لقد أعطيت هذه الأمة المباركة من الفضل والخير والبركة ما لم تعط أمة من الأمم السابقة، ومن أفضل ما أعطيت هذه الأمة ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، قال تعالى: (حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)الدخان:1-5، وقال: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ) القدر:1-3.
إعداد: د .عبد الرحمان خلفة
وتبدأ ليلة القدر من صلاة المغرب وتمتد حتى طلوع الفجر، ومن السنة تحريها والحرص على موافقتها، وقد أراد الله تعالى أن يعوض هذه الأمة عن قصر أعمارها، فغالب أعمار أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما بين الستين والسبعين، قال صلى الله عليه وسلم: (أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين) (رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم ووافقه الذهبي). فتعمل هذه الأمة القليل وتثاب بالأجر العظيم، فمنّ عليهم بهذه الليلة المباركة، فقد جاء في بعض كتب التفسير عن سبب نزول سورة القدر، ما روي عن علي بن عروة قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله ثمانين عاما لم يعصوه طرفة عين، فذكر أيوب وحزقيل بن العجوز ويوشع بن نون، قال فعجب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك. فأتاه جبريل يا محمد عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوه طرفة عين، فقد أنزل الله خير من ذلك فقرأ عليه إنا أنزلناه في ليلة القدر ثم وما أدراك ما ليلة القدر ثم ليلة القدر خير من ألف شهر هذا أفضل مما عجبت أنت وأمتك بذلك. فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وجاء فيها أيضا عن مجاهد قال: كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ثم يجاهد العدو بالنهار حتى يمسي، ففعل ذلك ألف شهر فأنزل الله هذه الآية: (ليلة القدر خير من ألف شهر)، قيام تلك الليلة خير من عمل ذلك الرجل ألف شهر، وقال مالك في الموطأ: سمعت من أثق به يقول: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أعمار الأمم قبله، فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر، وجعلها خيرا من ألف شهر).
تحري ليلة القدر والإكثار  من فعل الخير
وفي الحقيقة أن قيمة العمل ليس بطوله ولا بكثرة سنواته وإنما باغتنامه في الخير والعمل الصالح والأفعال النافعة، وقد صح في السنة أن كل واحد يوم القيامة قبل أن تزول قدمه عن ساحة الحساب سيسأله ربُّه تعالى عن شبابه فيما قضاه وعن عمره فيما أفناه، وقد روى مسلم أيضا عن أبي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ وَلَا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ إِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ انْقَطَعَ عَمَلُهُ وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلَّا خَيْرًا)، وعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:(مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ وَيُوَسَّعَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُدْفَعَ عَنْهُ مِيتَةُ السُّوءِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)أحمد،وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيَّانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: مَنْ خَيْرُ الرِّجَالِ يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ)، وَقَالَ الْآخَرُ: إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيْنَا فَبَابٌ نَتَمَسَّكُ بِهِ جَامِعٌ، قَالَ:(لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) أحمدوالترمذي، وفي رواية عنهما عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ:(مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ)، قَالَ: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ قَالَ:(مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ).فالذي يمدد العمر ويطيله ويطرح فيه البركة هو العمل الصالح، فقد روى البخاري ومسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:(مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ). فالمسلم إنما يطيل عمره بمسابقته إلى الأعمال الصالحة ومسارعته إلى الخيرات، بالصلاة والصيام والزكاة والذكر والدعاء وتلاوة القرآن، بالكلمة الطيبة، بصلة الرحم، بالإحسان إلى الوالدين والجيران، بإماطة الأذى عن الطريق، بالصدقة والعطف عن اليتيم والأرملة والمسكين، يطيل عمرَه بمدى خدمته لمجتمعه ونفعه لأمته، فقد يموت المسلم ويبقى الناس بعده يذكرونه بخير ويثنون عليه، ويموت آخرون وينسونه الناس مباشرة بعد رجوعهم من المقبرة.
فمن السنة التماس ليلة القدر وتحريها، والاجتهاد في عدم حرمان النفس من فضلها وبركتها، فعن مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب رحمهما كان يقول:(من شهد العشاء من ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها)، وعن مالك عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(هِيَ فِي رَمَضَانَ الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَإِنَّهَا وِتْرٌ فِي إِحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ أَوْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ أَوْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ أَوْ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ فَمَنْ قَامَهَا إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ)، وعَنْ عُقْبَةَ وَهُوَ ابْنُ حُرَيْثٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَإِنْ ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ فَلَا يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي) مسلم.
أ.د. كمال لدرع

 

الرجوع إلى الأعلى