تكفّلت مواقع التواصل الاجتماعي بترتيب اهتمامات "الرأي العام"، مُنهية بذلك احتكار وسائل الإعلام التقليدية، لكنّها أرست، بالمقابل، معالم احتكارٍ جديد، من صفاته أنّه غير راشد ويفتقر إلى أدنى الأخلاقيات.
و المُلفت أنّ وسائل الإعلام باتت تُلاحق موجات الترند، متخفّفة من الضّوابط المهنيّة، مستعينة بمؤثرين، تحوّلوا فجأة إلى إعلاميين و فنّانين، زادهم الوحيد في ذلك حسابات تحصي مئات آلاف من المتابعين، يفاوضون بها المستخدم المتطلّع إلى أرقام تثـري رصيده الوهمي، مضحيّا، إن اقتضى الأمر، بتقاليد المهنة وبالقيّم التي لم تعد ملائمة لعصرنا الذي أبدع السيّد "آلان دونو" في وصف النظام المتحكّم فيه.
والحاصل أنّ الفأس قد استقرّت في الرأس، وأنّ توقّعات المختصّين مع انفجار تقنيّات التواصل، بتحوّل محرّكات البحث إلى رؤساء تحرير، قد تحقّقت، حيث أصبح ترتيب أهميّة الأخبار والمواضيع يخضع إلى الخوارزميات التي ترصد مزاج المتلقي، وليس إلى تدبير المختصّ حامل المعايير المهنيّة الحذر في إلقاء الأخبار على النّاس.
إنّنا أمام وضعيّة جديدة، يستثمر فيها مُستثمرون، و تسطعُ فيها نجوم ويبرزُ قادة رأي وتجار مناسبات. لكنّ المجتمع يبقى في حاجة إلى إعلام حقيقي وإلى مختصّين حقيقيين في مختلف المجالات ومثقّفين كبار يتدخلون في مختلف شؤون الحياة بنزاهة وحريّة وإلى استراتيجيات اتصال فعالة، لأنّ غياب الحقيقيّين سيتسبّب، مع مرور الوقت، في أنيميا في جسد المجتمع، يصعبُ الشّفاء منها.
فالتغيّرات التي يشهدها العالم تحتاجُ إلى قراءات عارفة، وقيادة الرأي تقتضي توفر عاملي العقل والمعرفة، وممارسة مهنة خطيرة كالإعلام مهمّة يجب أن تنهض بها نخبٌ متمرسّة ومتشبعة بالمهنيّة، لأنّ الإعلام ليس مجرّد ترويج أو حملات، بل هو حلقة بالغة الأهميّة في إدارة الحياة نفسها.
لذلك يبدو الفرز ضروريا لمنح الإعلام مصداقيّة، تمكنّه على الأقل من الحدّ من أضرار عواصف الميديا الجديدة التي تحرّكها أمزجة الجماهير ويجوز فيها اللّعب لمن يشاء، و ظواهر الكراهيّة والتنمّر والنيل من خصوصّيات النّاس ليست سوى مقدّمات لموجات مخيفة قادمة.
سليم بوفنداسة