ليس من السّهل علينا اليوم، مع هذه القبائل العنكبوتيّة اللامتناهية بكلّ اللّغات والثّقافات أن ننقد أو نقيّم أو حتى أن نُعرّف الشّعر؟ ولن نكون متأكدين، بسبب هذا القرب البشريّ غير المسبوق، من أنّ المقرّرات المدرسيّة في السّنوات القليلة القادمة قادرة على توجيه –ولو من أجل المرور من سنة إلى أخرى- الأفراد المفتوحين على ثقافات موازية، بما فيها ثقافة الحيّ المجاور بشعرائها ومغنّيها ومؤثريها إلى قراءة ما كان الذوق العام اِتّفق على جماله؟
فـ.ياسمينة بريهوم
فالبشريّة المرتبكة بعدُ بما فتحت لها التّكنولوجيا من آفاق، ستعرف كيف تُؤقلم مكتسباتِها مع الجِدّة غير المتناهية التّغيير، وسَتُرسي القيّم التي تخدم مراميها ومقاييس الفنون التي اِستعملت وانتهى الأمر، التّطبيقات، والأدوات التي تخلق الألحان والألوان، وحتى القصص والأشعار.
فيكفينا في بيئتنا العربيّة أنّ النّاس ما زالوا يحبّون الشّعر بل ويكتبونه. طمأنتني هذه النتيجة وأنا أقرأ ديوان “حان مستقبلي: سابقًا مشيتُ مع الفكرة حتى نهايتها، ثم واصلت وحدي”. للشّاعر الجزائريّ عمار مرياش. لأسأل هل يتوقّف قلب الشّعر عن النبض إذ يختفي الشّاعر عن الأنظار في ثقافة بلا ذاكرة، وبلا تقاليد ثقافيّة؟
فصاحب “الحبشة يليها النبيّ”، و”اِكتشاف العادي”، و”لا يا أستاذ”، اِختار منذ سنوات أن يكتب صمتا ورفضا، بعد الصدمة التي أحدثتها لغته في القصيدة آنذاك، واِنحاز إلى كتابة الحياة تمامًا كما تؤكّد الكاتبة الفرنسيّة مارغريت جورا حين تقول: “أن نكتب هو أيضا ألاّ نتكلّم، وأن نصمت، هو أن نصرخ دون جلبة”، وهو في ذلك يُمثّل جيل الصّدمة أي الجيل الّذي عايش الاِنتقال إلى التّعدديّة السّياسية في الجزائر، بما حقّق من تعدديّة ثقافيّة عبر العديد من المنابر: جماعة المعنى، مجلّة القصيدة التي أصدرتها جمعية الجاحظية، وترّأس تحريرها وغيرها من النّشاطات التي تفرّق أصحابها دون أن يستلم منهم المشعل أحد.
أوّل ما يستوقفنا في هذا الديوان هو عنوانه فيبدو أنّ الشّاعر ما زال يحب أن يضع القارئ على جمر الحيرة المثمرة، مُخلخلَة النموذج الذي ضيّق على القصيدة العربيّة أُفق تجريبها، أو لعلّه واعٍ من أنّه لا يمكن أن يعود إلى قُرّائه إلاّ بطمر البياض الذي خلّفه صمته بعد “لا يا أستاذ”، فيربأ الهوة التي حفرتها الأحداث والتغيّرات المحبطة لقلب شاب مفعم بالأماني والأحلام فيقول في التّقرير وهي القصيدة التي صدّرت الديوان:
«إنّه: ظلمتني العصافير في الشّجرة
ظلمتني العناكب والطُّحلبيات”. ص20
فالمستقبل/الماضي يعلن عن نفسه أخيرا، ويطالب بالوجود رغبة واِنتقاما ودون أن تهمل حيثياته كما نقلها الشّاعر، مُميطا بذلك وجه الحقيقة التي عايشها جيل مرّ شبابه في مقاومة الدمار والعنف الذي قطع عنه الطريق إلى مستقبل كان وشيكا: “كلّما شقّت الأرضَ سنبلةٌ... حاصرتها المدافع والحاصدات”
سأحاول قراءة هذا الديوان ذي القطع الصّغير، المنشور في دار خيال في السّنة الجارية 2024، بدءًا من الغلاف الجذّاب بألوانه المتعدّدة والمنسجمة وقد توّسّطتها لوحة رسم عليها العنوان الذي تستوقفنا فيه اللّفظة “سابقا” بما تخفي من حقائق قد تموّهها المستجدات والتغيّرات، إذ تصرّ على ضمان وصول الرسالة إلى عنوان من المحتمل أن يكون تغيّر في الأوراق والاِستعمالات، فتحيي ذاكرة يشكّ الشّاعر أنّها لم تعد موجودة. فـ”سابقا” وهي تختصر الكثير ممّا يمكن أن يغيب عن الذين لم يصلوا الأربعين اليوم، من أولئك الذين سمعوا عن الخوف والارتباك والشّك في جزائر التسعينيّات، ولم يعايشوه تعيد لهم الواقع سؤالا بسؤال وقلقا بقلق وخوفا بخوف، وتؤكّد لهم أنّ كلّ الإحباط الذي رافق الشّعر والكتابة في سياق هدّد الحياة كان حقيقة هدّدت الحياة وأخّرتها:
«كيف أرسم أفقا لغيري
ومستقبلي يتخبّط تحت الوحول
إنّني لست حيا ولا عائشا، إنّما
أتقوّت كالنمل كي لا أزول”.ص21
بعد ذلك تستوقفنا في ديوان “حان مستقبلي” مقدمة كتبها “السّعيد بوطاجين” وكأنّها مقدمة ضروريّة، أراد لها مرياش، أن تربط الماضي بالحاضر/المستقبل فتعيد إلى ذاكرتنا خصوصيّة لغة الشّاعر وفرادتها كما بدأت علامة فارقة في القصيدة الجزائريّة، سواء أمن حيث خروجها عن إلزامية الوزن والقافية، إلى القصيدة النثريّة أم من حيث ثورُتها على الفكرة الواحدة والقمع، كما عاشته الجزائر في إطار عالميّ، تداعى كما تداعت الكثير من المفاهيم والقيّم تحت وطأة الإمبرياليّة، أو من حيث تحويلها إلى هذا المعيش الجزائريّ اليوميّ إلى شعر قد يبدو بسيطا وساذجا، إنّما هي بساطة الشّعر الذي لا تخونه المفارقة والمفاجأة كما تميز الخصوصيّة الجزائريّة، التي كثيرا ما تضيع، في رأيي، في أشعار ذخيرتها صور وأخيلة من بنات أفكار الكُتب؛ فشِعر مرياش لا يصدر من إلهامات ثقافة طوباويّة، ولا خصوصياّت ثقافيّة مصطنعة وبعيدة وغريبة، ففي سجّله كلّ الروح الجزائريّة اليوميّة ليقول البيروقراطيّة، واِنعدام العدالة، وسحق الإنسان تحت عجلة التّهميش، والرأي الواحد وليد التطرّف الذي أحسب أنّ الشّاعر قاومه بكلماته من أوّل تفشّيه:
«أخبرني الكاهن جاءني الهدهد بالنبأ...
وإنّه: سيسقط العالم
صار كلّه خطأ.” ص30
في قصيدة “المحاولات” نكاد أن نجزم بوحدة الموضوع بينها وبين القصيدة السّابقة، ونحسب أنّ الغاية أن يكتمل هذا السّرد الذي تكتنز به تقنيّة الشّاعر القائمة أيضا على التّداعي الذي يكشف به ذاتا متمرّدة ترفض التّكميم والتّقييد، وكلّ ما حاولت آلة التّطرف الإدرايّ والسياسيّ أن تجتثه في بلاد “الرمان والعنب».
يصعب على القارئ أن يصنّف الشّاعر ولغته بين إسرافه في المباشرة والتي إذ تأملناها وجدناها تعجّ بالموسيقى، ولا تخلو من الإيماء والرمز أحيانا أخرى، وبين إلماحات صوفيّة مراوغة، وهي كلّها تفصح عن ثقافة أظنها خليط بين تراث عربيّ روحانيّ، وثقافة حديثة اِكتسبها الشّاعر من تكوينه الاِقتصاديّ والتّكنولوجيّ:
الذي ليس أعمى عن الحب يعرفني
والذي لست أهلا لتقبيل أثوابه
مَلكي وحبيبي وحبي
وليس مهما أغني لمن
أن أغني فذلك حسبي”. ص31
ومع بشاعة الواقع وسوداويته يعيش الشّاعر الحياة شاعرا فيعترف أنّ ما يهمّه هو قول الشّعر ومقاومة بؤسها. في ذلك لا يضع حواجز بين كينونته والعالم، بما أنّ الحياة تبدأ من الشّعر وبهجته وتنتهي إليه؛ ليحمّل القصيدة بألف ألم وألف أمل تكشفه الصوّر التي تزخر بها لغته:
«نضج الوهم في المزهريّة والماء لمّا يصل بعد»
صار طيورا خرافيّة” ص35
فما أقسى الوهم الذي صار نبتة جافة براعمها من القدم والألم صارت مزارا!
ثم لا يتوقّف الشّاعر عن إرباك اِنتظاراتنا، ورجّ اِستقبالنا بما نسمع من أصوات تحفظ الوزن ولكنّها تقلب الكلمات فنظن ذلك خطأ من أخطاء الطباعة، حتى إذا ما ركّزنا، اِكتشفنا أنّ الشّاعر الذي قد يبدو مستمتعا بما تجود به اللّغة من جمال، يقصد إلى أن يكشف لنا كم يضلّلنا المألوف والاِعتياد، وكم يتوّحد مع اللّغة حتى تعبّر عن الهذيان، من خلال كلمات تفقد معناها:
«والذكريات ترامكت كالحلم في الأطلال
صار الوحش ليلا مرعبا
والمايسين تلعق الفدلى
أنا لا أرفّق نيب كاذرتي وبلقي…”ص44
ودائما في قصيدة “أنا هكذا”، يواصل مرياش جمع الأسئلة والتأويلات العديدة فتأخذ الهويّة بعدا جديدا عند شاعر تحرّر من توجيهات السّياسة وضروراتها، فيعود إلى بدء التّاريخ بحقائق كانت دائما على أرض الجزائر، تؤكّد الاصطبار الذي عاشه الإنسان على هذه الأرض، وها هو اليوم في اِمتحان أقسى من كلّ الأوجاع التي ألمّت به يمتح من كهوف قوّته وكلّ العنف الذي يحفل به تاريخه لمواجهة هذا التّطرف:
«ولمّا لم أجد في الأرض أعداء رجعت إلى صغاري
شاهرا سيفي
سأنحرهم... لأكمل ما نذرت به لناري
لا بد من أن يبلغ الدم منكبي فرسي
فأمحو جملةً أسفي وعاري”.ص51
فكم يسهل علينا أن نحلّل أثر العنف الذي يظهر في الأثر الشفهيّ، وهو تراث يختصر تاريخ التّناحر كما تكشف عنه “يبلغ الدم منكبي فرسي” فمن من جيلنا لم يسمع “وصل الدم للركايب”، فالعبارات التي قد تبدو منافية للسجّل اللّغويّ الفصيح، في رأيي أعمق وأكثر إفصاحا وقربا من البنيّة النّفسيّة التي صنعت كلّ ذلك الدمار الذي نتغافل عنه وعن تأثيره في لغتنا وسلوكياتنا.
مع السّؤال “من أكون؟” في قصيدة “تاراتاتا” لا يشكّكنا الشّاعر في الحقائق التي كشفها النّص السّابق، بل يوثّق ربط المصير الفرديّ بالمصير العام، من خلال حكاية شاب عاش ريعان الطفولة بين الحقول وسذاجة الطّبيعة لعلّه هو نفسه الشّاعر عمار مرياش كما أكّد في النّص، أو أيّ شاب جزائريّ فتح ذراعيه للحلم والمستقبل الذي لم يكن قد حان، وهو يظنّ الحياة سهلة وعذبة وأنّ الشعر روحها! غير أنّ الواقع الذي اِستفاق عليه كان مليئا بالحدود والموانع والخوف:
«وهاجمني بعضهم بالعصيّ وبالشّتم..”ص57
ألذلك اِختار الشّاعر مثل جيل بأكمله المنفى الذي منحه أفق حلم واِنفتاحا على ثقافات عذبة لا تطالب الأفراد إلاّ بالعيش والاِستمتاع بحقهم في الجمال بعد أن أحبط مستقبله واقعا مليئا بالحدود والموانع والخوف؟
مع أنّ القصيدة المؤرخة في 2009 أي أنّها مكتوبة بعد اِستقرار الشّاعر في فرنسا، غير أنّ مرياش لم يشفَ من جرح الوطن، ألأنّه جرح الإنسان الذي تتجلّى مأساته في العلاقات المنكوبة والخادعة، كما أربكت الحياة والمستقبل الوشيك:
«مررت على هذه الأرض يا سيّدي عبثا
لم أحقق من الحلم شيئا”ص59
لا تترتّب قصائد الديوان زمنيّا، إنّما يربطها الهاجس نفسه، الحريّة والانطلاق الذي ضاق على الشّعر في الوطن الملاذ، فالشّاعر لا يتنكّر للبدايات، فقط يأمل في وطن بحجم الأمنيات والأساطير التي كانت بهيّة وكافية لصنع وطن يُغنّي الاِختلاف، ويحتفي بالتّنوع الذي فتح للشّاعر حضنا كبيرا على جسر “روتردام” حيث اِلتقى جنيّة من جنيّات الشّعر، وقد حوّلها إلى مشتهى:
«نشقّ صقيع هذا الصّبح فوق الجسر مبهورين
والجسر برد قاتل
وأنا وقطعة سكّر سمراء نهذي مثل سكرانين
والطّير تنقر عطرها
وأنا أعلّمها اِندهاشي قرب أصغر نأمة من صمتها
المطلق
فيما تعلّم دهشتي الألوان والمنطق”ص76
لا يتخلّى مرياش عن قاموسه وسبره لكلمات بسيطة يخلق بها صورة وحالة، وأظن أنّ هنا مكمن الشّعرية التي تربك الحواس وتشوّش رتابة الألفة ومنطقها؛ كأن يبدأ الكلمة ويعوّض الباقي بنقاط حذف تتيح للمتلقي حريّة التّأويل بما توقظ فيه من أسئلة واِحتمالات ليشارك الشّاعر حيرته وسؤاله: اذهبوا أنتم الـ… لقد فاتني.. وهي اِنبثاق الموسيقى والحركة داخل النّص إلى جانب المفارقات والأضداد التي تخطف الأذن والقلب.
أكثر من هذا يخلق الشّاعر أوزانا وكلمات قد تحتاج إلى تذييل كالطّحلباء الكائن الذي نحته من الطحلب والرتيلاء..أو كلمة الأسبعين وأرغب:
«فيطاردها الوعي في الأسبعين من رشده
وهي في أرغب رعشتها”ص36
أليس الشّعر حياة جديدة داخل اللّغة والأفكار تبيح للشّاعر ما لا يحقّ لغيره؟ فالشّعر هو ما يسبق ترسيخ المفاهيم أو المعرفة في صورتها الكلّية. حتى لأجد أنّ تعريف الشّاعرة الأمريكيّة إيميلي دينكسون للشّعر سينقذنا حتما للخروج من ورطات كثيرة بشأن التّفريق بين الشّعر من غيره: “أعرف أنّ ما أقرأ شعرا عندما يقشعرّ جسدي كلّه بردًا ولا يستطيع أي شيء تدفئته، فإذا شعرت وكأنّ هناك ما يقتلع قمة رأسي، أدركت أنّ ما أقرأ شعرا. إنّها الطريقة الوحيدة التي أعرف بها الشّعر من غيره. هل هناك طريقة أخرى؟». فما يكتب عمّار مرياش تجربة وتجريبا، شعر يقول الحياة بهشاشتها وجمالها وبؤسها ويتمسّك بالحلم ليتحدّى الحدود التي وضعها بعض البشر خوفا وضيقا، ويبني مستقبلا حان نوره وأضاءت بهجته كلمات كلّها بساطة وجمال.