرك والرجس، فدخلها مع الصحابة في 20 رمضان في السنة الثامنة من الهجرة، ففتحها صلى الله عليه وسلم دون قتال بعد أن وضع خطة محكمة للقتال مع العمل على تفاديه، وأخذ المسلمون بأسباب النصر المادية والمعنوية، امتثالاً لقوله عزّ وجلّ: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ)الأنفال:60.
إعداد: د .عبد الرحمان خلفة
 إن فتح مكة كان ثمرة لعمل طويل بدأ في مكة وانتهى في المدينة، عمل كان قائما على الأخذ بالأسباب وسنن التغيير، ومراعاة الأولويات في الدعوة، مع الإخلاص والصدق لله تعالى، والنظر بعين الرحمة تجاه العاصين والكافرين، فكان رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم في كل مناسبة يدعو بالهداية لهم ويرفض طلب الصحابة رضي الله عنهم بالدعوة عليهم بالهلاك، فكانت رحمته بالمرسل إليهم، رغم أنه صلى الله عليه وسلم أدمي ساقُه عندما خرج إلى الطائف، وشجّ وجهُه وكُسرت رباعيتُه في غزوة أحد، فيقول: (اللَّهُمَّ أهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُم لَا يَعْلَمُون)، وروى الإمام أحمد عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَنَائِمَ حُنَيْنٍ بِالْجِعِرَّانَةِ قَالَ فَازْدَحَمُوا عَلَيْهِ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ بَعَثَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى قَوْمِهِ فَكَذَّبُوهُ وَشَجُّوهُ فَجَعَلَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ جَبِينِهِ وَيَقُولُ رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ جَبْهَتَهُ يَحْكِي الرَّجُلَ)، ورغم إيذاء اليهود له كان يقابلهم بالحلم، فعَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري قَالَ: كَانَ الْيَهُودُ يَتَعَاطَسُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَرْجُونَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ، فَيَقُولُ: (يَهْدِيكُمُ اللَّهُ، وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ) [رواه الترمذي وصححه الألباني]، وقد وصف الله تعالى رحمة النبي صلى الله بأمته، فقال: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)الشعراء:03، وقال عنه: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)التوبة:128، وقال أيضا: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) الأنبياء:107.
وهكذا يكون المسلم في دعوته وفي مخاطبته للناس، فيكون حرصه على هدايتهم وتقديم النصح لهم، والتماس الأعذار لهم، والرفق بهم أكثر من حرصه على تكفيرهم وتقنيطهم من رحمة الله، والحكم عليهم بالبدعة والفسق. فرغم ما فعلته قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ومع ذلك حرص على هدايتهم إلى دين الله تعالى، ولما فتح مكة لم يأمر بقتلهم، ولم ينتقم منهم، بل عفا عنهم، فقد وقفت قريش كلها في بطحاء مكة تنظر ماذا يفعل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قريش التي آذته وطردته من وطنه الذي ولد فيه وترعرع فيه، وحاربته، وقتلت عمّه حمزة، لكن صاحب النفس الكبيرة، وصاحب المهمة العظيمة، وصاحب الرسالة النبيلة الذي أرسله الله تعالى بشيرا ونذيرا وهداية للعالمين، يقول لهم بكل تواضع ورحمة: (يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا خيرا أخ كريم وابن أخ كريم فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء)، يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى: (إن هذا الفتح المبين ليذكره صلى الله عليه وسلم بماضي طويل الفصول كيف خرج مطاردًا وكيف يعود اليوم منصورًا مؤيدًا وأي كرامة عظمى حفه الله بها هذا الصباح الميمون وكلما استشعر هذه النعماء ازداد لله على راحلته خشوعًا وانحناء فلم ينتقم من قريش؛ لأنه لا يضمر إلا الخير ولا يبغ إلا الإصلاح).
أ.د. كمال لدرع، جامعة الأمير بقسنطينة

أنـــوار
العزل السياسي بين الهدي النبوي والقرارات الثورية
عندما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة فاتحا منتصرا محدثا ثورة شاملة دينيا وسياسيا واجتماعيا، أبى أن يدخل منتشيا منتقما؛ فعمد إلى إعلان عفو شامل عن خصومه وخصوم الدعوة الإسلامية؛ وقال اذهبوا فأنتم الطلقاء، ليجعل منهم بقراره التاريخي هذا لبنات الدولة الجديدة ووقود الفتوحات الإسلامية التي انطلقت شرقا وغربا، وقد كان بعض المعفو عنهم قادة هذه الفتوحات؛ بل قادة الدولة الإسلامية بعدئذ، باستثناء بعض مجرمي الحرب الذي صدر قرار معاقبتهم ولو في جوف الكعبة دون أن يكون لهذا العقاب سبب سياسي، هذا الموقف النبوي لم يظهر له مثيل في تاريخ الثورات في القديم والحديث؛ حيث جرى العرف أن يعمد الثوار عقب انتصارهم إلى إصدار  قوانين العزل السياسي التي يتم بموجبها حرمان المنهزمين من الحقوق السياسية، وربما المدنية وحق المشاركة مستقبلا في تسيير الشأن العام، وتاريخ الدول مليء بهكذا أمثلة، وفي العصر الحديث تجدد هذا العرف؛ حيث وقفنا عليه منذ سقوط بغداد واحتلال العراق سنة 2003 حين صدرت قوانين العزل والاجتثاث، ثم تكرر عقب الحراك العربي في أكثر من بلد، فقد انتشى المنتصرون بالنصر وغلب عليهم قانون الثأر وغابت قيم العفو، فعمدوا إلى إقصاء خصومهم من الحياة السياسية ضمن قوائم اتسعت جدا حتى ضاقت بها البلاد، وقد انعكس هذا سلبا بعدئذ وهدد كيان الدول ونسيجها الاجتماعي وأدخل بعضها في مآزق سياسية وحروب أهلية، وحرم الكثير منها من إطارات علمية وكفاءات وخبرات ذات تجارب واسعة في التسيير الإداري والأمني والسياسي والتنموي؛ بل ربما هاجروا ليضعوا خبراتهم في خدمة دول أخرى.
إن الثوار الحقيقيين هم الذين يضعون عقب انتصارهم من القوانين ما يحصنون به دولهم وليس ذواتهم، وما يضمنون به تكريس الحريات واحترام حقوق الإنسان وضمان المشاركة السياسية، حتى تجسد المواطنة، وتحول دون اختلاق فئة جديدة تشعر بالعزلة والحرمان، وهي ترى احتكار الوطنية والسلطة والسيادة، ولئن استحق بعض الأفراد إجراءات خاصة فيجب أن لا تتعدى القرارات إلى غيرهم، ويجب أن يكون القضاء هو الفيصل في ذلك وليس السياسي، تجسيدا لمبدأ قوة القانون وليس قانون القوة، ودرءا لمنطق الغاب، الذي يعمد فيه الأسد المنتصر إلى قتل أبناء منافسه واجتثاثهم؛ ليبدأ في دورة بيولوجية جديدة ينجب بها نسلا من صلبه يضمن له الولاء في حظيرته.
لقد جسد الرسول صلى الله عليه وسلم بقرار العفو أمر ربه القائل: ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ))، وهي قرارات قضائية وتربوية وسياسية كفيلة باستعادتها واستعادة الهدي النبوي في فتح مكة ليكون منهاج الثوار في كل مكان وزمان.
 ع/خ

فتاوى
حكم من يحرم الأنثى من الميراث ويعطي الذكور فقط؟
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد قال تعالى:
} للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قلّ منه أو كثر نصيباً مفروضاً {.إنّ حرمان الأنثى من الميراث من أمر الجاهلية، وقد أبطله الإسلام، وفرض لكل صاحب نصيب نصيبه.قال القرطبي: « وقد نزلت الآية { للرجال نصيب} في أوس بن ثابت الأنصاري، توفي وترك امرأة يُقال لها أم ُ كحّة وثلاث بنات له منها، فقام رجلان هما ابن عم الميت ووصياه يقال لهما: سويد وعرفجة، فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته وبناته شيئاً، وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكراً ويقولون: لا يعطى إلا من قاتل على ظهور الخيل وطاعن بالرمح وضارب بالسيف وحاز الغنيمة، فذكرت أم كحة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهما، فقالا: يا رسول الله ولدها لا يركب فرساً، ولا يحمل كلا، ولا ينكأ عدواً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انصرفا حتى أنظر ما يحدث الله لي فيهنّ)، فأنزل الله هذه الآية رداً عليهم وإبطالا ً لقولهم وتصرفهم بجهلهم، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سويد وعرفجة ألا يفرقا من مال أوس شيئاً فإن الله جعل لبناته نصيباً ولم يبين كم هو حتى أنظر ما ينزل ربنا، فنزلت {يوصيكم الله في أولادكم} إلى قوله {الفوز العظيم}.
إن للأنثى حقاً ونصيباً في الميراث، على حسب ما قدره الله وأوجبه لها من نصيب مبين في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم، وإنّ الذي يحرمها نصيبها فقد اغتصب هذا الحق وأكل مالا ً حراماً بالباطل، وكان متعدياً لحدود الله تعالى، وعمل بعمل أهل الجاهلية فاستحق بذلك وعيد الله، فاتقوا الله في أولادكم واعدلوا كما ؛ فلا يجوز للأب حرمان بعض أولاده أو بناته إن قسم قبل وفاته، كما لا يجوز للأخوة حرمان الإناث نصيبهن من تركة قريبهن الميت.
قال الشيخ مصطفى الزرقا: « فلو قسم الأب أمواله وسجلها لأولاده الذكور في حياته على سبيل الهبة والتمليك ولم يعط بناته فقد ظلم، وعلى الأخوة إن فعل والدهم ذلك أن يرفعوا الإثم عن أبيهم فيعطوا أخواتهم، وليس للبنات مطالبة أخوتهم بما سجل وأعطى أبوهم لهم قبل وفاته» وقال د. القرضاوي: « فلا يحل لوالد أن يحرم بعض أولاده من الميراث، ولا يحل له أن يحرم الإناث أو يحرم أولاد زوجة غير محظية عنده، كما لا يحل لقريب أن يحرم قريبه المستحق من الميراث بحيلة يصطنعها.
وما يفعله الأخوة من سؤال أخواتهم إن كنّ يردن شيئاً من الميراث، ويقوم بتخجيلها أو تهديدها أو أي وسيلة ضغط مما يضطرها إلى المسامحة خوفاً منه فهذا حرام وظلم وعدوان، ولعلها إذا طالبت بحقها قطعها وعاداها؛ أما إذا كانت مُسامَحتها وتنازلها عن رضى وطيب نفس فلا حرج في ذلك.
 المجلس الإسلامي للإفتاء بيت المقدس.

الرجوع إلى الأعلى