سليم بوفنداسة
تحوّل تغليفُ الباطل برداء الحقّ إلى صِناعة مضمونة الرّواج، بسبب فوضى فكريّة ناجمة عن سيطرة السطحيّين على صناعة القرار في العالم، وهي وضعيّة فصّل فيها "ألان دونو" في كتابه البديع الذي يعدّ من أفضل التّشخيصات لحالة عصرنا، ولكن أيضًا بسبب استراتيجيات اتصال أصبحت تُباع كالذخيرة الحيّة، وتُستخدم في الحروب النّاعمة والحروب المتوحشة على حدّ سواء، ويجري تنفيذُها عبر مؤسّسات تقليديّة كالقنوات التلفزيونيّة وعبر مواقع التّواصل ومختلف المنصّات الالكترونيّة، وتقوم على إنتاج محتوى يؤذي الخصوم المستهدفين، سواء عبر تسريبات أو أخبار وتحاليل مُوجهة، وصناعة مُؤثرين غير ملتزمين بالقواعد المهنيّة والضوابط الأخلاقيّة وحتى عن طريق الأخبار الزّائفة التي يجري ترويجها على نطاقٍ واسعٍ، وقد تجد بين مستهلكيها ومشاركيها بعض الأفراد الذين يمارسون مهنة تقوم على التحقّق وتحري الدقة واسمها الصّحافة.
و يكفي أن تُلاحظ ما يُنشر هذه الأيام، لتعرف ما يمكن أن يفعله "النّاشر" بنفسه، و هو ينافس في فعله أفعال عدوّه.
لذلك لا تكفي الإشارة إلى التّضليل أو التحذير منه، بل يقتضي الأمر حماية المستهلك أو تقليل نسب تسمّمه عبر تقديم المعلومة الموثوقة و إنتاج المحتوى المُقنع الذي يعفيه من ملاحقة السّلع المغشوشة، بكل ما يتطلّبه ذلك من وجود مؤسّسات إعلاميّة قوية ومُؤثرة في الجمهور وقادرة على مجاراة جُنوحه نحو الفضاء الرقمي، وغير مستميتة في الإبقاء على برامج من نوع ما يطلبُه المستمعون، فلا أحد يطلب ولا أحد يستمع الآن، فكلّ شيء يقدّم من غير طلبٍ للمستهلك قبل أن يردّ له طرفه.
و لا يتوقّف إنتاج المحتوى هنا عند الحماية من الأذى بل يُقدّم صورة حقيقيّة تتحوّل مع الوقت إلى مصدر قوّة، وقد يكون المنتوج الهادف المُنجز بمهنيّة وحرفيّة وفي مناخ من الحريّة، خير وقاية من حملات التّضليل ولسعات الذّباب، لأنّه يغلق باب الحاجة فيبطل المفعول.
و قبل ذلك وبعده، علينا أن ندرك بأن المُمارسة الإعلاميّة ليست حرفة عاديّة، بل مهنة عاليّة المخاطر يفترضُ أن تنهض بها نخبٌ حقيقيّة تمتلك الأدوات ومُتشبّعة بالقيّم المهنيّة و الأخلاقيّة.