عزوف الشباب يطمس الموزاييك الحرفي بين أزقة  المدينة القديمة
تحت شعار " أتعلم وأترك " امتهن عمي . ب. موسى حرفة صنع وإصلاح الكير المعروف محليا لدى حرفيي الذهب والفضة بـ " الرابوز " بعد أن امتهن غيرها من الحرف قبل ذلك،  ابتداء من صنع وإصلاح الأحذية، إلى تجديد الأرائك العتيقة من نوع اللويس وكذا بيع الأحشاء في حي الجزارين، وصنع أغمدة السكاكين.
عمي موسى اكتشفنا محله الذي لا تتجاوز مساحته 3  متر مربع، صدفة بينما كنّا نشمّ عبق التاريخ وأريجه وسط المدينة القديمة، وصدفة تجلب نظرنا صورة اخترقت الزمن وعادت بنا إلى عصر الفحم والفحم الحجري، وقد ارتبطت في مخيلتنا بالحداد نافخ الكير، المفتول العضلات، وبيده حبل وفي الأخرى سيف وقد أخذ من اللهب الذي ينفث فيه الكير لونه.اقتربنا منه ومباشرة سألناه عما في يده وهو منهمك في إصلاح وترقيع جلده فأجاب بعفوية، رابوز، كانت لنا مع الرجل دردشة روى لنا فيها قصة رحلته مع الحرف الـتي استطاع بمدخولها البسيط أن ينجح في تعليم بناته اللواتي تخرجن كلهن من الجامعة، المهندسة والأستاذة والمحامية فيما فضل الذكور منهم مغادرة مقاعد الدراسة مبكـرا يقول محدّثنا.
وفي نفس الصدد أضاف أنه امتهن مساعدا لصانع ارائك، ثم غادرها إلى محلّ لصنع الأحذية، دون مقابل وكان مدخوله الوحيد عروض الترقيع وإصلاح الاحذية القديمة، حسب الاتفاق الذي ربطته بصاحب المحل الذي غادره بعد تراجع الطلب على الأحذية المصنوعة محليا، ليمتهن بعدها بيع الأحشاء في سوق الجزارين، وكان هذا النشاط في أوج أيامه، ولكن ظروفا خاصة أدت إلى ترك الحرفة، ومنها بدأ نشاطه في هذا المحل الذي أعاره من صاحبه دون مقابل، وبدأ بإصلاح الكراسي الصغيرة الخاصة بغرف نوم العرائس، وذلك بتجديدها بالنسبة للقطع العتيقة المصنوعة من الخشب الأحمر، وفي ظل اندثار صانعي ومصلحي الرابوز في المدينة عرض عليه بعض تجار الذهب محاولة اصلاح ما تلف لهم من أجهزة النفخ بعد أن رأوا منه الدقة والصبر في إصلاح ما يصله من كراس، فنجح في ذلك بعد أن فهم آلية عملها والقطع التي يتكون منها، فتحول إلى التخصص فيها وأصبح له زبائن من المدينة وخارجها، وبعضهم يطلبون عدة قطع لإعادة بيعها خارج قسنطينة، وبما أن الإقبال عليها يقل بين الحين والآخر، فهو يتنقل مع بعض زبائنه إلى بيوتهم لإصلاح كراس وصالونات عتيقة جراء ضيق محله، حيث يوجد من  يفضلون الاحتفاظ بها جراء نوعيتها ونوعية الخشب المصنوع منها، والتي يعشق التفنن في إعادة تألقها وكذا اعجابه الكبير بجودة  خشبها، إلاّ أن ذلك يقتصر على زبائنه ومعارفه دون غيرهم اتقاء شر الوقوع في نزاعات هو في غنى عنها. عمي موسى يعد اليوم حوالي 10 سنوات منذ عودته إلى ممارسته لنشاطه الحرفي الذي يعتز به، بعد تجربة طويلة مع بيع الأحشاء في الجزارين، يتأسف اليوم من عزوف الشباب عن تعلم الحرف التي تشكل تراثا للمدينة، مما جعل الكثير منها يزول ويندثر، على الرغم من ادراكه أن الحرفي ليس بتاجر ومدخوله غير قار ويتأثر بالمواسم والفصول، ولكن يرى أن على الانسان « أن يتعلم ويترك « متى يجد فرصا أحسن عوض جلوس المقاهي والاعتماد على الآخرين.
محدثنا أضاف أنه لما يمر بفترات قلة الإقبال على حرفه، يشغل نفسه بصناعة أغمدة السكاكين الجلدية ويتفنن في صنعها وتطريزها، لصالح زبائنه من  الجزارين وهم يستعملونها، أثناء قيامهم بعملهم خوفا من أن تصيبهم سكاكينهم الحادة أو تختفي وسط أكوام اللحوم والأحشاء، وهـو النشاط الذي يقول أن الإقبال عليه مقبول طوال السنة وأكد ذلك بنفاذ ما صنه من قطع، لينهي كلامه وحديثه معنا بحكمة تعلمها ممن سبقه ويتخذها شعارا في حياته أن " المعيشة تلقاط ".                  ص/ رضوان

الرجوع إلى الأعلى