lالنص ليس معطى جاهزًا ولكنه أيضًا حفرٌ في الحياة
ترى الشاعرة والكاتبة نصيرة محمدي أنّ القاموس الواحد من المفردات الّذي يتكرّر في نصوص الشاعر، ربّما يحدُ من اِنفتاح التجربة الشِّعريّة ومن تدفقها وفيضها. مشيرةً في هذا السّياق إلى أنها تُحاول أن تتجاوز هذه الثغرة. وهُنا تُؤكد أنّه وفي اِستعمالات المفردات واختيار الألفاظ يجب علينا أن نُوسع من دائرة هذا الاِستخدام وهذا التوظيف.
حوار: نوّارة لحـرش
صاحبة "غجرية"، تؤمنُ بحقيقة مُؤبدة هي حقيقة أنّ الشِّعر لن ينطفئ، لن يموت مادام هذا الإنسان في الكون سيظلُ الشِّعر ما ظل الإنسان. كما تُشيرُ بالموازاة مع هذا إلى أنّ أسئلة الحياة تتداخل في النص. وأنّ النص ليس معطى جاهزًا ولكنه أيضًا حفرٌ في الحياة، فتجربة الحياة -حسب قولها- يمكن أن تتعمق في النص، ويمكن أن نستثمرها في كتابة نص لذلك لا يمكن أن نهملَ الأشياء الصغيرة والتفاصيل الصغيرة وما هو هامشي وما هو مُغيب وما هو مُبطن وما هو مُضمر. فكلّ هذه الأشياء -حسبَ رأيها- يمكن أن تُوظَف في النص ويتقاطع من خلالها الشِّعر والحياة. كما تتحدث الشاعرة، عن أمور وشؤون أخرى ذات صلة بالشّعر والرواية والصوفيّة.
للإشارة نصيرة محمدي شاعرة اشتغلت في الصحافة والتدريس في الجامعة، لها عدة مؤلفات شِّعرية منها: "غجرية" العام 2000، عن منشورات كُتّاب الاِختلاف، "كأس سوداء" 2002، عن منشورات اِتحاد الكُتّاب الجزائريين، "روح النهرين" 2007، عن منشورات المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، "نسيان أبيض" 2016، عن منشورات ضفاف/ لبنان، ومنشورات الاِختلاف/ الجزائر. و"بجوارهم" وهو عبارة عن حوارات أجرتها الشاعرة مع بعض الكُتّاب العرب، عن منشورات APIC، "سيرة كتابة" 2010، عبارة عن مقالات وتأملات عن نفس الدار أيضًا، "جسد الغياب". وترجمة لأشعارها بالفرنسية: "comme le noir se referme sur une étoile" 2013.
كأنثى وكإنسانة تخبطتُ كثيرًا في هذه الحياة وتلوثتُ بتجاربها
مجموعات شعرية صدرت لكِ في ظروف وسنوات مختلفة. ما هي ملامح التمايز بينها، وهل يمكن للشاعر أن يدل القارئ على هذه الملامح؟
- نصيرة محمدي: هذا ما يستطيع أن يكتشفه النُقاد، ولكن أقول لكِ أنّ "غجرية" هي مذاق الأشياء الأولى، و"كأس سوداء" هي ربّما تجربة أخرى في مسار قاتم لم أقتنع بها كثيرًا ولكن كان لا بدّ أن أتخلص من تلك النصوص حتّى لا أمزقها، تجربة "روح النهرين" فيها أسئلة حياة وموت، أنا أقصد بالنهرين: الحياة والموت، وأنّ هذه الرّوح يتجاذبها نهر الحياة ونهر الموت، لا أخشى الموت، بقدر ما أنا أحاول أن أقرأ كُنهَهُ، أن أُفَكِكَ بعض أسراره، أحاول أن أقف على أطرافه/هذا السرّ العميق. الحياة هي جانب الحُلم بالنسبة لي، أنا لا أستطيع أن أعيش في الحياة بلا حلم، الحلم سيظل يُرافقني، بدونه أنا لا شيء، أتصوّر نفسي أنني لا أستطيع أن أستمر أو أمتد أو حتّى أكتب. "روح النهرين" فيها ربّما اِشتغال على اللّغة أكثر، فيها تأمل لتجارب أخرى وفيها أيضًا ضوء الآخرين/الأصدقاء الرُّوحيين، الكُتّاب الذين أحبهم وأقرأ لهم. فيها أيضًا بعض من نضج نصيرة، ربّما على مستوى الفكر أو على صعيد الشكل أو على صعيد التجربة الإنسانية كأنثى وكإنسانة تخبطت كثيرًا في هذه الحياة، تلوثت بتجارب الحياة. أنا لا أريد أن أمضي بيضاء إنّما ملوثة بالتجارب.
القاموس الواحد الّذي يتكرّر يحدُ من اِنفتاح التجربة الشِّعريّة وأيضًا من تدفقها وفيضها
هناك من يعيب على الشاعر تكراره لمعين لفظي ومفرداتي بحد ذاته، وهُناك من يراه بأنه أقرب إلى نفسيّة وتركيبة الشاعر بصورة أكـثـر حميمية من معين آخر. أنتِ كيف ترين الأمر؟
- نصيرة محمدي: يعني قاموس واحد يتكرّر، هذا ربّما يحدُ من اِنفتاح التجربة الشِّعريّة وأيضًا من تدفقها وفيضها، أنا أُعاني أحيانًا من هذه المسألة، صديقيني في أمسيات عندما أُعيد قراءة بعض نصوصي أشعر أنّني أدور في فلك واحد وأنّ قاموس مفرداتي ربّما يتكرّر، أحاول أن أتجاوز هذه الثغرة، أمّا عن التأويل الآخر الّذي قُلتِ أنّه ربّما أسير حالة نفسيّة للشاعر بذاته وأسير وجدانه وكينونته وجوهر نفسيته القلقة، لكن علينا مثلاً في اِستعمالات المفردات واختيار الألفاظ أن نوسع من دائرة هذا الإستخدام وهذا التوظيف ونستقي حتّى من القديم ونلبسه أشكالاً جديدة حتّى لا تفقد تلك المفردة وهجها، يكفي أن تُزيحي عنها بعض الغُبار وتُعِدِيها نَضِرة ومُتوردة بشكلٍ آخر، بتوظيفٍ آخر.
سنظل أصدقاء وأبناء الشِّعر لأنّه حقيقة في الذات الإنسانية
برأيك ما هي وظيفة الشِّعر في عصر الرقمنة، وكيف تتصورين مستقبله وهل الشِّعر سيظل فقط ما ظل الإنسان القَلِق؟
- نصيرة محمدي: الشِّعر، الشِّعر أنا أُؤمنُ بحقيقة مُؤبدة هي حقيقة أنّ الشِّعر لن ينطفئ، لن يموت مادام هذا الإنسان في الكون سيظلُ الشِّعر ما ظل الإنسان. طبعًا القلق يُرافق الشاعر. هذا الإنسان فيه دائمًا جانب مخفي، ربّما تُغطيه وتُبطنه أشياء أخرى، أشياء عابرة، ولكن جوهره وكينونته وحقيقته هو أنّ الشِّعر فيه دائمًا لن يموت وإحساسه بالجمال لن ينتهي وكلّ ما تطورت وسائل التكنولوجيا والتقنية إلاّ أنّنا سنظل أصدقاء وأبناء الشِّعر لأنّه حقيقة في الذات الإنسانية.
النص ليس معطى جاهزًا ولكنه أيضًا حفرٌ في الحياة
الاِشتغال على نصٍ ما، هل يعني الاِشتغال على حياةٍ ما؟
- نصيرة محمدي: تتداخل أسئلة الحياة في النص، النص ليس معطى جاهزًا ولكنه أيضًا حفرٌ في الحياة، فتجربة الحياة يمكن أن تتعمق في النص، يمكن أن نستثمرها في كتابة نص لذلك لا يمكن أن نهمل الأشياء الصغيرة والتفاصيل الصغيرة وما هو هامشي وما هو مُغيب وما هو مُبطن وما هو مُضمر، كلّ هذه الأشياء يمكن أن تُوظف في النص ويتقاطع من خلالها الشِّعر والحياة، لذلك هُما رافدان يتكاملان معًا، ولِنَقل إنهما نهران يصبان في حقيقة أنّ الإبداع لا يتأسس إلاّ على الحياة بكلّ أشكالها وألوانها ومذاقاتها وفوضويتها وأيضا نظامها.
على ذكرك الشِّعر والحياة، ما الّذي يمنحه الشِّعر للحياة؟
- نصيرة محمدي: الشِّعر يمنحُ للحياة الجمال ورؤى ربّما تستشرف الآتي، يمنحُ القدرة على الاِستمرار، ربّما.
تحضرُ الصوفيّة في التجارب الشّعريّة العربيّة، لماذا برأيك الصوفيّة تتجلى في الشِّعر أكثـر منها في الرواية، هل لأنّ الشِّعر ميراث العرب الطويل؟
- نصيرة محمدي: نحنُ ننشأ في عالم كامل من أنفاس الصوفيين، لاحظي أنّ هناك بعض الطقوس في الموت، في التقاليد الاِجتماعية الموجودة، هناك حضور للصوفيّة باِمتياز في قراءاتنا ربّما في روح العربي الّذي يظل يهفو إلى هذا العالم، يظل في شفافيته يستند على ركيزة اِسمها الصوفية، نستلهم منها. أنا أستلهم من روح الأمير عبد القادر هذا الصوفي الفارس العاشق مثلاً، هذا الّذي كان مُولعًا باِبن عربي. أحاولُ دومًا الوقوف عند حقيقة الذين كانوا يحملون رؤيةً صوفيةً للعالم فيها من الشفافيّة، من البحث في المُطلق، من العناق والمكابدات ما يجعلُ الشِّعر دائمًا مُرتبطا بالصوفيّة.
إلى جانب اِرتباطه بالصوفيّة كما تقولين. هل ترين بأنّه بشكلٍ ما هو سيد الأسئلة؟
- نصيرة محمدي: الشِّعر سيد الأسئلة، جميلٌ هذا التوصيف منكِ، نعم هو سيد الأسئلة. الإنسان هو سليل الأسئلة، الشِّعر أيضًا سليل هذه الجدلية، الجدل مع العالم، الجدل مع الذات، الجدل مع كلّ ما يحيطُ بنا، لا يمكن أن نُراكم شيئًا بدون هذا الجدل وهذا الصراع وهذه الأسئلة التي لا تفضي إلى إجابات بقدر ما تفضي إلى أسئلة أخرى حتّى نشعر بلانهائية العالم.
يجب أن نُؤسس ذواتنا بالأسئلة الحقيقيّة الشائكة والمُعقدة، يجب أن نتخلص من شوائب القبيلة (وأنا اِبنة قبيلة طبعًا)، أنا كثيرًا ما وقفت على رأس الأسئلة أحاول أن أكسر وأهدم وأبني نفسي من جديد وحيدةً إلاّ من قناعاتي التي أُؤمنُ بها.
لا يمكن أن أشعر بيقينيتي في الشِّعر
بعد تجارب مجموعاتك الشّعريّة المختلفة، هل وصلتِ إلى لحظة أو حالة اليقين في الشِّعر؟
- نصيرة محمدي: ليس في الشِّعر يقين لذلك نظل نتأرجح على أرض بركانية، نظل نركض، نلهث، ربّما نُعيد أسطورة صخرة سيزيف معنا، لا يقينَ في حالةِ الإبداع، نظل قلقين بالسؤال كما قلتِ، نظل باحثين، نظل أيضًا نُهيئُ كلّ قرون اِستشعارنا لهذا العالم وللاِنتباه لهذا العالم بصخبه، بكائناته، بجمالياته، بألمه، أيضًا بفوضويته وأيضًا بِمَا يمكن أن يمنحه لنا السلام، لكن لا يمكن أن أشعر بيقينيتي في الشِّعر.
برأيك هل يجب على الشِّعر أن يُوضح نفسه ويُفسر حالاته؟
- نصيرة محمدي: تقصدين هنا مسألة الغموض التي تَرِد في الكتابة الشِّعرية، تقصدين هذا الجيل والّذي أنا منه وربّما أُتُهِمنا بأننا نسقط في الغرائبية ونسقط في الغموض ولكن أنا نصي هو تجريب، هو لعب على اللّغة هو محاولة لإبداع شيء مختلف، لن أكون ناقدة لنفسي، ولكن أنا أجرب، أحاول أن أقرأ كثيرًا، أتعرف على تجارب الآخرين، أكتب بتواضع شديد ومُقِلة في الكتابة أيضًا، أخاف وأشعر برهبة أمام النص، وأكتب ربّما بمجاهدة، علاقتي باللّغة فيها اِلتباس، فيها جمال، فيها حب وفيها ألم ورهبة، ولكن هناك توقٌ حقيقي وإيمان حقيقي بالشِّعر.