الفحوصـــات الدورية.. ثقافــــة  محذوفـــة من قـــــاموس الجزائريين
لا تكاد المراجعة الدورية للطبيب لدى الجزائريين تخرج عن حدودها النظرية، مما يجعلها في قطيعة كلية عن الواقع، إذ يفتقر الغالبية لثقافة المراجعة الدورية تفاديا لظهور أمراض أو تطورها، نتيجة تناقضات يصنعها أشخاص لا يعيرون اهتماما لمبدأ "الوقاية خير من العلاج"، فيما تدخل في فلك الممنوع لدى من يعانون من فوبيا أو رهاب اكتشاف الأمراض الخطيرة.
الواقع يبين بأن ثقافة زيارة الطبيب بشكل دوري، أي مرة كل سنة أو كل ستة أشهر، أو حتى إجراء تحاليل طبية بين الحين
 و الآخر، بمثابة نظرية يقاطعها الجزائريون الذين يستمرون في السباحة عكس التيار، و يسقطون العمل بمبدأ "الوقاية خير من العلاج"، المقولة الحكيمة التي لا تمثل سوى عبارة يرددها البعض في مواقف معينة، وينسون أنها الأصل في الحماية الصحية للأفراد، و تجنيبهم التعايش مع أمراض قد تتطور، لتصبح خطيرة.
الألم فقط يدخل الجزائريين المستشفيات
و يعتبر واقع مختلف العيادات الطبية و المستشفيات، صورة عاكسة لحقيقة المجتمع، إذ لا نجد في قاعات الانتظار غير المرضى، و نادرا ما تصادفنا حالة تقول بأنها أتت فقط من أجل الفحص الدوري، فالرائج  أن الفرد الجزائري لا يزور الطبيب، إلا إذا إشتدت حالته، فيفرض عليه الوضع استشارة الطبيب، لأن ما يعانيه من آلام أو أعراض بدأت تزعجه و بات لا يتحملها، خاصة و أن الأمور في تطور مستمر.
و تكفي زيارة إحدى عيادات طب الأسنان للتأكد من ذلك، إذ تؤكد الأخصائية في طب و جراحة الأسنان ك،باية، بأن 90 في المائة من الحالات التي تزورها أرغمها الألم على ذلك، فالمرضى يحضرون لاقتلاع أضراس آلمتهم بشكل كبير، أو حشو و علاج أخرى أيضا بسبب الألم، فيما تقل حالات المعاينة الدورية لأجل حماية الأسنان من التسوس، بل تعتبر نادرة جدا، حسب الطبيبة، التي حذرت من التهاون في العناية بالأسنان ، خاصة و أنها ترتبط بشكل مباشر بعمل القلب و أعضاء أخرى كثيرة.
يسقط الكثير من الجزائريين مصطلح الطبيب و كذا الزيارات الدورية من قواميسهم المتعامل بها في حياتهم اليومية، بسبب الخوف الزائد أو الرهاب من اكتشاف الأمراض الخطيرة التي تنتشر في أوساط المجتمع بشكل رهيب، و هي أسباب يقول السيد معمر متقاعد، بأن الخوف الشديد وراء مقاطعته للطبيب، إذ يعاني منذ الصغر من هاجس الإصابة بأمراض خطيرة، و يفضل الاعتماد على التداوي بالأعشاب، الحمية و كذا الرياضة لمواجهة ما قد تعتريه من أمراض القولون، المعدة، و حتى آلام الرأس الوطن.
و يضيف السيد معمر، بأن إصابة أعداد كبيرة من الناس بأنواع مختلفة من الأمراض الخطيرة، خاصة السرطان، تجعله في خوف دائم من اكتشاف إصابته به  في حال زار الطبيب، و هذا ما يبقيه بعيدا عنه، كما تشكل إصابة بعض أفراد العائلة بأمراض خطيرة، سببا آخر في عزوف البعض عن زيارة الطبيب، خوفا في أن يكونوا حاملين أيضا لنفس الأمراض، كالسكري و ضغط الدم، دون مراعاة أهمية الفحص الدوري الذي من شأنه أن يجنب الفرد الإصابة بالمرض، بالاعتماد على حمية غذائية مثلا و إجراء تحاليل بين الفينة و الأخرى، تقيه من المرض على المدى البعيد و تجعله شخصا معافى و إن كان باقي أفراد أسرته يعانون من داء وراثي.
ارتفاع التكاليف و الاكتظاظ ينفران من الطبيب
لا يختلف اثنان على أن تكاليف المعاينة الطبية الواحدة، خاصة لدى الأطباء المختصين ببلادنا، تعرف ارتفاعا كبيرا، ما يجعل الكثيرين يركزون على زيارة الأطباء العامين أو العزوف عن الفحص كليا، إلا عند الضرورة القصوى، إذ تؤكد الطبيبة العامة سراح العيور ، بأن اعتماد مبالغ ضخمة للمعاينة الواحدة تتراوح بين 1800 دينار لدى الطبيب الحاصل على شهادة من الجزائر، و تصل إلى 5000 دينار لدى الطبيب الذي درس بالخارج، وراء عزوف كثيرين عن الفحوص الطبية، التي تبقى محكومة بالحاجة الماسة و الألم الكبير فقط.
و تضيف الطبيبة، بأن محدودية دخل أغلب الأسر، يجعلها لا تفكر في مبدأ الوقاية من خلال التردد الدوري على الطبيب الذي يكون آخر خيار بعد معاناة كبيرة مع المرض، كما أن لمشاهد الاكتظاظ و الازدحام التي ترتسم بصورة موحدة داخل المستشفيات و مختلف العيادات الطبية الخاصة، دور كبير في عزوف بعض الفئات عن زيارة الطبيب، إذ تقول السيدة مونية بأنها ترفض أن تقضي يوما كاملا أو ساعات طويلة في انتظار دورها، لأجل معاينة دون أعراض أي مرض، و هو تحليل يشاطرها فيه العديد ممن ينفرون من فوضى الانتظار، لأجل معاينة لدى الطبيب، قصد الاطمئنان على السلامة العامة للجسم.
طب العمل "دون عمل"
يعترف الكثير من العمال ببعض المؤسسات و حتى المستشفيات بأنه و على الرغم من وجود ما يعرف بطب العمل، إلا أنه لا يوفر أو يفرض الفحص الدوري للعمال، و هو التخصص الذي  يقولون بأنه يكتفي بإجراء فحوصات التحاق العامل بوظيفته في البداية، كما يتابع الحالات المرضية طوال المشوار المهني و العطل المرضية، فيما تعتمد عليها الدول المتطورة في حماية عمالها من الأمراض و متابعة حالتهم الصحية سنويا.
و بظهور ما يعرف بالاتفاقيات التي باتت تتبناها بعض المؤسسات لتوفير خدمة العلاج لموظفيها، وجد بعض العمال فيها ملاذا لبداية الأخذ بالفحص الدوري و الذي يعتمده البعض كل ستة أشهر، مثلما تؤكده موظفة بإحدى العيادات الخاصة بالجزائر العاصمة، إذ تقول بأن الكثير من موظفي هذه المؤسسات يحضرون بمعية أفراد عائلاتهم للمعاينات، رغم أنهم ليسوا مرضى، كما يجرون التحاليل بشكل مستمر، و ذلك حسب هؤلاء، لأن التعاضديات تغطي هذه التكاليف رغم أنها باهظة و تجعلها مجانية بالنسبة إليهم، فهم لا يدفعون سنتيما واحدا ما عدا بعض الوثائق، ما شجعهم على الخضوع للمعاينات من أجل وقاية أنفسهم من الأمراض، كما يقول أحد موظفي قطاع البريد.
العزوف عن الفحوصات يحول الجسم إلى مشتلة للأمراض
تشير أخصائية الطب الباطني الدكتورة بو الجدري كريمة، إلى أن افتقار غالبية المجتمع الجزائري للثقافة الصحية من خلال الفحص الدوري، يكرس انتشار الأمراض و تطور الخطيرة منها، ما يحول الجسم إلى مشتلة للأمراض في صمت كبير، خاصة بالنسبة للأمراض التي قد يحملها الجسم و ليس لها أعراض في بادئ الأمر. و تضيف الأخصائية بأن فوائد هذه الفحوصات عظيمة لتفادي الكثير من الأمراض مثل السكري و ارتفاع ضغط الدم مثلا، و التي يمكن تفاديها بالنسبة لمن يعاني بعض أفراد عائلتهم منها، كما أن الفحص يكشف بشكل مبكر عن الأمراض الخطيرة كالأورام و السرطانات التي يؤدي اكتشافها بشكل مبكر إلى علاجها بفعالية كسرطان الثدي مثلا.
كما تحذر الطبيبة من التهاون في التعامل مع بعض الأعراض أو الآلام في المفاصل و المعدة و القولون، و التي قد تخبئ وراءها أمراضا خطيرة، في حال لم يتم تشخيصها بشكل دقيق، و جلها أمور ترتبط بشكل مباشر بالفحص الدوري الذي يجنب الأمراض و التكاليف الباهظة التي تتكبدها الدولة و عائلة المريض في سبيل العلاج.                       

إيمان زياري

الرجوع إلى الأعلى