قصبة قسنطينة..حصن منيع لا يعرف أسراره سوى طلبة الاستقلال
لا تشبه قصبة قسنطينة باقي قصبات الجزائر، فهذه الرقعة التي اختارت أعالي الصخر العتيق لتنأى بنفسها عن ضوضاء المدينة، كانت حصنا عسكريا منيعا منذ إنشائها في العهد البيزنطي بعد سقوط حكم الوندال، و لا تزال إلى يومنا هذا قلعة شامخة عالية الأسوار،لا يعلم أسرارها سوى طلبة الاستقلال و هم قلة قليلة ممن درسوا علم النفس و جراحة الأسنان و الهندسة، أما الشوارع و الأزقة المجاورة لها فقد سكنها أعيان المدينة، و ولد بين منازلها رائد النهضة الوطنية عبد الحميد بن باديس و عشقها الإمام المصلح محمد الغزالي.
نور الهدى طابي

القلعة البيزنطية التي بنيت على قاعدة تخفي أكبر خزان ماء روماني
يخلط الكثيرون بين القصبة الحقيقية وتعني اصطلاحا « مركز الحكم» ، و بين الشوارع و الأزقة التي تحيط بها، فحسب الباحث و المؤرخ حسين طاوطاو، فإن كل الأحياء و التفرعات القريبة من المحكمة العسكرية حاليا، على غرار بولمعيز و  حي سي عبد الله (مدخل كافي ريش) و سويداني بوجمعة، لا تنتمي إلى القصبة، بل هي محسوبة عليها و قد حملت اسمها فقط، وذلك لأن القصبة هي تلك الثكنة الكولونيالية العمران التي تتربع في أعالي الصخر العتيق، مطلة على الجهة الغربية لوادي الرمال و تحاور بجمال بنائها سحر تمثال النصر.
 وقد شيدت، حسبه، منذ ما يزيد عن 2000 عاما ، على غرار باقي قصبات الجزائر، على يد البيزنطيين الذين  اشتهروا بحصونهم المنيعة و تركيزهم دوائر الحكم داخلها، إذ كانوا يحيطون أهم جزء في المدينة بأسوار تقام خلفها مدن و في قلب هذه المدن تشيد عادة قلاع الحكام و العسكريين.
الباحث أوضح بأن الطبيعة العسكرية لقصبة قسنطينة، تعود لتلك الفترة و ليس إلى فترة الاستعمار الفرنسي التي تعتبر مجرد امتداد لمحطات تاريخية أخرى، تمركز خلالها حكام المدينة داخل أسوار الحصن، نظرا لموقعه الإستراتيجي، وذلك على غرار الإمارات العربية المتعاقبة على حكم المدينة كالزيريين و الحماديين و الحفصيين، الذين شيدوا مسجدا خاصا بهم على أنقاض معبد روماني قديم تم العثور على آثاره بالمنطقة، فضلا عن معالم أخرى أبرزها معبدين آخرين و خزان ماء روماني ضخم، شيدت فوقه الثكنة و قد زود قسنطينة بالمياه من خلال  قنوات كبيرة، يمكن أن يمر عبرها ثلاثة رجال، و قد اعتقد الكثير من سكان الأحياء القريبة من الثكنة لسنوات بأنها أنفاق سرية.
و يؤكد المتحدث بأن القلعة التي كانت تملك مدخلا واحد، قبل إنشاء الجسور المعلقة لم تشهد سوى تغييرات معمارية طفيفة إلى غاية سنوات الاستعمار، إذ أعادت فرنسا تشييدها من جديد و اتخذتها كمقر لقيادة الجيش، مع ذلك يشير الباحث الى أن القصبة، فقدت جزءا من صفتها المطلقة كمركز للحكم في نهاية الفترة العثمانية، و تحديدا خلال حكم أحمد باي القلي الذي توسع نزولا و اختار مقر المسرح الجهوي حاليا، لبناء ثكنة الجيش الإنكشاري.
لا يعرف  أسرارها سوى طلبة الاستقلال

هيبة قصبة قسنطينة لا تكمن فقط في أسوارها العالية، بل أيضا في كونها كانت و لا تزال منطقة عسكرية يحظر على المدنيين الاقتراب منها  أو تصوير محيطها، مع أن هذه القاعدة كسرت لفترة وجيزة بعد الاستقلال إلى غاية 1989، إذ تم تحويل جزء هام من الثكنة، إلى كليات درس بها طلبة علم النفس و البيطرة ، جراحة الأسنان و الهندسة المعمارية و الهندسة المدنية، وهم تقريبا الجيل الوحيد من أبناء قسنطينة الذين شاهدوا الحصن من الداخل، في حين يعتبره الأغلبية اليوم  سرا كبيرا يتوقون لفك طلاسمه و معرفة ما يختفي خلف أسواره التي تزينها من الخارج مستطيلات حجرية نقشت عليها كتابات رومانية.
حسب يمينة مهندسة معمارية كانت تدرس بالقصبة، فإن المكان كبير جدا من الداخل، و يتكون من طابقين، بالإضافة إلى طوابق تحت الأرض كانت تضم مدرجات ، بالإضافة إلى أقسام و مخابر و حتى مكان مخصص للحيوانات الموجهة لطلبة البيطرة.
 ما تحتفظ به ذاكرة محدثتنا عن الكلية السابقة هو صورة لحديقة واسعة و جميلة تزينها بعض الحجارة الرومانية، بالإضافة إلى ممرات تنتهي غالبيتها عند شرفات و نوافذ، تطل مباشرة على الجهة الغربية للصخر العتيق، وهو منظر ساحر أجمل ما فيه نصب الأموات و تمثال النصر، بالإضافة إلى ما بقي من درب السياح، و تلك المغارات التي حفرت في قلب الصخر.
 بدوره يتذكر سليم، أحد طلبة جراحة الأسنان السابقين، أيامه في الكليةـ الثكنة التي كان جزءا منها مخصصا لإقامة العسكريين، و كذا عمال سوناكوم الداخليين سنوات الثمانينات، يقول محدثنا "كان الشارع المتواجد خلف الكلية محطة للعربات التي تجرها أحصنة "الكاليش"، نركبها مقابل 2 دورو ، لنصل إلى مستشفى قسنطينة الجامعي، ثم تم تحويل المكان الى محطة لسيارات الأجرة".  
ذاكرة عمرانية تعتدي عليها الرطوبة و يؤذيها الإهمال

 يعد كل من مقري المجلس الشعبي الولائي السابق و المجلس الشعبي البلدي بشارع سويداني بوجمعة، من  بين أهم المعالم العمرانية التاريخية و الحضارية المتواجدة على مستوى الأزقة القريبة من القصبة، وهي تفرعات تحمل حاليا نفس الاسم، تماما كساحة سي الحواس، أين يتواجد قصر الحاج أحمد باي، التحفة المعمارية التي أهملت لفترة من الزمن، قبل أن يلتفت إليها المسؤولون خلال السنوات الماضية، و تبرمج لصالحها عمليات ترميم متتالية، سمحت بالحفاظ على جزء كبيرا منها، عكس المنازل الأخرى المتواجدة على مستوى الأزقة الفرعية، وهي منازل سكنها في القديم الأعيان و الحكام ، و هي تئن اليوم تحت وطأة الانهيارات الناجمة عن عوامل الطبيعة و اعتداءات بعض السكان الذين تعمدوا إحداث أضرار بأساساتها و جدرانها، للاستفادة من سكنات جديدة في إطار برامج الترحيل و إعادة الإسكان.
 دخلنا عددا من هذه المنازل،  ووقفنا على واقع مؤسف، فغالبيتها تعاني مشكل الانهيارات و تقطن في كل منزل أزيد من عائلة، وقد لاحظنا بأن الترميمات العشوائية  التي قام بها السكان، شوهت جمالها مع أنها حافظت نوعا ما على هندستها القريبة إلى منازل السويقة القديمة، الفرق الوحيد يكمن في أنها بيوت واسعة، منها ما هو خاص وليس جماعيا و هي تلك المنازل التي تعود في الأصل لنبلاء المدينة و أعيانها، فاحتفظت بمدخلها الواسع ، و سلالمها الخشبية و الإسمنتية المميزة، كما أن زرقة النيلة التي تزين الجدران تطالعك  أينما وليت نظرك، أما تفاصيل دهاليزها، فتمنحك شعورا بالرهبة و السحر في آن واحد.
على بعد أمتار قليلة من الثكنة العسكرية، و تحديدا بين أزقة شارع خراب السعيد، يوجد منزل العلامة عبد الحميد بن باديس، و هو معلم آخر يزيد من قيمة قصبة قسنطينة ، توجهنا إليه و قرعنا بابه مرارا، على أمل أن يفتح لنا أحد ، لكن محاولتنا فشلت، فاضطررنا للمغادرة.  و مررنا بمنزل آخر، يوجد خلف الثكنة تقيم به آخر راهبات قسنطينة إلى غاية يومنا هذا، بعد أن قمن بترميم أجزاء منه، وقد علمنا منهن أنهن اخترن القصبة لرحابة صدر أهلها، و كونها الحي الأكثر أمانا و أمنا لهن.
حانات الاستعمار و مجمع الخياطين في الاستقلال
 بقي اليوم من القصبة، ذلك الحي العتيق و الراقي، منازل آيلة للانهيار تجاور فيها العرب و اليهود أيام الاستعمار، و سكنها بالإضافة الى العلامة عبد الحميد بن باديس، كل من المغني اليهودي أنريكو ماسياس، و الإمام محمد الغزالي. و  يلاحظ المتجول بين أزقة و شوارع القصبة، بأن الكثير من سكانها يمتهنون الخياطة، فالمنطقة هي عبارة عن مجمع للخياطة الرجالية في قسنطينة، تقربنا من بعضهم و سألناهم عن سبب تمركز هذه الحرفة في ذلك الحي، فرد السيد  نور الدين حمدان، بأن القصبة كانت قديما مقرا لكبار الخياطين الفرنسيين في عهد الاستعمار، كون الحي بمثابة تجمع للمعمرين و العائلات النبيلة، و تعلم الجزائريون الحرفة منهم . محدثنا أضاف بأن الخياطة تعتبر النشاط الحرفي الوحيد تقريبا الذي كان يمارس بالقصبة، في حين كانت تشتهر خلال سنوات الاستعمار، باحتوائها على عدد كبير من الحانات حولت معظمها إلى مقاه و محلات بعد الاستقلال.