الجمعة 13 جوان 2025 الموافق لـ 16 ذو الحجة 1446
Accueil Top Pub

بختي بن عودة.. محاولة أخرى ضدّ النسيان

تحلُ هذا الخميس 22 ماي، الذكرى 30 لاِغتيال الكاتب والباحث والمُفكر بختي بن عودة، ( 1961–1995 ). بختي بن عودة الّذي كان «يتكفل على الدوام بمراقبة عدم النسيان»، هكذا كَتَبَ ذات يوم وهو ينعي صديقه (عمار بلحسن). وها هي ذكرى رحيله تأتي لتذكرنا أنّه من الضروري أن نتكفل بمراقبة عدم النسيان. وأنّه من الضروري اِستدعاء أثر وفكر بن عودة ومقاربته وتناوله في الفضاءات الأكاديمية والفكرية والفلسفية والأدبية والبحثية. وأنّ الذكرى مُناسبة أخرى لتجديد قيم الوفاء والعرفان لمن أعطوا أعمارهم وحياتهم للفكر والفن والأدب. بختي الأستاذ الجامعي والناقد والشاعر والمُفكر الحداثي التنويري ابن مدينة معسكر، عمل بجريدة الجمهورية، وكان رئيس تحرير مجلة التبيين لجمعية الجاحظية، نَشر مقالاته ودراساته وأشعاره ومقارباته في معظم الجرائد الجزائرية والمجلات العربية. صَدَرَ له كِتاب «رنين الحداثة» عن منشورات الاِختلاف، العام 1999، وهذا بعد سنوات من رحيله. كما صدر له بعدها كِتاب «ظاهرة الكتابة في النّقد الجديد.. مقاربة تأويلية».

أعدت الملف: نوّارة لحـرش

«كراس الثقافة» في عدده لهذا الأسبوع، يستحضر بختي بن عوده، من خلال شهادات ومساهمات بعض المشتغلين بالنقد والفِكر والفلسفة. وهي شهادات، تُؤكد أنّ بختي الحاضر بفكره ومقالاته ودراساته، لا يعرف كيف يغيب تمامًا. لأنّه ظل حاضرًا رغم
إثم الاِغتيال.

* الأستاذ والباحث أحمد عطار
من أبرز الأصوات التي سعت إلى تجديد الخطاب الثقافي والفكري في الجزائر
يُؤكد الدكتور أحمد عطار (مدير مخبر الفينومينولوجيا وأستاذ بقسم الفلسفة، جامعة تلمسان)، أنّ بختي بن عودة كاتب ومفكر جزائري جريء، ويُعد من أبرز الأصوات التي سعت إلى تجديد الخطاب الثقافي والفكري في الجزائر. اِرتبط اِسمه بالفكر الحداثي والنقدي، إذ عمل على تجاوز النماذج التقليدية والاِنغلاق الإيديولوجي، مُنفتحًا على قيم التعدّديّة، والعقلانيّة، والديمقراطيّة.
وأردف في ذات السّياق: «ينتمي بختي إلى جيل ما بعد الاِستقلال، والّذي وجد نفسه أمام تحديات فكرية عميقة، أبرزها سؤال الهوية في ظل العولمة، ومعاناة الواقع من مظاهر التخلف ومقاومة الحداثة من قِبل دغمائيات مغلقة. وسط هذا الصخب، برز صوت بختي بن عودة كمُثقف يسعى إلى الخلاص من التكرار والاِنغلاق، من خلال دعوته إلى الاِنفتاح الثقافي وتبني الفكر النقدي. وقد جعلت هذه المقاربة من بختي صوتًا فكريًا مُميزًا في المشهد الثقافي الجزائري».
مُشيرًا إلى أنّ أكبر سؤال اِشتغل عليه بختي بن عودة، هو سؤال الحداثة، مفهوماً وتأويلاً ومقاربة وفكرًا. وهُنا يقول: «يُعد كِتابه (رنين الحداثة)، من أبرز ما كُتِبَ عن الحداثة في الجزائر، بل يُمكن اِعتباره بيانًا فكريًا لمفهومها. لم يكن بختي مُنبهرًا بها اِنبهارًا أعمى، بل مَارَسَ تجاهها نقدًا عميقًا، كاشفًا عن تناقضاتها ومحدودياتها، ومُقارنًا بينها وبين أطروحات ما بعد الحداثة».
مُضيفًا: «لقد تأثر بختي بن عودة بفلاسفة كِبار مثل جاك دريدا وميشال فوكو، وسعى إلى إدماج أفكارهم في السّياق الثقافي والنقدي الجزائري، بِمَا يتناسب مع واقع المُجتمع المحلي وتاريخه المُتعدّد. كانت محاضراته، سواء في الجامعة أو في الفضاءات الثّقافيّة، منابر لبث أفكاره حول الحرية، والعقلانية، وقبول الاِختلاف، والحاجة إلى مُراجعة الموروث الثقافي والاِجتماعي».
ذات المُتحدّث، واصل قائلاً: «رأى بختي أنّ الهوية ليست جوهرًا ثابتًا بل بناء فسيفسائي مُتعدّد، لا يجوز اِختزاله في رواية أُحادية. وكان يُؤمن بأنّ المُصالحة مع الذات وتاريخ الجزائر المُتنوع هي الطريق إلى الاِنفتاح والتنوع والتقدم، بدل الاِنكفاء على هويات ضيقة تقوم على الجهوية أو القبلية».
الدكتور عطار، يرى، أنّ بن عودة مَثَّلَ جيلًا من المثقفين الطامحين إلى إحداث قطيعة مع الفكر الرجعي والاِنخراط في مسار حداثي حقيقي. وأنّ اِغتياله، يعكس -حينها- أزمة مُجتمع يخشى مُواجهة نفسه، ماضيه، وحاضره.
مُؤكدًا أنّ اِغتياله لم يكن مُجرّد إسكات لصوت فرد، بل كان مُحاولة لإسكات مشروع تنويري يسعى إلى نقل الجزائر إلى مصاف المجتمعات الحديثة.
واختتم قائلاً: «يبقى بختي بن عودة رمزًا للفكر الحداثي والنقدي في الجزائر، وقد ترك إرثًا فكريًا غنيًا ما زال يُلهِمُ أجيالًا من المُثقفين. مشروعه الفكري، القائم على الحوار، والاِنفتاح، والمُراجعة النقدية للذات، يظلُ حاضرًا وفاعلًا في النقاشات الأدبيّة والفكريّة المُعاصرة. لقد كان صوتًا لـ(دويّ الحداثة)، لا مجرّد صدى لها».

* الباحث وأستاذ الفلسفة عبد القادر بودومة
كتاباته لا تنتمي إلى السؤال التصنيفي المُبتذل
يقول الباحث وأستاذ الفلسفة الدكتور عبد القادر بودومة من جامعة تلمسان: «لقد أدرك (بختي بن عودة) وبوعي أنّ ساعة الموت لا تُحدّد بقرار ولا بمرسوم. لأنّه وعلى خلاف بعض الكُتّاب كان يرفض الكتابة عن سيرته الذاتية. بل كان يُؤلمه ما آلت إليه أوضاع البلاد من كارثة ،وانحطاط أَلَمَ بالمجتمع الجزائري عبر إستراتيجية التتفيه والتسطيح الثقافيين، وهيمنة الامتثالية والتقديس، الموت ورفض الحياة والتعجيل بتدميرها بالإضافة إلى الاِنحطاط المعيشي والوجودي».
يُضيف المتحدث مُتسائلاً: «ما قيمة الكِتابة بَعيدًا عن معاناة المجتمع الّذي ننتمي إليه؟ إنّ الذين يموتون يصنعون حيلة خبيثة نحو الأحياء يتوارون تاركين لهؤلاء مهمة تفسير فكرهم. أي أن يتجادلوا حول ما قالوه، وما كان مُمكنًا أن يقولوه، وما كان عليهم أن يقولوه، بل وحول ما لم يقولوه أيضًا».
ثمَ أردفَ مُؤكدًا: «الحق أنّ كتابات بن عودة العديدة والمُختلفة لا تنتمي إلى السؤال التصنيفي المُبتذل، لأنّ الكتابة عنده تُزاوج بين الأدب والفلسفة. والسؤال لآت ينبغي أن يقف عند حدود الاِنتقائيّة والتصنيفيّة أو الاِنتمائيّة بقدر ما يتعلق بنا نحن. كلّ الأسئلة ينبغي أن تُوجه إلينا، تلك المُرتبطة بأولئك الذين فارقوا وغادروا الأماكن التي ما زالت قائمة تشهدُ على مرورهم، على عبورهم وعلى مكوثهم أيضًا. إنّها اللحظة التي تُمدِّد الحداد جاعلةً منه مُستحيلاً. وليسَ أبدًا في التهافت على كتابات الغير سوى تفسخ مُعلن، وهدرٌ لكتابة جديدة التي يتحملها النقد الجديد والّذي حاول بن عودة رسم ملامحه الأولى عبر قراءاته التحليلية لظاهرة الكتابة عند ألخطيبي».
وفي ذات السّياق، واصل قائلاً: «لقد اِحترق (بن عودة) بلهيب الكتابة. ومن يحترق بنار الكتابة هو الناعم برضي الإله. لقد تميّزت الكتابة بالنسبة إلى بن عودة بقوانين منسقة ومنتمية إلى إيقاع سقوط الجسد الأوّل وإلى اللّغة التي تسكنه من الداخل جاعلةً منه يُعَبِر عَمَ يوجد بداخله هذا من الخارج إنّها ليست مجرّد رسم على البياض وإنّما هي اِنعكاس لأُفق قدرة الإنسان. وبتناوله للكتابة كظاهرة أكد على أنّها من سلطة جذرية ضمن النص وخارجه».
مُشيرًا إلى أنّ بن عودة، كان شهيدًا وشاهدًا في آن، وهذا ما خلص إليه في الأخير: «لقد كَتَبَ بن عودة في كلّ ما كتبه ليكون شاهدًا على الصراع وعلى توزيع ثقافة الحقد والكراهية التي عمَّت المجتمع الجزائري. وتقتات كتاباته من الحقائق الداخلية. يقول كلّ شيء هو موجود بالداخل لأنّه أحس ذات يوم أنّه ليس حرًا، كان لا يزال يفضل العيش على ذاكرة الكلمات، يفتحُ بها السر الأبدي، سر اللحد. يكتب لينعي وفاته. لأنّه يعلم أنّ المُستقبل لن يأتيه إلاّ من لدن الشخص المنعي، أن نعتبر أنفسنا أمواتًا هي لحظة بدء الكتابة وفي اللحظة عينها ندرك بوعي الحياة».

* القاص والناقد قلولي بن ساعد
من أوائل الذين أحدثوا قطيعة معرفية مع أساسيات النقد الإيديولوجي
يرى القاص والناقد قلولي بن ساعد، أنّ بختي بن عودة يُعتبر من أوائل النُقاد الجزائريين الذين أحدثوا قطيعة معرفية نهاية الثمانينات مع أساسيات النقد الإيديولوجي والسّياقي الّذي كان سائدًا في تلك الفترة، باِنتباهه المُبكر على ضرورة الاِنفتاح على الفتوحات المعرفيّة والفلسفيّة المُنبثقة عن علوم الإنسان والمجتمع والوجود والكينونة والتّاريخ، إيمانًا منه بوجود تباعد كبير بين النص الأدبي الجزائري والتحوّلات التي تأسَسَ عليها من حولنا الفِكر المُعاصر.دون أن يتناسى -يُضيف المُتحدّث- شروط خصوبة هذه المعرفة النقدية وقابليتها لأن تَمُدَ النص الإبداعي الجزائري بأشعتها الكفيلة بإضاءة مضمراته وجوانبه الداجية أو «إنتاجيتها النّصيّة» بتعبير جوليا كريستيفا.
مواصلاً في ذات المعطى: «ويزداد الأمر تفاقمًا حين نتأمّل لغة بختي بن عودة الاِصطلاحية العميقة الغائرة التي ينبني عليها مفهوم (الكتابة والاِختلاف) عند جاك دريدا وغيره من فلاسفة الاِختلاف كجيل دولوز وميشال فوكو، خاصةً دريدا على اِعتبار أنّ (هذا العالم أصبح دريديا)، كما تُعبر عن ذلك إليزابيث رودينسكو في كتابها المشترك مع دريدا (ماذا عن غد التفكيك)، الّذي كان يُشكل مرجعيّة مركزيّة لدى بختي بن عودة فيما يتصل (باللوغوس)».
وهنا أردفَ: «تَسَلَحَ بن عودة، هذا الباحث والناقد المُتميز، رغم عمره القصير بفلسفات نيتشه وهايدغر ودريدا وموريس بلانشو وفيليب سولزر في مزج إبداعي يستحيل أن نجد له مثيلاً ضمن حقول البحث والدراسة في الثقافة الجزائرية زمن التسعينيات إلاّ في ما ندر، مُستحضرًا في ذاته الثّقافيّة كلّ ما يخص ثوريّة النقد التفكيكي في اِعتداده بنسبية المعرفة ورفضه المُطلق وجود قراءة صحيحة واعتبار أنّ كلّ القراءات هي نوع من (إساءة القراءة)، كما يقر بذلك دريدا ودحضه لأوهام العلمية والصرامة التي قام عليها التراث الفلسفي الغربي. طالما أنّ التفكيكية ليست نظرية، بل هي مجرد تصوّر أو رؤية، نلمس ذلك في دراساته، سواء ذات المسحة الفلسفية النظرية أو تلك التي خص بها نصوص إبداعية لمبدعين جزائريين».
مشيرًا بالموازاة، مع هذا، إلى أنّ جهد بن عودة النقدي لم يتوقف عند هذا الحد، بل لامس أيضا تحوّلات المجتمع والسّياسة، فكتبَ عن الراهن العبثي الجزائري أو ما سماه «اللحظة الجزائرية» في مقاله الشهير الّذي نشره أيّامًا قليلة قبل اِغتياله «اللحظة الجزائرية بين قدر المعنى وواجب المفهوم»، اللحظة الجزائرية، بكلّ دلالاتها الثّقافيّة والاِجتماعيّة والسّياسيّة. ثم ذلك القلق الأنطولوجي وهو يقرأ «الجزائر الجديدة»، كمدونة ثقافيّة وتاريخيّة وسوسيولوجيّة.
ويُضيف مُستطردًا: «النقد الّذي كَرَسَ له بن عودة كلّ جهوده بواسطة (اِزدواجية الرؤية)، لولا أنّه طموح اِنتهى به المطاف وهو في أوّل الطريق ولم يكتب له التجسيد والديمومة، هذا فضلاً عن جهوده في حقلي الترجمة والشِّعر، على الرغم من أنّه كان مُقلاً في حقلي الترجمة والشِّعر بالنظر للكتابة النقدية التي أخذت حيزًا واسعًا من تجربته في الكتابة عمومًا. إلاّ أنّ الترجمة أوّلاها أيضًا أهمية كُبرى، فقد نقل إلى لُغتنا العربية دراسة مُهمة للروائي مولود معمري عن (الشفوية/الخطاب والبربرية)، ودراسة أخرى للشاعر محمّد سحابة عن (الشِّعر الجزائري ذي اللسان الفرنسي بعد الاِستقلال)، ودراسات أخرى مهمة نشرها بمجلات عربية مرموقة».
صاحب «أسئلة النص وأسئلة الثقافة»، يرى أنّه من الواجب الوجداني –ربّما- تسجيل شهادة في الإنسان إلى جانب شهادة الكاتب والمُفكر، إذ يقول في هذا الجانب: «بختي بن عودة/الإنسان كما يعلم كلّ من عرفه عن قرب، كان رجلاً متواضعًا إلى أبعد الحدود وكريمًا وسخيًا حتى مع أولئك الذين كان يختلف معهم إيديولوجيًا وثقافيًا أو الذين ناصبوه الخصومات المجانية، فقد تسنى لي شخصيًا أن أقرأ في بيته بأعالي عمارة سان شارل بوهران رفقة الشاعر عبدالله الهامل والكاتب محمّد بن زيان عددًا من العناوين المُهمة لرموز فكرية اِكتشفتها لأوّل مرّة، ولولاه ما كان يمكن لي أن أتعرف عليها أو على محمول الكتابة لديها أو أن أفر من هيمنة (المؤسسة الذوقية) (للمركز التراثي) المُتمسكة بمبدأ رفض الآخر جملةً وتفصيلا والاِكتفاء بِمَا هو متوفر لدينا».
وفي الأخير خلص إلى القول: «ظل سؤال (الكينونة والوجود) والتاريخ المنسي يسكنه كالوجع المُزمن، وليس من شك في أنّنا حين نُعيد قراءة المُنجز النقدي لبختي بن عودة الّذي نَشرَ بعضه والبعض الآخر لا يزال مُتناثرًا ومُتباعدًا في بطون المجلات والدوريات العربية، فإنّنا نقرأ مقدمات أو نواة لمشروع نقدي كان يمكن له أن يُرمم بعض فجوات النص الإبداعي الجزائري ومساحات تمفصله السرديّة منها أو الشِّعريّة ومن ثم اِكتشاف قواعد (إنتاجية نصيّة) بتعبير جوليا كريستيفا».

* الباحث والأكاديمي محمّد شوقي الزين
مثقف صادق لم تستمله المراكز ولم تستهوه الأضواء
يقول الباحث الأكاديمي وأستاذ الفلسفة في جامعة تلمسان الدكتور محمّد شوقي الزين: «إنّ اِستحضار شخص بختي بن عودة في هذه الذكرى هو بث النداء لأحد الأطياف الجائلة بيننا. فارقنا لكنّهُ لا يزال رفيقنا. جُملة الآثار المكتوبة أو المسموعة هي جُملة الآثار المطبوعة في مخيلتنا وبين أقلام كُتّابنا ومفكرينا. لا يتعلَّق الأمر بالنظر في مآل إرث لم يكن له الزمن (المُزمن) ليينع، ولكن فقط الوقت (المُؤقت) ليصدع».
مُضيفًا بِمَا يُشبه الاِعتراف: «هذا الإرث محدود بأبجديته، ومضبوطٌ بعباراته، لكنه مدوٍّ بأفكاره، حارٌّ ونافذٌ بصوره ومجازاته، وعنيدٌ بهمومه وبحوثه، وهو القائل في إحدى نصوصه: (في طريقكم إلى الخلخلة، فتّشوا كلّ مقروء!)».
«إنّه إرث لا ينام على اليقينيات، ولا يكتفي بالبديهيات، بقدر ما يضع ثقته (بالوثيقة والوثاقة) في الخلَّاق من الأفكار، وفي الحاسم من البحث، وفي الصارم من النقد والمُساءلة. إنّه إرث لا يضع مجالًا لمُثقف يُحسن تزيين الكسل أو العبث، أو يجعل من حقيقت[ـه]، [الـ]حقيقة الدامغة، في اِستبعادٍ مشين لكل ألوان الاِختلاف كألوان الطبيعة ذاتها».
ومُستدركًا يُضيف: «ما تبقَّى من هذا الإرث؟ الأثر. المفقود والموعود معًا، والغائب والحاضر في آن. عندما نُعيد قراءة هذا الأثر بين بطون الكِتابات، في شكل مقالات أو حوارات، نُدرك الخُلقية التي تحلى بها في إيصال أمانة الكتابة إلى الأجيال اللاحقة. فهي مبادرة تجمع بين الخُلُقي والجمالي، ومن يتحلَّى بالشيء، فهو يحمله كالحلي ليتزيّن به، لأنّه في الوقت نفسه اِلتزامٌ ووسام. إنّها بالضبط الكتابة التي تحلَّى بها، والتي تجلت بشكلٍ بارز في أقواله وأفعاله، لأنَّ أقواله كانت بالضبط أفعاله. كانت كِتابة أدائية، تُفعل ما تقوله، وتتزيَّن بما تتخلَّق به، وكان هذا سرُّ نجاحه وقوَّته النظرية والأسلوبية». مشيرًا إلى أنّ الكتابة، بهذا المعنى، وبهذه الصورة، وبهذه النبرة، هي الكتابة الجامعة لكلّ الخصال الجماليّة والخُلقيّة والتداوليّة.ثم ماذا؟ -يتساءلُ المُتحدّث-، ليجيب قائلاً: «إنّها كتابة ضدَّ الكتابة-الكآبة، ضدَّ الكتابة-النَّعرة، تلك التي نعتها في إحدى نصوصه بالاِنسحاب، ولنقل الاِنسحاب الشاحب؛ كتابة باردة ويابسة، لم تعُد تفعلُ ما تقوله، سوى تزيين أركان النصوص بأرائك من العبارات الفخمة أو الجافة، تبعًا للطبائع والأمزجة. كِتابة لا تقول ما هي الثقافة، والتاريخ، والدين، والسياسة، في الجزائر-القارَّة، بكلّ أبعادها الجغرافيّة والتّاريخيّة والألسنية المتنوّعة، وبكلّ ألوانها الرمزيّة وأطيافها البشريّة. لم تختر هذه الكتابة سوى الرَّمادي لتطبع به الأوعية والقوابل».
صاحب «سياسة العقل» أضاف مستطردًا: «عَمَلَ بختي على رسم الخطوط العريضة لسياسة الحقيقة لا تقول كيف نُجابه العناد بالعناد، ولكن كيف نبني رؤية يتغيَّر بموجبها العالم، كيف نُغيّر اللّغة التي تُؤثّر في العالم، وكيف حدود هذا العالم هي حدود اللّغة التي نتداولها في المدارس والمحافل. تغيير العالم (عالمنا نحن) مشروط بتغيير اللّغة (لغتنا نحن)، وليست اللّغة هنا الهيكل الأبجدي أو مدوَّنة الكلمات والعلامات، ولكن خبايا التمثلات والمستعصي من التصوُّرات. عندما تُحدث اللّغة ثورة رمزية في ديارها الذهنية (العلميّة، والأدبيّة، والسّياسيّة، والفلسفيّة، والدينيّة)، فإنَّها تجعل العالم المحيط بها قابلًا للاِرتقاء إلى عتبات جديدة من الجدَّة والفرادة والحداثة. هل نتفاءل؟ فقط نتفاعل. وكأني بهذا اللفظ هو الجاري على لسان بختي في كلّ طموحاته ومشروعاته».
ثم يعود إلى ذكرى رحيله، إذ يقول في هذا المضمار: «في كلّ مرّة أستحضر فيها شخصية بختي بن عودة إلاّ وكانت أطياف غوته أو هردر أو شيلر ماثلة أمام عينيّ، لأنّ هؤلاء المفكّرون الألمان تكبّدوا مرارة اِنهزام الثقافة الألمانية في مُنعطف الأنوار وعمدوا بالصبر والأناة والتواضع مُعالجة ما سقم منها وإصلاح ما اِختلّ فيها بالإعلاء من شأن التكوين الذاتي والتثقيف الشخصي. والأمر المُثير أنّ إصلاح العطب أو تجديد الفكر أو نقد العقل أو تفكيك التُراث لا تأتي بالموسوعية النظرية والتبحّر المعرفي، ولا بدّ من ذلك، وإنّما تأتي خصوصاً من البصيرة الحادّة والثقافة الواسعة والحذاقة الماهرة والخبرة البارعة، أي بالملكات الذاتية في حُسن النظر وجودة التأويل، أي أنّ المسألة تقتضي التواضع والاِشتغال على الذات قبل وهم تغيير العالم أو سياسة الآخر».
وأحسب أنّ بختي -يُضيف الزين- كانت له هذه الخصال، أي فضائل مُثقف صادق ومفكّر أمين لا تستميله المراكز ولا تستهويه الأضواء ولا الضوضاء، لأنّه حَرَثَ وحَصَدَ في تربة الصمت الخلاّق والإبداع الواعد، وكان يعي جيّداً بأنّ الثقافة أو الفكر هو مسألة موقف أو سلوك وليس مسألة منصب أو نفوذ.
فكان -حَسْبَ قوله دائمًا- يريد أن يمنح لهذه الوظيفة اللياقة التي تستحقها واللباقة التي تتميّز بها، كرؤية ثاقبة ومنحة جليلة. وهنا تكمن حرية المُثقف في إدراك العالم الّذي يتواجد فيه ويقوم بمقاربته بالضرورة النقدية والحاجة الجمالية، بمعزل عن القسريات المُحاذية أو الأطماع العابرة.مضيفًا: «كان بختي ببراءته وصدقه حامل أحلام أرقى من الواقع السقيم، فلهذا اُغتيلت أحلامه قبل أن تغتال حياته. لقد كان حامل همّ نظري رسم معالمه الأولى ولم يستطع توسيعه وإنضاجه. لكن المُثير في تجربة بختي الفكريّة ليست هي القراءات الواعدة التي سطّرها أو المفاهيم الذكية التي وظّفها وإنّما في اِستقامة الرجل وعدله، في حصافته وورعه. وهل يمكن الحديث أصلاً عن فِكر أو ثقافة أو أدب أو تاريخ أو مصير بكبرياء وعجرفة؟».
واختتمَ قائلاً: «لقد ترك بختي جيلاً شاباً يتيماً يُعوّل عليه في المواعيد الحاسمة للجزائر المُعاصرة، ترك أثراً وبصمة تتبدّى في الجيل الثقافي الجديد الّذي يكتب ويُناقش ويجتهد ويُثابر من أجل تكوين خزّان نظري يقرأ به الأحداث الماضية أو الحاضرة. ومن حسنة هذا الجيل الجديد الّذي تربّى على فِكر بختي بن عودة أنّه يُريد أن يضع الثقافة في صُلب السياسة، أن يرى العالم برؤية واسعة وبصيرة مُتوقّدة، أن يجعل من المعرفة الدليل ومن الحكمة السبيل، لأنّه يدري بلا مرية أنّ المعرفة هي ذخيرة المجتمع وأنّ الثقافة هي مستقبل السياسة».

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com