
يشكّل الاحترام الطوعيّ للقوانين عمومًا والأخلاقيّات النّاظمة للمِهن علامة نضج تبلغه المجتمعات، ينعكس في وعي الأفراد بواجباتهم واستعدادهم الطوعي للوفاء بالتزامات العقد الاجتماعي، بل إنّ بعض السلوكات تصبح جالبة للعار والتّحقير، في المجتمعات المتطوّرة، كالاعتداء على الطبيعة أو الفضاء العام وعدم احترام الدور في الفضاءات التجاريّة أو مواقع الخدمات، أو التّزوير للحصول على امتياز غير مستحقّ، ورفع الصّوت في مواقف تستدعي الصّمت!
وكذلك الشأن حين يتعلّق الأمر باحترام مواثيق الشّرف المهني الضّابطة لمهنٍ كالطبّ والمحاماة والصّحافة والتّعليم، وغيرها.
فهل يعقل، مثلًا، أن تستغلّ حاجة زبون إلى خدمتك لتحصّل فوق ما يتطلبّه حقك؟ وهل يُعقل أن تقوم بالمتاجرة بمآسي مرضاك على مواقع التّواصل الاجتماعيّ، كما يفعل بعض الأطباء الذين تحوّلوا إلى "مُؤثّرين"، فيهم من يروي تجارب مرضاه، أي أسرارهم، وفيهم حتى من يصف العلاج، وبينهم أطباء أمراض عقليّة تحوّلوا إلى "مشعوذين" لا يتوقّفون عن بثّ فيديوهات ترويجيّة لقدراتهم الخارقة يكفي تحليل بسيط لمحتواها لنعرف أنّهم في حاجة إلى علاجٍ يستدعي توقّفهم عن الخدمة.
وهل يليق بصحافيّ طلب "الأتعاب" أو قبولها من لاعبين "توسّط" في تحويلهم أو مواطنين نقل انشغالاتهم أو أن يُذيع على حسابه ما حصل عليه مقابل صفته التي يُؤجر عليها في موقعٍ آخر؟ وهل يجوز لمعلّم أن يتقاضى من وليّ تلميذ يدرّسه في المدرسة العموميّة مقابلا عن شرح الدروس في المستودع الخاصّ؟
إنّنا نشهد في هذا الزمن "التيكتوكي"، تآكل الأخلاقيّات أمام الاندفاع الأعمى الذي تحرّكه الشّهوات الالكترونيّة التي تسوق متسوّلي مكانة افتراضيّة نحو المسرح الهستيري، فضلًا عن الهوس المادي الذي تُغذّيه ثقافة السّوق.
وبقدر ما أصبح تحديث مواثيق الشّرف المهني ضروريًا لاستيعاب الوضعيّات الجديدة الناجمة عن الثورة التكنولوجيّة، مع ما يستدعيه ذلك من نقاش بين المهنيّين في مختلف القطاعات، بقدر ما يستوجب الأمر توجيه النّقاش السيّاسي نحو "مناطق ظلّ" في حياتنا الاجتماعيّة تم إغفالها تحت ضغط الهواجس الاقتصاديّة والأمنيّة، من أجل إعادة غرس ثقافة الالتزام التي تُغني عن الردّع وتُصالح الفرد مع فضائه وتمكّنه من أدوات الكبح الذاتي.
سليم بوفنداسة