تحولت مؤخرا، مكتبات خاصة بمدينة قسنطينة، من مجرد فضاءات لبيع الكتب، إلى فضاءات ثقافية تظم أنشطة متنوعة، وذلك بهدف استقطاب جمهور أوسع، والتعريف بالمكتبة كفضاء مفتوح للجميع للنشاط الفكري و الثقافي. وبحسب ما أكده مسيرون بمكتبات خاصة، فإن هذه التحولات جاءت نتيجة وعي عميق بضرورة استرجاع حضور الكتاب في المشهد الثقافي اليومي.
ربورتاج / لينة دلول
كسرت القالب التقليدي
لم تعد المكتبات الخاصة مجرد نقاط عادية لبيع الكتب، ولا فضاءات هادئة يزورها القارئ باحثا عن عنوان جديد، بل بدأت تتحول تدريجيا إلى مراكز ثقافية صغيرة تنبض بالحياة في محاولة لاستعادة دور لطالما ارتبط بها، حيث تحتضن فعاليات أدبية وفنية وترفيهية، وتفتح أبوابها لشرائح واسعة من المجتمع، من الأطفال إلى الكتاب والمبدعين.
هذا التحول اللافت لم يأت من فراغ، بل فرضته تحولات سوسيولوجية وثقافية عميقة، على رأسها تراجع المقروئية وهيمنة الوسائط الرقمية وما رافق ذلك من فتور في العلاقة بين الجمهور والكتاب الورقي.في ظل هذا الواقع، بادرت بعض المكتبات الخاصة بقسنطينة إلى إعادة تعريف نفسها، من خلال إدماج أنشطة ثقافية مرافقة للبيع، على غرار جلسات التوقيع، و ورشات الرسم والقراءة للأطفال، ومعارض الفن التشكيلي، وتنظيم لقاءات فكرية مع الكتاب والقراء.هذه المبادرات، وإن كانت في ظاهرها ترويجية، إلا أنها بحسب مسيري المكتبات تحمل بعدا أعمق يتصل بإعادة إحياء العلاقة بين الكتاب وجمهوره، وتقديم المكتبة كمكان حي يحتضن النقاش والتعلم والتفاعل.
ميديا بلوس حضن ثقافي لعديد المبادرات
تعتبر مكتبة ميديا بلوس، بوسط مدينة قسنطينة، لصاحبها الناشر سعيد ياسين حناشي، رائدة في مجال النشاط الثقافي، بل الرحم الذي حمل أولى المبادرات.
كانت المكتبة التي تقع بشارع عبان رمضان، محطة دائمة للمثقفين والكتاب منذ تأسيسها، وعرفت بمقهاها الثقافي الذي احتضن أسماء أدبية كبيرة من داخل وخارج الوطن. إلى جانب جلسات البيع بالإهداء التي تعتبر كذلك فرصة للاحتكاك بين الكاتب و قرائه، و بين عشاق الكتاب عموما. لم يتوقف حناشي، الذي أسس دار ميديا بلوس سنة 1991،عند حد انتقاء أجود الأعمال لإثراء المكتبة الأدبية المحلية والوطنية عموما، بعد امتلك استراتيجية ثقافية أشمل، قامت دائما على اللقاء والنقاش الفكري وهو ما حرص عليه طوال سنوات من خلال نشاط الصالون الثقافي الذي استحدثه في فضاء خلفي تابع لمكتبته، فأكسبها مكانة مرموقة في الوسط الثقافي بقسنطينة و الجزائر عامة، خصوصا وأن الصالون والمكتبة حظيا على مر السنوات بوفاء النخبة واحترامها بالنظر إلى مستوى اللقاءات التي كانت تدار هناك.وتعتبر الأنشطة الثقافية من قبيل المقاهي الأدبية، وحلقات النقاش والقراءة الجماعية، و حتى عروض كتاب الجيب التي انتشرت بقوة سنة 2003، من منتجات ميديا بليس وبنات أفكار صاحبها، الذي أسس لتقليد بات اليوم حبل نجاة تتشبث به باقي المكتبات للصمود والاستمرارية.
أوراق ليلية و بطاقة وفاء
وكانت المكتبة قد شكلت أيضا عنوانا ثقافيا رمضانيا مهما خلال عديد المواسم، بفضل لقاءات أطلق عليها حناشي « صفحات ليلية»، كانت تجمع مثقفين و كتابا وشخصيات من المدينة حول أوراق أدبية وثقافية وإبريق شاي.
كما أطلق الناشر وصاحب المكتبة قبل سنوات كذلك، صيغة « بطاقة الوفاء»، وكان سباقا لتطبيق هذا النمط الترويجي للكتاب في المدينة، مع تخصيص باقات للطلبة و الشباب و الأطفال.
وكان الكاتب و الوزير الأسبق حميد قرين، قد ثمن كل ما قامت به ميديا بلوس من مبادرات يعاد استنساخها أو تطويرها اليوم، وكتب في مقال له عن صاحبها ياسين سعيد حناشي :» عرفته في مكتبة «ميديا بلوس» بقسنطينة، صاحب الشوارب الضخمة التي تكاد تغطي وجهه كله، وتعطيه هذا المظهر بأنه «صارم»، نعم، صارم في حبه لكتبه، ولا يجعله ذلك متلاعبا، أو هو متلاعب قليلا بالكتب أو بالكم الهائل منها الذي تضمه رفوف مكتبه ميديا بلوس»
« أجل، لقد اختار هذا الحب الصعب، الذي لا ينقصه حب وشغف وميل وولع وتكريس لوقته سوى أن ينام معها، صارت مكتبة ميديا بلوس بقسنطينة، مع مرور الوقت، معلما ومقصدا كبيرا لا يمكن نكرانه، بل وملتقى للأدباء والباحثين والشغوفين بالعلم والكتب، وصارت بذلك «موعدا» هاما لديهم للالتقاء ببيت ثان.
أنشطة جاءت استجابة لمتطلبات اجتماعية
من جهته، يرى ناصري محسن، صاحب مكتبة لاروز، أن تحول المكتبة من مجرد فضاء لبيع الكتب إلى فضاء ثقافي حي ينظم أنشطة متنوعة، لم يكن مجرد خيار عابر، بل كان نتيجة وعي عميق بتحولات العلاقة بين المجتمع والقراءة، وبضرورة استرجاع حضور الكتاب في المشهد الثقافي اليومي. ويقول ناصري في هذا السياق :» لقد شعرنا بأن الكتاب لم يعد في قلب الاهتمام العام كما كان في السابق، وبأن ثقافة القراءة تتراجع بشكل مقلق، خاصة مع صعود الوسائط الرقمية وهيمنة الإنترنت على أنماط الاستهلاك المعرفي».
يواصل « القارئ اليوم يتابع عناوين مغرية على الإنترنت لكنه لا يعرف دائما أين يجد الكتاب، فقررنا أن نكون ذلك الجسر بين فضول الإنترنت وفضاء المعرفة الحقيقي ومن هنا، جاء قرار توسيع نشاط المكتبة، لتتحول إلى فضاء يجمع بين بيع الكتب، وتنظيم جلسات توقيع، وورشات موجهة للأطفال، وجلسات قراءة ونقاش ثقافية، بهدف استقطاب جمهور أوسع، والتعريف بالمكتبة كفضاء مفتوح للجميع، وليس محل تجاري». متابعا بالقول :» أردنا أن نوجد علاقة جديدة بين القراء والمكتبة، وأن نعيد تعريفها كمكان تفاعلي، يتعرف فيه الزوار على الكتب، ويستهلكون منتجات فكرية، وفي نفس الوقت يشاركون في أنشطة ثقافية يستفيد منها المجتمع ككل».وأكد المتحدث، بأنهم يستهدفون الفئة القارئة في المقام الأول، لكنهم يطمحون أيضا إلى اكتساب ثقة فئات جديدة، خاصة الأطفال والشباب من خلال الورشات والحلقات الأدبية.
إقبال متوسط على الأنشطة
ويؤكد ناصري، أن الإقبال على هذه الأنشطة يبقى في مستوى متوسط ويعود ذلك بحسبه، إلى ضعف ثقافة الحضور إلى جلسات التوقيع في مدينة قسنطينة، حيث لا يزال هذا التقليد الثقافي يحتاج إلى ترسيخ أعمق. مؤكدا، أنه غالبا ما يكون الحاضرون في مثل هذه الفعاليات من الكتاب أنفسهم أو من محيطهم الأدبي، ما يعني أن علينا بذل مجهود أكبر لجذب الجمهور العام كما عبر.
وأضاف ناصري، أن جلسات التوقيع والمقابلات الأدبية تحتل حيزا مهما من نشاط المكتبة، حيث تتم دعوة كتاب محليين أو مؤلفين إصدارات حديثة، وأسماء لها حضور بارز في الفضاء المحلي مثل الكاتب مراد بوكرزازة. يجري اختيارهم وفق معايير تعتمد بالأساس على شعبية الإصدار أو صلة الكاتب بالمدينة. وأوضح المتحدث، بأنهم ينظمون هذه الجلسات بشكل فردي، دون شراكات مباشرة مع دور النشر أو المؤسسات الثقافية، ما يجعلهم يتحملون كل الأعباء التنظيمية والمالية بأنفسهم.
وفيما يتعلق بـالورشات الموجهة للأطفال، أكد المتحدث بأنها تأخذ طابعا ترفيهيا وتربويا في الآن نفسه، حيث تشمل أنشطة الرسم، والرسم على الوجوه، والحكواتي، والعروض الفنية المبسطة، وكلها تهدف إلى تحبيب الطفل في عالم الكتاب والقراءة منذ الصغر. كما أكد، بأنهم لا يستهدفون فقط تعليم الأطفال القراءة، بل أيضا تعزيز مهاراتهم في التعبير، والتفاعل الاجتماعي، والتواصل الإيجابي مع المحيط.
أما جلسات القراءة فأوضح ناصري، بأنها مفتوحة لكل الفئات، دون قيود على السن أو الخلفية الثقافية، وهو ما يتناغم مع روح المكتبة الجديدة التي تسعى إلى بناء فضاء جامع وحيوي للثقافة.
يعترف ناصري، أنه رغم كل هذه المبادرات فإن الطريق طويل، وأن المشروع يواجه تحديات كبيرة على رأسها التمويل، حيث تتطلب هذه الأنشطة استثمارات مادية لا تتناسب غالبا مع المداخيل المحدودة التي تجنيها المكتبة من بيع الكتب. مؤكدا بأن الإشهار والترويج يستهلكان جزءا كبيرا من الميزانية، بينما المداخيل تبقى ضئيلة مقارنة بالجهد المبذول، معلقا:» مستمرون لأننا نؤمن برسالتنا الثقافية».
التفاعل حتمية لإحياء الكتاب واستعادة القارئ
يؤكد حسان عبديش، مسؤول مكتبة بوكزون بقسنطينة، أن تنظيم الأنشطة الثقافية داخل فضاء المكتبة لم يعد خيارا ترفيهيا أو مجرد مبادرة موسمية، بل تحول إلى ضرورة فرضها الواقع الثقافي، خاصة في ظل التراجع الملحوظ في معدل قراءة الكتب. وأضاف المتحدث، بأنه أصبح من الحتمي التفكير في طرق بديلة لإعادة ربط الجمهور بالكتاب، وجعل المكتبة فضاء نابضا بالحياة وليس مجرد رفوف صامتة تنتظر زبائنها.
مشيرا في ذات السياق، إلى أن من بين أبرز الأنشطة التي تنظمها مكتبة بوكزون، جلسات البيع بالتوقيع لفائدة الكتاب الذين صدرت لهم مؤلفات جديدة، حيث يتم التنسيق معهم مباشرة بناء على مستجداتهم الأدبية، وأحيانا تلبية لطلب الجمهور الذي يرغب في لقاء كاتب معين.كما أكد، بأنهم يحرصون على أن يكون ضيوفهم من أصحاب الإصدارات الجديدة، لنمنح القارئ فرصة التواصل المباشر مع المؤلف، وهو ما يعزز العلاقة بين الكاتب وجمهوره ويمنح الكتاب فرصة ترويجية أكبر .وأشار المتحدث، بأن هذه الأنشطة جاءت كمطلب مباشر من بعض الزبائن والمحبين للكتاب، ولكنها في الوقت ذاته وسيلة تسويقية فعالة، لأن الكتاب لم يعد يُقرأ كما في السابق، بل صار يحتاج إلى من يقدمه بشكل تفاعلي وجذاب، مؤكدا في ذات السياق، بأن هذه المبادرات ساعدتهم في إعادة إحياء العلاقة بين النص والقارئ، وفي تعزيز حركة المبيعات.
وإلى جانب جلسات التوقيع، تنظم مكتبة بوكزون أيضا، معارض فنية للرسم، حيث تفتح أبوابها أمام الفنانين التشكيليين لعرض لوحاتهم داخل فضائها، ما يحقق تداخلا فنيا وثقافيا يثري تجربة الزائر ويجعل من المكتبة مساحة للإلهام البصري والفكري معا
برامج موجهة خصيصا للأطفال
ولم تغفل المكتبة عن الفئة الناشئة، حيث تحرص على تخصيص برامج موجهة للأطفال، تتنوع بين ورشات الرسم، وألعاب الذكاء «مثل سوروبان»، بالإضافة إلى تنظيم مسابقات في المطالعة والقراءة الجماعية.
وأكد عبديش، أن هذه الورشات لا تنظم بطريقة عشوائية، بل يستعان فيها بمختصين في أدب الطفل والتربية، من أجل ضمان محتوى تربوي هادف ومناسب للفئة العمرية المستهدفة.مؤكدا، أن الهدف الأساسي من الفعالية، هو تحبيب الطفل في عالم الكتاب منذ سن مبكرة، وتطوير قدراته على التعبير والتفاعل والمشاركة.وعن مدى تجاوب الجمهور مع هذه المبادرات، يشير المتحدث إلى أن الإقبال كبير ومتنوع، ويشمل مختلف الفئات، لكن الفئة الأبرز التي تفاعلت معنا هم الشباب والأطفال، مما يؤشر على رغبة حقيقية في العودة إلى فضاءات الثقافة، شرط أن تكون هذه الأخيرة مغرية ومواكبة لتغيرات المجتمع. كما أوضح، بأنه لمسوا بشكل مباشر تأثير هذه الأنشطة على المبيعات، خاصة خلال أيام المعارض أو الورشات، حيث يُقبل المشاركون على شراء الكتب بكثافة، ما يعكس أهمية الجمع بين الترويج الثقافي والتجاري بطريقة ذكية تحترم القارئ وتخاطب فضوله.
لينة دلول