* الشِّعر الحديث ليس محل اِستيعاب إنّه بالأحرى محل إثارة وإحساس وتأمل * الشِّعر هو كتابة فوق-تاريخية غير خاضعة لسياقها الزمني
يرى الشاعر عمار مرياش أنّ الشِّعر الحديث كغيره من الفنون الحديثة ليس محل اِستيعاب، إنّه بالأحرى محل إثارة وإحساس وتأمل. مُؤكدًا أنّ أسئلة الشاعر وتساؤلاته هي محض إجابة –رمزيّة طبعًا– وهذا من طبيعة كينونة الشاعر. مُشيرًا في ذات السّياق إلى أنّ من واجب الشاعر -أيضًا- أن يفتح أبوابًا ونوافذ ويُعَبِدَ طُرقًا. كما ذهب مرياش إلى اعتبار أنّ الشاعر هو ذاته معادل موضوعي لقلق الحياة وعبثيتها، لروعتها وفتـنتها العظيمة كما لحمقها وسخافاتها.
حوار: نوّارة لحـرش
كما تطرق صاحب «اِكتشاف العادي» في هذا الحوار، لموضوعات ذات صلة بالحداثة الأدبية والنقد والنُقاد، وباللّغة التي يرى أنّها خارج الإبداع الأدبي، مجرّد أداة، وسيلة لا غير، وأنّ ما هو مهم جدًا هو الرؤيا، وأنّ الحداثة ليست كلّ شيء.
للإشارة، عمار مرياش، (مواليد 8 أكتوبر 1964)، شاعر جزائري، حائز على عدة جوائز أدبية وطنية وعربية، أسَسَ ـفي العام 1990 مع الطاهر وطار مجلة «القصيدة» ورأس هيئة تحرير أعدادها الأولى. اِشتغل بقسم الإنتاج الثقافي بالإذاعة الجزائرية، وفي عام 1996 غادر الجزائر واستقر في غربته الاِختيارية في أوروبا، حيثُ يعيش ويشتغل في مجال التكنولوجيات الجديدة مُطَوِّرًا للبرامج.
صدرت له مجموعة من الدواوين الشِّعرية، من بينها: ديوانه الأوّل «اِكتشاف العادي» العام 1993 وتُرجم إلى الإسبانية، كما تُرجم إلى الفرنسية من طرف الشاعر والمترجم عاشور فني وصدرت الترجمة في العام 2003 ، ديوانه الثاني «لا يا أستاذ» العام 1996 عن الجاحظية في طبعة خاصة وجد معدودة ومحدودة ولم تُوزع في المكتبات، «الحَبَشَة.. يليها النبي» العام 2010 عن دار نقوش عربية في تونس. وآخر ما أصدره مرياش، مجموعة شِعرية بعنوان «حان مستقبلي، (سابقًا: ذهبتُ مع الفكرة حتّى نهايتها ثم واصلتُ وحدي)» 2024، عن دار خيال للنشر والترجمة.
أسئلة الشاعر وتساؤلاته هي محض إجابة رمزيّة
في نصوصك ومجموعاتك الشّعرية زخمٌ من الأسئلة، وفي المقابل زخمٌ من الأجوبة. هل ترى أنّ مهمة الشاعر الأجوبة أيضاً؟
- عمار مرياش: «الحمقى سعداء كثيرًا/ ذلك أنّ إجابتهم جاهزة سلفًا»، هكذا أقول في ديوان «اِكتشاف العادي» ولكن، من قال أنّ الشاعر هو كائن أبله يتجوّل في مستشفى مجانين يفتح فمه باِندهاش ويتساءل باِستمرار؟ ثمّ إنّ أسئلة الشاعر وتساؤلاته هي محض إجابة –رمزيّة طبعًا– ولكن هذا من طبيعة كينونة الشاعر، أنا أكره الإجابات الجاهزة والكلية والكونية والصالحة لكلّ زمان ومكان فقط، أكره أيضًا الصح والحقيقة، وكلّ تجارة في الأخلاق والقيم، بعد هذا من واجب الشاعر أيضًا أن يفتح أبوابًا ونوافذ ويُعَبِدَ طُرقًا. بل واجبهُ الأوّل في المراحل التي يفقد فيها كلّ شيء معناه ووظيفته، وتتحوّل فيها العلامات والإشارات إلى أسئلة.ذاتَ يوم قالت لي مراهقة أنّ مقطعًا شعريًّا لي أنقذها من الاِنتحار، المقطع يقول: «لا نخسر شيئًا إذ نخسر لا شيء». بالنسبةِ لي هذا المقطع هو محض مقدمة منطقية لِمَا يلي في القصيدة، ولكن بالنسبة لها هو إجابة فلسفية على مسألة وجودية، ولِمَ لا؟.
أحيانًا لا يملك القارئ القدرة على اِستيعاب لُغة الشاعر أو مفرداته. إلى أي حد يعنيك هذا القارئ؟
- عمار مرياش: إنّ القارئ هو صورتي في ماء نرجسيتي، إنّه جزء من روحي، وأؤكد أنّ علاقتي باللّغة العربية هي أكثر من علاقة عشق، إنّها الهيام، لديّ إحساس مدهش بهذه اللّغة. صدقيني، لديّ قُراء أكثر من أصدقاء حقيقيين وأكثر من إخوة. إنّ الشاعر هو ذاته معادل موضوعي لقلق الحياة وعبثيتها، لروعتها وفتـنتها العظيمة كما لحمقها وسخافاتها.
الشاعر هو الوحيد من بين كلّ أعضاء الطبقة-الكهنوتية- الّذي يكتب بذاته، وبالتالي فهو الوحيد الّذي لا يمكننا تحكيمه لمنطق الصواب/الخطأ، إنّه هو كما هو، إنّ اِنزياحه بالنسبة لأي معلم كان –مهما كانت شرعيته- هو جزء من وظيفته الأساسية، لذا فهو يخلق لغته، رؤياه وهندسة نصه، إنّه يخلق نفسه باِستمرار، وعلى القارئ أن يعمل على تطوير نفسه قليلاً وإلاّ فإنّه ليس أمامه سوى مواصلة قراءة الخطابات الموزونة والمُقفاة التي تعوَّدَ عليها، ليس هناك حل آخر. بصورة أكثر وضوحًا الشاعر هو نفسه رسالة، إنّه لا يعبر عن، ولا يعكس الـ، إنّه هنا، الآن وهكذا. إنّه هو.لديّ قُراء من مناطق لم أتصوّر مُطلقًا أنّ كتابتي النادرة جدًا يمكن أن تصل إليها ومع ذلك فهم يقرؤونني ويحفظون قصائدي عن ظهر قلب، وهم ليسوا نقادًا ولا أساتذة جامعيين، وأخيرًا يجب الإشارة أيضًا إلى أنّ الشِّعر الحديث كغيره من الفنون الحديثة الأخرى ليس محل اِستيعاب، إنّه بالأحرى محل إثارة وإحساس وتأمل.
خارج الإبداع الأدبي اللّغة مجرّد أداة و وسيلة لا غير ما هو مهم جدًا هو الرؤيا
على ذكرك للشِّعر الحديث. قلتَ سابقًا: «الحداثة لا تتطلب مصطلحات لغوية معينة والخروج على الوزن والقافية بقدر ما تتطلب النظرة الحديثة والمستقبلية للأشياء». ألا ترى أنّ مفهوم الحداثة ملتبس لدى الأغلبية، أو أنّ هذا هو السائد غالبًا؟
- أجدّدُ تأكيدي لِمَا قلتُ منذ سنوات. أيضًا خارج الإبداع الأدبي اللّغة مجرّد أداة، وسيلة لا غير، ما هو مهم جدًا هو الرؤيا طبعًا. ثمَ إنّ الحداثة ليست كلّ شيء ولا أهم شيء بالنسبة للجزائر والعرب، يجب أن يكون هذا واضحًا. والحداثة الأدبية لا يمكن أن تستمر وتتطوّر بدون حداثة اِقتصادية واِجتماعية وسياسيّة. ثم هناك شعراء شعريّتهم ليست عالية جدًا ولكن حداثتهم متطوّرة جدًا، بختي بن عودة نموذجًا هل يمكن أن نُصنفه مع الشعراء؟ على العكس منه هناك شعراء شعريّتهم جد عالية في حين أنّ حداثتهم ليست جد عالية. ثُم لنقل أنّ الحداثة هي التمظهر الفني لروح العصر، أدبيًا أقصد أولوية المدينة، التمدن، العقلانية، الديمقراطية، التسارع، التحكم، المحلي، العالمية، الإيمان المُطلق بحقوق الإنسان، الوعي الفردي باللامتناهيات: اللامتناهي في الكبر -ملايير المجرات-، اللامتناهي في الصِغر -عالم الذرة وما أصغر-، اللامتناهي في التعقيد –الذرات المُتكاملة-، نوع من علاقة وظيفية بين الشكل والوظيفة، بين اللون والمعنى... روح العصر يعني. وبهذا المعنى يمكنُ للحداثة أن تكون نسبية أيضًا.
على النُقاد والدارسين أن يضعوا عُقدهم وأحكامهم المُسبقة جانبًا قبل مُقاربة نص
قلتَ في سيّاقٍ سابق: «كل الذين كتبوا عني أسقطوا ذواتهم على نصوصي لا غير». هل يعني هذا أنّ النُقاد كانوا في حالة بحث واِكتشاف لذواتهم في نصوصك وليس في حالة دراسة ونقد النصوص. ومن جهة أخرى، هل يعني هذا أنّ النقد ظلمك كشاعر ولم ينصف شِعرك الّذي كان يحتاج لعمليات مقاربة وقراءة أكثـر من إسقاطات شخصية؟
- القضية تتعلق بالحديث عن ديوان «اِكتشاف العادي» في لقاء صحفي كهذا، حينَ يجد فيه سهيل الخالدي أنّه أقرب إلى النبوة ويرى فيه احميدة العياشي قطيعة، بينما يرى فيه جمال بلعربي الكتابة بالذات فيما يرى أحمد عبد الكريم أنّها كتابة إمتاع ومُؤانسة وفوزي كريم يرى فيه بصمة خاصة تمامًا تنتسب لعمار مرياش وحده، ويُؤرخ نجيب أنزار للشِّعريّة الجزائرية بِمَا قبل «اِكتشاف العادي» وما بعد، بينما يرى فيه آخرون أنّه خسارة للورق الجيد الّذي طُبِعَ عليه. هذا يغمرني بمنتهى السعادة، لأنّه حين نعرف هؤلاء نجد أنّ كلّ واحد منهم يرى فيه جانبًا قويًا من ذاته هو، هذا رائع ولا يمكنني أن أذهب أبعد من هذا هُنا.
أمّا النقد والنُقاد فموضوعٌ آخر. على النُقاد والدارسين أن يضعوا عُقدهم وأحكامهم المُسبقة جانبًا قبل مُقاربة نص، وأن يختاروا مواضيع أبحاثهم ببعض من الجُرأة والإبداع وأن يتميَّزوا ببعض من النزاهة.
في كثير من الدراسات نجد كلّ دواوين الشِّعر التي صدرت في الجزائر ضمن مراجع الباحث. ثم حين نحاول قراءة العمل نجد أنّ الباحث لا يُوظف سوى شاعرين أو ثلاثة، وفي أعمال هؤلاء لا يُشير إلاّ لأردأ ما في كِتاباتهم، ثُم هناك كثير مِمن يتقيؤون عُقدهم على الورق على أنّها شِعر وفي هذا القيء يجد الكثير من النُقاد ضالتهم، الغموض والإبهام في الشِّعر.. عُقدة أوديب. قتل الأب. التشاؤمية والاِنهزامية في شِعر كذا، وكذا..إلخ، هذا كلّ ما يهم النقد؟
هناك أطباء نفسيون لمعالجة المرضى، الشِّعر فنٌ رفيع ويجب أن يكون كذلك، لماذا لا يبحثون في الإبداعيّة، في الشِّعريّة، في الهندسات المُبتكرة المُدهشة، في الموسيقى، في البنية المُتميزة للجُملة لدى (...)، أو في الوظيفة السحريّة لـ(..)؟ هل عقدة أوديب منتوج اِستهلاكي واسع ودورته سريعة؟ يبحثون عن الشاذ والمُختلف –لو كُنا في بلد به تراكم كمي ونوعي كبير-، لِمَا لا؟ لكن في حالتنا، حالة الجزائر، هو عملٌ عقيم غير ذي جدوى، إنّهم كمن يزعم أنّه يبحث عن النعجة السوداء في قطيعٍ أبيض، لكن لا، في حالتنا القطيع كلهُ أسود. ولا يمكن أن نسكن للطمأنينة والمُهادنة وننشد العمل الجاد والثورة والاِبتكار.
الشِّعر هو كتابة فوق-تاريخية- غير خاضعة لسّياقها الزمني
أمازلتَ تُؤمن بِمَا قلته في سنوات التسعينات: «أنا شاعر مهمتي تكمن في فتح نوافذ وفي إيجاد حلول جديدة لا في تصدير مشاكلي الصغيرة للعالم على أنّها قضايا الجميع والمُستقبل»؟ أما زالت مهمتك نفسها أم تغيرت نظرتك أمام تحديات اليومي والمعيش؟
- هذا أكيد، الشُعراء مهدوا طُرق الأنبياء والفلاسفة والمؤرخين، وإنّ ما يبقى هو ما يكتبه الشُعراء كما يقول هولدرلن، ذلك أنّ الشاعر لا يكتب اِنطلاقًا من حسابات سياسيّة أو موازنات اِجتماعيّة، وليست لديه أيّة سلطة سوى سلطة الكلمة، عليه إذن أن يكون مُهندسًا ذكيًا جريئًا شفافًا وحساسًا إلى اللانهاية، أن تكون شاعرًا هو أن تخلق لنفسك وللآخرين حُلمًا أو وهمًا، تسقط نفسك في المستقبل، ثم تخلق سياقًا لحلمك وتهبه رموزك وعلاماتك وتَسحبه إلى المُستقبل، لا أن تُمجد بؤسك واحتياجاتك الصغيرة. أعتقد أنّ الشِّعر هو كتابة فوق-تاريخية، أي غير خاضعة لسّياقها الزمني.
على الشاعر أن يكون عظيمًا في كتاباته الشِّعريّة قبل أن يكون اِستثنائيًا في تعريفه للشِّعر
هل يمكن أن يكون الشاعر عظيمًا في كتاباته وفي ذات الوقت اِستثنائيًا في تعريفه للشِّعر أو في التعبير عن علاقته بالشّعر؟
- على الشاعر أن يكون عظيمًا في كتاباته الشِّعريّة قبل أن يكون اِستثنائيًا في تعريفه للشِّعر أو في التعبير عن علاقته بالشِّعر، الشِّعر مثل الحب بالنسبة للمحبوب والعبادة بالنسبة للمؤمن والورقة البيضاء بالنسبة للكاتب والحرية بالنسبة لأي مواطن عادي. إنّني أقل شاعريّة وأكثر عقلانيّة ووعيًا، أي لغو هذه المفاهيم البائدة، لا علينا، هو علاقة كعلاقة العشق، يمكن أن نعيش فيها كلّ الحالات بكثافة: الألم، اللذة، الندم، الاِحتقار، البخل، العمي، التهور، الاِندفاع، الكراهية، البكاء،،، كلّ الحالات، لكن من حسن حظي أنني تجاوزت مراهقات كثيرة وصرتُ أتصرف بهدوءٍ قاتل أحيانًا.
علاقتي بالشِّعر جيدة، إنّها علاقة عشق، وعلاقتي بالعشق جيدة أيضًا إنّها علاقة شِعريّة، يتغير المعشوق ولا تزداد العلاقة إلاّ تحسنًا، طبعًا لا أتوانى في قمع نفسي وتأديبها باِستمرار، أذكر، عندما كنتُ صغيرًا كتبتُ شيئًا من الشِّعر في هجائي وعلقته في غرفتي لأراه كلّ يوم، المقطع يقول: «فقاعة الهواء كلما يزداد حجمها يحتمل اِنفجارها»، أنا أتعامل مع الشِّعر كما يتعامل الطالب مع معلمه بمنتهى الثقة ولكن بمنتهى الاِستقلالية وحرية الرأي، أي علاقة عضوية، جدلية، أُعَلِمُهُ كيف يرتكب الحماقات ويُعلمني كيف أتدفق حكمةً وبهاءً، أتعلم باِستمرار من كتاباتي ومن تجاربي بشكلٍ عام، من عثرات القلب أُقوم، ولا أتأجل.
أنا لا أكتب بماء الذهب ولا يتنزل عليّ الوحي، أبحث وأجرب وأجتهد لتقديم عمل نوعي لذا أتردّد كثيرًا قبل النشر. طبعًا ليس مربحًا أن تكون أديبًا، أحيانًا حتى وأنت معروف جدًا تُعاني كثيرًا لإيجاد ناشر لكتابك، ثم لا تكون لديك حقوق تأليف. لذا كان واجبًا خلق معادل فني لهذه الحياة البائسة.