خرج بول أوستر من "حجرة الكتابة" تاركًا أبطاله لمصائرهم الغامضة وشعبًا يتيمًا في مختلف اللّغات، هو الذي فضّل أن يختتم الرحلة في الحجرة ذاتها التي شهدت ميلاد أبطاله، تمامًا كبطله العجوز "بلانك" المحتجز في غرفةٍ ليُحاسب على ما اقترف خياله.
يكشف التفاعل مع خبر غيّابه، أنّ هذا الكاتب نجح في إشاعة الألفة بين متلقي أدبه، في علاقة نادرة في عصرنا الذي تستأثر فيه فئات أخرى بتعلّق وهوس المحبّين، كنجوم الرياضة والغناء والتمثيل.
لكنّ كلمات أوستر أدخلته القلوب، لأنّه ببساطة أمسك بسرّ فنّ القصّ الجليل الذي ظل يعتبره ضروريا للحياة، ضرورة الغذاء والماء "لأننا جميعًا جوعى إلى القصّ" ولأن
"النّاس يعثـرون على كتابٍ في اللّحظة المناسبة ويكون إجابةً عن شيء ما"، كما يقول في إحدى حواراته، كما أنّ للكتاب دورة حياة تبدأ بإطلاقه وتستمرّ إلى الأبد، لذلك ينصحنا بعدم تصديق الذين يروّجون لمقولة موت الكتاب.
تعدّ العزلة تيمة أساسيّة في منجز هذا الكاتب، حيث يضطر أبطاله إلى البحث عن الحياة في حيّز ضيّق، كالغرف الموصدة، التي تتكرّر في أكثـر من عمل، لكنّ هؤلاء الغرباء الذين اخترعهم ورمى بهم في رحى المصادفات يشبهوننا، لذلك نحبّ قصصهم ونقرأها بشغف، كما نحبّ الزوايا التي يصطاد منها الحياة ويحوّلها إلى أدبٍ رفيع، بداية من العلاقة المُلتبسة مع الأب التي لم يكفّ الأدب عن مقاربتها منذ سوفوكليس ومرورا بالحبّ ومطباته والوحدة وهواجس الفقدان والموت، ومرورًا بالحياة التي لم تُعش، أي بالمسار الذي يمكن أن يقطعه الإنسان لو عاش رواية أخرى غير الرواية التي تقترحها حياته، مستدعيا الحلم لإسناد الحياة الناقصة.
وقدّم بول أوستر "سرديّة" مُضّادة للصورة النمطيّة التي كرّستها السينما عن أمريكا، إذ تظل شخوصه في دائرة الإنسانيّة، حيث الهشاشة والضّعف و الحماقة والجنون والفكاهة، حيث الأدب حياة حقيقيّة لا تقبل النسخ المزوّرة، في رؤية فنيّة يعزّزها موقف الكاتب المناهض لحروب آل بوش على العالم.
خرج كثير من الكتّاب من "غرفة أوستر"، لكن روايات الكاتب حافظت على فرادتها، مثل صاحبها الذي ظل وحيدًا في غرفته يخترع الغرابة التي يصدّقها الناس بلا تردّد.
سليم بوفنداسة