أسقطت الحروب الجارية الأقنعة وكشفت عن وجه «متوحش» للحضارة الغربيّة المعتدة بنفسها والمتمركزة على «ذاتها» بشكل باتولوجي، جعلها لا تكتفي بالترويج لقيمها، بل تسعى لفرضها على بقية شعوب العالم، باعتبارها وصفةً للعيش السعيد في عصرنا. لكنّها لا تتردّد في الدوس على كل تلك القيّم حين تُنادي المصالح، بل وحين تتحرك النزوات الدينية التي يزعم الغرب العلماني أنه تخلّص منها.وإذا كانت النخب السياسية تختفي وراء أجندات المصالح، في تبرير حروب إبادة، فإن سقوط الفلاسفة والمفكرين في أطروحات عنصريّة، تبرّر العدوان ولا ترفع أصبع الإدانة أمام قتلة الأطفال، يحيل إلى تهافت منظرين يدعون الإنسانيّة والعالمية، وإلى سقوط السردية الغربية التي تُقدّم الغرب كخلاصة للحضارات التي راكمتها الإنسانية في تطورها وكمنتج لقيم الحرية والإنسانية والديمقراطية. ويكفي كمثال على ذلك سقوط هابرماس في مستنقع الصهيونية وهو الذي ظل يُقدّم لعقود كأبرز فلاسفة العصر.
أعدت الملف: نور الهدى طابي
الليبرالية الجديدة ... المال بدل القيم
ويتوقع خبراء و محللون سياسيون وإعلاميون اليوم، بأن تورط أمريكا والغرب عموما في الحرب الإسرائيلية الإيرانية، وقبلها العدوان والإبادة في غزة، سيكون فخا أخلاقيا لن تخرج منه الأنظمة الاستعمارية التقليدية سالمة هذه المرة، خصوصا وأنها فقدت نسبيا السيطرة على الرواية الإعلامية وبالتالي مصداقيتها، ومنه قدرتها على التحكم في الحشد وتوجيه الرأي العالم في الداخل والخارج، مع تزايد تأثير الميديا الجديدة غير الخاضعة للقيود، وانفلات المعلومة من أيدي المؤسسات الإعلامية الكبرى وانهيار السردية الصهيونية واستهلاك تهمة معاداة السامية.
عمقت الحرب بين إيران والكيان الصهيوني المعتدي، تأثير الصدمة الأخلاقية التي تعرضت لها شعوب العالم منذ معركة طوفان الأقصى، أين أزيح الستار عن ازدواجية المعايير وغياب الإنسانية لدرجة مباركة الإبادة العرقية والتصريح بمشروعية التهجير القسري. وجاء الهجوم الإسرائيلي على الأراضي الإيرانية تاليا لينهي أسطورة الغرب المتحضر ويورطه أكثر، كاشفا عن مستنقع دموي تتخبط فيه حكومات أسقطت أقنعتها وتبنت خطابا أحاديا عنصريا خاضعا للفكر الليبرالي الجديد الذي يكفر بالقيم و يدين بالمصالح و يقود العالم اليوم.
80 عقدا من الكذب و التضليل الإعلامي
تقدم الأحداث المتسارعة في الشرق الأوسط حسب متابعين، صورة عن نهاية مرحلة أو نظام عالمي، وبداية آخر سيكون أكثر وحشية في ظل انهيار المنظومة الأخلاقية الدولية، و التعدي الصارخ لإسرائيل المدعومة من أمريكا وحكومات الغرب، على كل المواثيق و القرارات الدولية، وتجاوز سلطة كل الهيئات والمنظمات بما في ذلك مجلس الأمن.
ويقول خبراء، إن إسرائيل التي تهلوس بما تسميه «لعنة العقد الثامن»، تخوض حربا وجودية تدعمها أمريكا عسكريا ولوجستيا، وتتجند لصالحها أوروبا كذراع سياسية، من منطلق المصالح، ولكن أيضا لأجل خلفيات عقائدية واضحة، وهو ما لا يتوانى منتخبون في مجلس الشيوخ الأميركي عن التصريح به للإعلام.وقد صنعت مقابلة تلفزيونية للسيناتور تيد كروز، مع المذيع الشهير تاكر كالسون، الحدث في أمريكا والعالم قبل أيام، أين ظهر عضو مجلس الشيوخ جاهلا بكل ما له علاقة بإيران وشعبها ومدافعا شرسا بالمقابل عن إسرائيل، لأنه كما عبر « قرأ في المدرسة أنه واجب عقائدي».
ومعلوم أن هناك شريحة كبيرة من الأمريكيين تدعم إسرائيل لأسباب دينية، وتحديدا من المسيحيين الإنجيليين. يعتقد هؤلاء المسيحيون أن دعم إسرائيل واجب ديني بسبب تفسيراتهم للكتاب المقدس، والتي تربط قيام دولة إسرائيل بحدوث أحداث آخر الزمان. وهناك حركة داخل المسيحية الإنجيلية تعرف باسم «الصهيونية المسيحية». وحسب أتباعها فإن دعم إسرائيل وإعادتها إلى أرضها الموعودة هو تحقيق لنبوءات الكتاب المقدس. يفسر هذا التوجه، مباركة الغرب لعلميات الإبادة، و التجويع، و التهجير القسري ،الممارسة في غزة منذ حوالي سنتين، والتي أودت بحياة 77ألفا و 109 آلاف شهيد، أي ما يعادل 5 بالمائة من سكان القطاع، غالبيتهم نساء وأطفال يقدمون كقرابين، وكيف يحاول الإعلام تقديم الدفاع عن النفس كحجة للإبادة وتبرير للاستخدام التعسفي للفيتو لمنع وقف إطلاق النار وكذلك التعدي عسكريا على دولة ذات سيادة، و التوغل استخباراتيا لتنفيذ عمليات اغتيال علماء و سياسيين داخل منازلهم، ومن ثم قصف المباني وقتل الأبرياء.
ويكشف الاعتداء الأخير على إيران، و التراجع الصارخ في دور الدبلوماسية الدولية لصالح القوة العسكرية، والتصريح الفاضح بالتفوق العرقي، النزعة الاستعمارية المتجذرة لدى الأنظمة التقليدية التي حاولت لعقود وتحديدا منذ بداية التسعينيات، تمرير أجنداتها ومصالحها عن طريق الكذب والدعاية، واستغلال شعارات رنانة من قبيل الديمقراطية وحقوق الإنسان ومحاربة الإرهاب، وقد استطاعت بالفعل أن تخدع شعوب العالم وتقدم ذرائع لغزو العراق وأفغانستان، مستعينة بالذراع الإعلامي لتكريس هذه الرواية وتخذير الضمير الإنساني.
ورطة أخلاقية وتآكل للسردية الصهيونية
عند سؤاله عن « هل تمثل إيران تهديدا لإسرائيل وما مدى خطورته؟ أجاب المؤرخ الإسرائيلي أفي شلايم» بأن التهديد الحقيقي يأتي من إسرائيل نفسها، نظرا لامتلاكها أسلحة نووية وعدم التزامها بالمعاهدات الدولية».جاء التصريح في مقابلة ضمن برنامج لقناة الجزيرة الإنجليزية، وقد قال الباحث :» لم تهاجم إيران جار لها قط، أما إسرائيل فقد شنت هجمات متكررة على جيرانها، إيران وقعت على معادة حظر انتشار الأسلحة النووية، أما إسرائيل فرفضت التوقيع عليها، المنشآت النووية الإيرانية تخضع لرقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في حين ترفض إسرائيل الخضوع لأي تفتيش دولي، إيران لا تملك أسلحة نووية، أما إسرائيل فتملك ما بين 75و 400رأس نووي، وعليه فإن إسرائيل هي التي تشكل تهديدا وجوديا لإيران».
ويواصل قائلا:» على مدى أربعين عاما الماضية، شنت إسرائيل حملة منهجية من التضليل بشأن إيران، لماذا كل هذا الكذب؟ لماذا ازدواجية المعايير ؟ لماذا هذا النفاق؟ويرى متابعون ، بأن ما يحدث اليوم بين إيران والغرب سيعيد ضبط موازين القوى وتشكيل الخارطة السياسية في الشرق الأوسط والعالم عموما، لأن الحرب الدائرة تحمل بين طياتها رسائل مباشرة إلى كل الشعوب و الأمم الأخرى.
ويؤكدون من جهة ثانية، أن الأحداث منذ أكتوبر مثلت حقنة ضد تطبيع الوعي، وأنتجت استفاقة إنسانية تعكسها التحركات ضد الصهيونية وداعميها في المجتمعات الغربية، على غرار حراك الطلبة في الجامعات الأمريكية، والمسيرات الحاشدة في مختلف عواصم العالم، حيث لعبت مواقع التواصل دورا هاما في كشف الحقيقة ومواجهة الدعاية. تتعالى اليوم أصوات من الداخل الأمريكي والأوروبي ضد بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة، وفي مقابلة مع قناة الجزيرة صرح أستاذ الدراسات الأمنية في جامعة كينغز كوليدج أندرياس كريغ: « أن نتنياهو فقد الدعم حتى في الأوساط التقليدية المؤيدة لإسرائيل، ليس فقط اليهودية، بل أيضاً في الدوائر المؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة وكندا ودول أوروبية أخرى.
وكتطور طبيعي لهذا التآكل في الدعم، أشار كريغ إلى أن الرأي العام تغير بشكل كبير ضد إسرائيل في أوروبا والولايات المتحدة، حتى في صفوف الشباب اليهود الذين بات ينظرون إلى نتنياهو كشخص «مارق» حتى داخل مجتمعهم».
وعلى المنصات التفاعلية وتحديدا تيك توك، يقود ناشطون حملات كبيرة ضد الممارسات اللا أخلاقية الغربية في منطقة الشرق الأوسط، ويناهض أميركيون دعم بلادهم لخيار الحرب الدائرة بين إسرائيل وإيران، حتى إن هناك من عبروا بشكل واضح عن دعمهم لحق طهران في الدفاع عن نفسها.
الدكتور عمار سيغة باحث في الشؤون الأمنية و الاستراتيجية
المنظومة الغربية استولت على القرارات الدولية
يعتبر الدكتور عمار سيغة، باحث في الشؤون الأمنية و الاستراتيجية ما تعيشه المنظومة الدولية في الآونة الأخيرة، وخاصة منطقة الشرق الأوسط بعد اندلاع المواجهة بين إيران و النظام الصهيوني، انعكاسا لمخاض عسير تعيشه المنظومة الدولية.
وقد جاء هذا التحول حسبه، على وقع ترتيبات فجرتها العديد من الأزمات والقضايا ذات البعد الدولي لاسيما جائحة كورونا، وصولا إلى الحرب الأوكرانية الروسية التي تخندقت من خلالها المنظومة الغربية إلى جانب أوكرانيا ضد روسيا، وذلك في ظل إعادة تشكل خارطة نفوذ دولي جديد لاعتبارات تتعلق بالمصالح الجيوستراتيجية لتلك القوى، سواء القوى الدولية التقليدية أو تلك الصاعدة.
ولعل ضمن مستويات أخرى تتعلق بمستويات الصراع انفجرت الحرب بين إيران و الكيان الصهيوني، لضغوط إقليمية يعيشها الكيان بعد حربه على غزة، ومرور سنتين دون تحقيق أي نتائج على أرض الواقع غير التدمير والأزمات الإنسانية.
وحسب سيغة فقد كشفت الحرب في القطاع المحتل الكثير، وأماطت اللثام عن الكثير من الضبابية على المشهد الحقيقي، وتجذر عقيدة ونزعة الهيمنة والسيطرة، وعدم تقبل وجود قوى تعديلية في الفضاء الدولي مثل الصين وروسيا، ليتحول الشرق الأوسط إلى حلبة صراع متجددة خاصة وأن تلك المنطقة قد عاشت العديد من الأزمات نهاية الثمانينيات بعد نهاية الحرب الإيرانية العراقية، وصولا إلى حرب الخليج الأولى والثانية، ثم غزو العراق و حتى أفغانستان.
تقدم المعطيات كما أضاف، صورة واضحة عن أن المنطقة تعتبرا مجالا لإظهار وفرض الهيمنة والسيطرة، وإعطاء دروس لكل الدول التي تسول لها نفسها الوقوف في وجه المنظومة الغربية التي استولت اليوم على القرارات الدولية، والمؤسسات الدولية بما فيها مجلس الأمن الذي أصبح أداة لمنح الشرعية للحروب، و التدخل في الشؤون الداخلية للدول مهما كانت طبيعتها وأهدافها.
ويعبر الوضع الدولي الراهن، عن تغيرات في الخارطة السياسية العالمية بعد أن هيمنت الأحادية القطبية التي تمتعت بها الولايات المتحدة الأميركية بعد نهاية الحرب الباردة، والتي أكدتها أمريكا وحاولت ترسيخها من خلال التدخلات العسكرية في بداية الألفية الثالثة مع غزو الدول، وإبراق رسائل للمجتمع الدولي أنها هي المهيمن وهي شرطي العالم.
إسرائيل هي الراعي الرسمي للمصالح الغربية في المنطقة
والبارز أيضا كما قال الباحث، أن ما يحدث يأتي في ظل إعادة بلورة المعطيات السياسية في منطقة الشرق الأوسط منذ 2001، وما تترتب عنه من ثورات الربيع العربي، بغية إحداث نوع من التوازن في المنتظم المطبع مع الكيان الصهيوني.
علما أن هذا الكيان سيظل القاعدة العسكرية المتقدمة للمنظومة الغربية وفي مقدمتها أمريكا، كما أن إسرائيل هي الراعي الرسمي للمصالح الغربية في المنطقة وهي التي يوازن من خلالها منطق النفوذ والسيطرة على مجال الطاقة في الشرق الأوسط والذي يعتبر رئة العالم الاقتصادية سواء من ناحية الموارد أو الموقع الاستراتيجي.
نشهد في هذه الحرب كذلك حسب الخبير الأمني، تجنيد كل الوسائل والموارد العسكرية اللوجيستية، الاستخبارتية المعلوماتية، والسيبرانية الإلكترونية وأيضا الإعلامية، وذلك لأن الواجهة الإعلامية تحديدا تعتبر أحد أهم مرتكزات تأثير القوى الغربية، و السردية الصهيونية، و المنطق الغربي على المنتظم العالمي عموما، وهو عمل ظلت تشتغل عليه هذه الدول لعقود خدمة لنفوذها وتكريسا لهيمنتها.
مواقع التواصل قلبت الموازين بفضل تجردها من الذاتي و البراغماتية
وعلى الرغم من مناورات الغرب ومحاولة اللعب على الرأي العالم الدولي من خلال تسخير الآلة الإعلامية الغربية، يقول الباحث إن مواقع التواصل قلبت الموازين بفضل تجردها من الذاتي و البراغماتية، وقدرتها على نقل الصورة الحقيقية عن الأحداث التي تعرفها المنظومة الدولية بدءا من الصراع في أوكرانيا، وصولا إلى حرب الغرب ضد غزة، و المواجهة العسكرية مع إيران.
ويرى الباحث، أن مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت تشكل تحديا حقيقيا أمام استمرار وفعالية الرواية الغربية، وذلك في ظل طبيعتها الهلامية و المرونة والعجز عن السيطرة عليها وتوجيهها، فقد أضحت المنصات التفاعلية بديلا حقيقيا لنقل الصورة كاملة الأركان، وفضح كل الممارسات اللا أخلاقية التي تورطت فيها المنظومة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والتي استطاع بفضلها اللوبي الصهيوني أن يمرر أجنداته بدعم من الاتحاد الأوروبي والإدارة الأميركية.
وذكر الخبير معطى آخر، قال إنه مهم جدا ويتعلق برفض المنتظم الغربي رسم خارطة توازن دولية في ظل صعود قوى تقليدية مثل الصين وروسيا، وكذلك قوى أخرى غير تقليدية على غرار إيران التي لم يستوعب الغرب تفوقها، والتحدي الذي رفعته للدفاع عن حقوقها في امتلاك التقنيات النووية رغم الحصار الاقتصادي والعقوبات الدولية، وهو ما اعتبرته إسرائيل تحديدا تهديدا مباشرا لها ولوجودها ضمن خارطة الشرق الأوسط.والواقع حسبه، أن مناورات الكيان لن تتوقف عن إقحام أمريكا والمنظومة الغربية عموما في الصراع في الشرق الأوسط ما يهدد بتفجير المنطقة وتوسيع رقعة الحرب لتفسح المجال لدخول قوى أخرى تقليدية، مع مخاوف من التحاق روسيا والصين بالصراع لأجل حماية المصالح الاقتصادية.
والواضح، أن الصين وروسيا لن تقفا مكتوفة الأيدي، خصوصا في ظل امتلاكهما لورقة «الفيتو» التي قد تشهر قريبا، مع إعلان أمريكا التدخل عسكريا ضد إيران. وقالت الباحث، غالبية الفرضيات قابلة للمراجعة خصوصا وأن إدارة ترامب تواجه هاجس أن تكون إيران مستنقعا عسكريا متجددا يشبه فيتنام و العراق وأفغانستان، خصوصا مع تهاوي السردية الأمريكية حول نشر الديمقراطية و العدالة وحقوق الإنسان والمساواة.
الدكتور علي محمد ربيج محلل سياسي و نائب برلماني
الحرب صارت معادلة لتحقيق السلام من منطلق القوة الغربي
يتحدث الباحث في العلوم السياسية والنائب بالبرلمان الجزائري، الدكتور علي ربيج، عن نظام دولي جديد هو في طور التشكل وربما قد بدأت معالمه تظهر من خلال الحرب الإسرائيلية على غزة والحرب الروسية مع أوكرانيا، ثم الحرب الإيرانية الإسرائيلية.
وتعبر هذه المعطيات كما يقول، عن وجه من أوجه استمرار صراع واستمرار منطق القوه في العلاقات الدولية، فاليوم «صار أفضل استعداد للسلام هو أن تكون مستعدا للحرب»، وهي قاعدة تطبق الآن على أرض الواقع كما قال.
مع ذلك، فإن الحديث عن نظام دولي جديد بملامح جديدة، ورؤى ومقاربات جديدة، وبوسائل الإدارة الجديدة، هو أمر مستبعد لعدة أسباب أولها مواصلة سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على المشهد الدولي، حتى في ظل المنافسة القوية من قبل روسيا والصين.
وقال ربيج، إن التجاذب بين القوى لا يفسح المجال لإبعاد أو إضعاف الموقف الأمريكي والدور الأمريكي بشكل كبير، بالعكس الكل الآن يراهن على دور إدارة ترامب في وقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا وبين إيران وإسرائيل، بالنظر إلى الموقف الكبير الذي لعبه هذا الرئيس في تعليق الصراع بين الهند وباكستان.
ويعلق الباحث بهذا الخصوص:» أنا لست من رواد المدرسة التي تقول بأن أمريكا آيلة إلى الزوال في العقدين أو الثلاثة عقود القادمة، نعم ستكون منافسه قوية من قبل الدول التي ذكرتها، ولكن سيبقى استمرار سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على المشهد السياسي والاقتصادي والعسكري، لأنها تملك محددات وعناصر القوه التي تسمح لها بأن تكون على المسرح الدولي».
ويرى الباحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، أنه على مستوى منطقة الشرق الأوسط والصراع العربي الإسرائيلي، يمكن القول بحدوث تحول كبير واستراتيجي مهم جدا، خصوصا فيما يتعلق بالسردية الإسرائيلية التي روجت لعدة عقود بأن الكيان يملك من الترسانة العسكرية والمنظومة الدفاعية ما يسمح له بأن يدخل في حروب مع الدول العربية ويخرج منتصرا.
السردية الصهيونية انهارت أمام منظومة الصواريخ الباليستية
ويبدو حسبه، أن هذه المقاربة أو المعادلة قد أطيح بها بعد طوفان الأقصى وصمود المقاومة الفلسطينية، ومن ثم الحرب الدائرة حاليا بين إيران وإسرائيل، والاختراقات الكبيرة التي قام بها الجيش الإيراني من خلال منظومة الصواريخ الباليستية التي أفشلت الدفاع الجوي الصهيوني أو ما يسمى بالقبة الحديدية الإسرائيلية من خلال سقوط عدد كبير من الصواريخ في كل من تل أبيب الكبرى، وحيفا، والمناطق التي كنا نعتقد بأنها منيعة عن النيران.
هذه التحولات الكبيرة في قواعد الاشتباك بين إيران وإسرائيل، وبين المقاومة وإسرائيل كشفت عن وهن هذه الدولة التي يمكن أن تهزم في أي لحظة لولا الغطاء والدعم الأمريكي، ومجموعة الترويكا الألمانية البريطانية الفرنسية، فهذه الدول هي التي تدعم بقاء واستمرار الجيش والحكومة والدولة الإسرائيلية، إلى جانب انخراط بعض الدول العربية.
على صعيد آخر، يعقب الدكتور علي ربيج، أن القول بتقهقر الرواية الغربية والسردية الغربية التي ترافع من أجل الديمقراطية، ونشر حقوق الإنسان، وحرية التعبير والدور الكبير لوسائل الإعلام الغربية في التكريس لها ممكن، بفعل تكشف هذه الروايات، ففي كل مره تقع هذه الدول في حالة حرج كبير بسبب الدوس على النظام الدولي، وعلى القوانين الدولية، والاختباء وراء حق الفيتو لإسقاط الكثير من مشاريع القوانين التي تنادي بها دول مثل الجزائر، لوقف إطلاق النار في غزة، وبين إيران وإسرائيل.
الرواية الأخلاقية الغربية أمام نهاية محتملة
ويضيف، بأن هذه السردية أصبحت تعاني من الهشاشة خاصة في ظل تبلور رأي عام على مستوى الدول الغربية كشف زيف الرواية، والسؤال الذي يطرح الآن، هو إلى أي مدى يمكن للدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية حماية الدعاية المغلوطة والاستمرار في الكذب؟ وهل يمكن أن تتشكل دوائر نخبوية مثقفة مستقلة داخل هذه الدول، وحتى داخل دول الجنوب لمواجهة هذه الروايات؟
وكإجابة عن السؤال، يرى الباحث، أنه على مستوى القارة الإفريقية على الأقل بدأت النخب تخرج وتفكر بشكل علني وبشكل واضح، أنه يجب التحرر من سيطرة الغرب بداية بالتواجد الفرنسي في منطقه إفريقيا.
من جهة ثانية، يشير الدكتور علي محمد ربيج المحلل السياسي و النائب البرلماني، إلى تحد آخر يتعلق بسطوة رجال المال وسيطرة المؤسسات والشركات الكبرى متعددة الجنسيات على إدارة الشأن العام الدولي خصوصا مع عودة الرئيس ترامب، وبعث هذه الفكر «المركنتي» في الحلقات الدولية والذي يبحث دائما عن تحقيق المصلحة ورفع رؤوس الأموال على حساب الشعوب والسلام والأمن والاستقرار في العالم، فالتوجهات الامبريالية الرأسمالية حسبها، لا يهمها سوى الربح بدليل تصريح للرئيس ترامب حول أن ما يهمه هو المقابل المادي المالي للحماية الأمريكية لدول الخليج ولدول أوروبا بمعنى أن العالم يتعامل اليوم مع رجل يحكم العلاقات الدولية بمنطق الربح.
وأشار الباحث إلى أن هذا المسار أو هذا الطرح أصبح سائدا اليوم خاصة بعد إعلان ترامب فرض رسوم جمركية جديدة، واستعداده للدخول في حرب اقتصادية عالمية مع دول كبرى مصنعة تملك 80 % من ناتج الدخل العالمي.
موضحا، أن مستقبل العلاقات الدولية في الخمس والعشر سنوات القادمة على الأقل سيأخذ منحنى أكثر عنفا وأكثر صداما، بمعنى أن البقاء سيكون وكما كان دائما للأقوى على مستوى الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري.
ويمكن القول على حد تعبيره، إن العلاقات الدولية ستحكمها حروب وجودية للدول التي لن تستطيع حماية أمنها واستقرارها، وقوتها ستكون محل مساومة وضغوطات من قبل الغرب والدليل على ذلك فكرة التطبيع مع الدول العربية التي كانت فكرة للسيطرة ومساومة وتحقيق التنازلات على المستوى السياسي والاقتصادي والدبلوماسي.
يمكن في المقابل حسب الباحث في العلوم السياسية، أن نقدم النموذج الجزائري والنموذج الجنوب إفريقي والنيجيري، وبعض دول أمريكا اللاتينية التي ترفض الاستمرار تحت سيطرة العواصم الغربية، وتحاول أن تبني لنفسها تحالفات إقليمية وعالمية لمواجهة الضغوطات والمساومات والإكراهات الأمريكية والغربية عموما.
الدكتور محمد هدير أستاذ جامعي ومحلل سياسي
الخطاب العالمي بات أحاديا وعنصريا خاضعا لسلطة المال و المصالح
يقول الباحث بالمدرسة العليا للصحافة ببن عكنون، الأستاذ الجامعي والمحلل السياسي الدكتور محمد هدير، إننا نعيش مرحلة سقوط الأقنعة وهو أمر تنبأ به مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق طوني لانك سنة 1954، حيث قال إن الشعارات التي تصدرها أمريكا تحت مسمى الديمقراطية وحماية الأقليات، حرية التعليم، حرية التعبير والحرية المطلقة، سيكون له انعكاس سلبي مستقبلا، معلقا «سننكشف يوما ما أمام العالم بأننا نصدر قيما مزيفة، وإذا انكشفت هذه الأمور سنقع في ورطة وسيكون هناك هجوم على كل مصالحنا في العالم».
والواضح حاليا حسب الباحث، أن توقعات لانك، قد تحققت فعليا خاصة في ظل انهيار سلم القسم الأخلاقية في الحروب الأخيرة، وكذلك انهيار القانون الدولي الذي صار فيه الجلاد هو الضحية وصاحب الحق، بمعنى أننا أمام سقوط شبه كلي للمنظومة الدولية والمجتمع الدولي الذي أسس في بداية التسعينيات، مكونا من جمعيات ومنظمات حقوقية وغيرها، والدليل ما نراه في غزة من مجازر وإبادة يدير لها العالم ظهره.
وقال هدير، إن الخطاب الحالي بات أحاديا وعنصريا قاتلا، خاضعا لسلطة المال و المصالح التي تقود العالم، خاصة وأن مستوى الاستهلاك العالمي زاد مع التخوف من ظهور أوبئة جديدة ستعزل العالم أكثر من كوفيد19، ولذلك فإن العالم يلفظ أنفاسه الأخيرة أمام التطورات القادمة والمرتبطة بالبحث على مصادر التموين بالغذاء والطاقة.
ولابد أن ندرك كما أضاف، أن عملية طوفان الأقصى كانت بمثابة نقطة تحول رئيسية في الأحداث في الشرق الأوسط، لأنها استهدفت بشكل غير مباشر المصالح الأميركية هناك، بمعنى أنها أوجعت أمريكا قبل أن توجع إسرائيل، لأنها صممت في غرف جد متطورة من حيث إدارة المعلومات الاستخباراتية، وتنفيذ الهجوم، و ضرب القوة القاتلة داخل الكيان.
كما كشفت أيضا عن منظومة السلاح الإسرائيلي و القضاء على سمعته التي بنتها الدعاية وقدمته كقوة مطلقة، كما أدركت أمريكا أن إيران كانت وراء إمدادات الطوفان، بالتالي فإن الإمبراطورية أصبحت تطوق المنطقة.
وعليه، فإن الولايات المتحدة تخوض حسبه، حربا بالنيابة في المنطقة وتضع إسرائيل في الواجهة، علما أن هذا الكيان نفسه بات يشكل خطرا على أمريكا لأن اللوبي الصهيوني يسيطر على السياسات الداخلية والخارجية في بلاد العم سام.
وأشار الباحث أن علاقة إيران وأمريكا كانت قوية خلال مرحلة الشاه، والواضح أن الطرف الأول يركز فقط على تغيير النظام في طهران وليس ضرب البنى التحتية، من خلال تنفيذه لأجندة « الفوضى الخلاقة» في المنطقة عموما.
مع ذلك، لا يمكن كما أضاف، قراءة الواقع السياسي بشكل واضح، لأن إسرائيل تقود حربا وجودية وتدرك أن إعادة هندسة الشرق الأوسط لها تداعيات خطيرة على أمنها واستمرارها، فإما أن تنجو وتتحول إلى الفاعل الأول في رسم السياسة بين النهرين وكل المنطقة، أو قد تكون هذه الحرب هي شهادة وفاتها.
حرب إعلامية أخرى أفرزتها هجمات أكتوبر و بعدها المعركة الدائرة بين إيران وإسرائيل اليوم حسب المحلل السياسي والباحث في الشؤون الإعلامية، فالواضح كما قال أن السردية الإسرائيلية القائمة على احتواء صناعة الإعلام، وامتلاك القوة عن طريق السيطرة على المعلومة، قد تقهقرت منذ طوفان الأقصى، لأن القنوات الكبرى على غرار» سي أن أن»، فقدت سيطرتها على المعلومة.
و يمكن القول في رأيه، إن المعلومة انفلتت منها لصالح مواقع التواصل الاجتماعي و مؤسسات أخرى مثل «الجزيرة» التي كشفت قوة الضربات الإيرانية التي بلغت العمق الإسرائيلي، وهو ما قضى على أسطورة إسرائيل المنيعة التي لا تقهر.
تقدم هذه المعطيات مجتمعة حسب هدير، لمحة عن زوال نقطة الخوف لدى كل العام والدول المجاورة، ما قد يمهد لهبة شعبية أردنية مصرية وحتى مغاربية على إسرائيل، وهو تحديدا ما يخشاه الكيان، لأنه يعيش اليوم في فم الأسد ويدرك أنه إذا خسر الحرب فسيفقد حماية أمريكا، التي تورطت جدا مع اللوبي الصهيوني في الداخل.