الثلاثاء 15 جويلية 2025 الموافق لـ 19 محرم 1447
Accueil Top Pub

أكاديميون ومختصون يؤكدون: الرقمنة ضرورة لحفظ الذاكرة

تحتفلُ الجزائر هذا السبت، بالذكرى الـ63 لعيد الاِستقلال، وتأتي اِحتفالات هذا العام في ظل تحديات دولية وإقليمية حساسة. ذكرى الخامس جويلية 1962، تأتي كلّ عام لتستحضر أمجاد وتاريخ وأحداث وبطولات الجزائر، وهي مناسبة أخرى للذاكرة الوطنية، لتفعيل آلياتها، من خلال اِحتفالات ومقاربات سردياتها الثورية والوطنية. هذه الذاكرة التي تحتاج أكثر من أي وقتٍ مضى لتضيء وتُخَلَدَ أكثر.

أعدت الملف: نوّارة لحرش

وبكلّ الطُرق المُمكنة لهذا التخليد أو لهذه الإضاءة، ومن بين هذه الطُرق، التوثيق بكلّ الآليات، ومن بينها آلية وتكنولوجية الرقمنة. فهل يمكنُ -حقًا- أن تُساهم الرقمنة في حفظ الذاكرة الوطنية والتراث التّاريخي الوطني بشكلٍ أفضل من الأرشيف الورقي؟ وهل تُساهم في تعميم وتعزيز المعارف التّاريخيّة ونشرها وتبلغيها وتوفيرها أكثر للأجيال الجديدة والأجيال القادمة، وبالتالي تُثير اِهتمام شريحة أوسع من الشباب الذين يتفاعلون مع المحتوى الرقمي أكثر من التقليدي؟
أيضًا ما مدى أهمية وضرورة هذا التحوّل الرقمي فيما يخص رقمنة المادة والوثائق والملفات والمخطوطات التّاريخيّة؟ وإلى أي حد يمكن اِعتبار الرقمنة أداة فعّالة لحماية وحفظ وصون الوثائق التّاريخيّة وأداة تفعيل للهوية الثّقافيّة وربط المجتمع وعناصره بتاريخ الأجداد؟ ومن جانبٍ آخر: كيف يتصوّر المُؤرخ والباحث الأكاديمي المُختص في التاريخ، مشروع أو عملية رقمنة كلّ ما يتعلق بالمادة التّاريخيّة، وبالموازاة مع هذا، هل تُساهم أيضًا في تسهيل مهمة المؤرخين والمُشتغلين على التاريخ والذاكرة الوطنية؟ وهل تُوفر الرقمنة إمكانية الوصول الواسع واللامحدود واللامشروط إلى المادة التّاريخيّة؟
حول هذا الموضوع "الذاكرة الوطنية والرقمنة"، كان ملف هذا العدد من "كراس الثقافة"، مع مجموعة من أساتذة التاريخ والباحثين الأكاديميين، الذين تناولوا وقاربوا الموضوع كلٌ من زاويته وحسب وجهات نظر مختلفة ومتباينة، لكنها تلتقي وتتقاطع في الكثير من النقاط.

* الباحث والأستاذ مراد سعودي
الأرشيف الرقمي ضرورة عصرية وعلمية
يقول أستاذ التاريخ الدكتور مراد سعودي، من جامعة الجزائر2: "يُعد التاريخ وعاءً لجميع الأعمال الإنسانية وبإيجاز شديد، ينطوي تعريفه على معنيين رئيسيين هُمَا؛ الأحداث التي وقعت فعلاً؛ ورواية تلك الأحداث التي وقعت فعلاً من قِبل المؤرخين".
مُضيفاً في ذات المعطى: "أًعْطِيَت للتاريخ عِدة تعاريف أختار منها تعريف هنري إيريني مارو الّذي عَرَّفَهُ على أنّه (معرفة الماضي البشري المُتوصل إليه بطُرق علمية)، تنطوي عبارة بطُرق علمية معاني التحقّق عن طريق النقد التاريخي الّذي يصفه مارك بلوخ بــ(فن تمييز الصحيح والخاطئ والمُحتمل في الروايات بالنقد التاريخي)، ولمُعالجة أي نقطة تاريخية وجب البحث عن شواهدها وجمعها وهذا من صلب مهمة المؤرخ، هذه الوثائق التي تملأ الأرشيفات مُتباينة بدرجة كبيرة جدًا والسيطرة عليها تتطلب تقنيات عالية ومُمارسة حقول معرفية في غاية الدقة لجمع الوثائق الضرورية للبحث والحصول عليها، فالمُؤرخ المحترف هو الّذي يضبط في ذهنه هذا السؤال: كيف أستطيع أن أعرف ما سأقوله لكم؟".
ثم أردفَ: "هناك مقولة شهيرة مضمونها: (المُؤرخ ينشئ وثائقه)، هذه الوثائق تتعدّد مصادرها وأماكن تواجدها لذا أصبح اليوم مع التغير المُتسارع في شتى المجالات وخصوصًا المجال الرقمي أن تتم إتاحة هذه الوثائق رقميًا؛ هذا الاِتجاه الّذي سارت فيه بعض الدول مُبكرًا وغيرت مفهوم الأرشيف من الورقي إلى الرقمي مثل الولايات المتحدة في السبعينات وكندا ثم تلتها الدول الأنجلوساكسونية، لتلتحق بعض الدول الأوروبية بهذا الركب سنة 1986".
ومع هذا التغير -يُضيف المُتحدّث- أصدرت اليونيسكو سنة 1990 تقريرًا مُفصلاً تحثُ فيه الدول على ضرورة أرشفة الوثائق وإتاحتها رقميًا.
وهنا يتساءل: "هل ما زلنا في الجزائر غير مُواكبين للتغير الحاصل في هذا المجال الّذي أصبح سياديًا؟ أم أنّ التطوّر الرقمي مُتسارع جدًا ويتطلب حشد موارد مادية وتأهيل علمي مُتخصّص؟
وفي ذات الفكرة يُواصل قائلاً: "كان أوّل من طرح هذا الاِهتمام أحد أعمدة الأرشيفيين في الجزائر (عبد الكريم بجاجة) سنة 2001 لكن دون تطوير الفكرة، بعدها أصبح الاِعتراف بحجية الكتابة الإلكترونية من خلال القانون 10 - 05 المُؤرخ في 20 جوان 2005، الّذي يجعل من الشكل الإلكتروني مقبولاً في الإثبات على غرار الشكل الورقي".
إذ أصبحَ -حسبَ رأيه- التدفق الهائل للملفات وضرورة اِسترجاعها والحاجة إليها مُمكنًا بأسرع طريقة وأكثرها أمانًا عبر الطريق الرقمي الّذي أَصبحَ أفضل وعاء للحفاظ عليها، وخصوصًا الوثائق التّاريخيّة التي تجاوز عمرها عقودًا وفي وثائق قرونًا.
مُضيفًا: "اِنتقلنا اليوم إلى عصر المُؤرخ الرقمي الّذي يُواجه كمًا هائلاً من الوثائق في أماكن مُتعدّدة يصعب السفر إليها، اِنعكس على ثراء المعرفة التّاريخيّة وتشعبها وصعوبتها وغدى الأرشيف الرقمي مقومًا لسيادة الدول ومكسبًا لتعزيز المعارف التّاريخيّة والحفاظ على الذاكرة الجماعية حتى لا يحدث أي تلاعب بذاكرة الشعوب لتفتيت ثقافتها مثل ما يحدث هذه الأيّام أين أصبحت صناعة الأرشيف أداة ضغط ودعاية مغرضة".
ويقول ذات المتحدّث، مُؤكداً في هذا الفحوى: "أصبحت الرقمنة ضرورة مُلحة في جميع المجالات والاِنخراط فيها عملٌ أكثر فائدة لحفظ الوثائق من الضياع سواء ما تملكه المؤسسات أو الأفراد، وخير مثال على هذا مشروع NARA الأمريكي سنة 2012 الّذي تمَ تسميته Citizen archivist الأرشيفي المواطن، حيثُ أشرك المواطنين في رقمنة الوثائق ودعاهم للتطوع للقيام ببعض المهام، هُنا ستتغير المعارف التّاريخيّة وتنكشف وثائق جديدة ستؤثر حتى على سياسات الدول".
وخَلص إلى القول: "إنّنا بحاجة كبيرة للتحوّل الرقمي من أجل حفظ معارفنا التّاريخيّة وخلق أمن معرفي للذاكرة الوطنية ومصداقية أكثر في الكتابة التّاريخيّة، وتمكننا من النبش في تاريخنا وتعزيز وجوده في حاضرنا".

* الأستاذ فؤاد عزوز
الرقمنة تحصن الذاكرة الوطنية من التهديدات الجيوسياسية
يرى أستاذ التاريخ في جامعة سطيف، الدكتور فؤاد عزوز، أنّ رقمنة الوثائق والمادة والملفات التّاريخيّة ليست مجرّد عملية تقنية معزولة، بل هي مشروع حضاري مُتكامل تتقاطع فيه الأبعاد الثّقافيّة، السّياسيّة، المعرفيّة والتّقنيّة، ويجب أن يُفهم ضمن رؤية وطنية شاملة لحفظ وصون الذاكرة الجماعية، وتحديث أدوات البحث التّاريخي، وضمان اِستمرارية العلاقة بين الماضي والحاضر والمُستقبل.
مُضيفاً في ذات الشأن: "تُعد الرقمنة أداة فعّالة لحماية الوثائق التّاريخية من التلف، الضياع، أو التلاشي الطبيعي الّذي تُسببه الرطوبة، الزمن، أو الكوارث، كما تُقلل الحاجة للتعامل المُباشر مع النُسخ الأصلية، ما يُحافظ على سلامتها، والأهم أنّ الرقمنة تُحصّن الذاكرة الوطنية من التهديدات الجيوسياسية، إذ يمكنُ إنشاء (نسخ اِحتياطية) مُوزعة في مواقع آمنة، وبالتالي الحفاظ على التُراث الوثائقي حتّى في حال نشوب أزمات أو حروب، في هذا السّياق تُصبحُ الرقمنة وسيلة من وسائل (السيادة الثّقافيّة)، تحمي التّاريخ من الضياع أو التزوير".
ومن أبرز ما تٌحقّقه الرقمنة -حسبَ ذات المتحدّث- هو ديمقراطية الوصول إلى المعرفة التّاريخيّة، وتُصبح مُتاحة للطُلاب والباحثين الأكاديميين بمختلف رتبهم، ويمكن للمنصّات الرقمية أن تُعيد تقديم الوثائق في صيغ جذابة وتفاعلية (خرائط، معارض اِفتراضية، روايات مُتعدّدة الوسائط)، ما يُساهم في إعادة إحياء الاِهتمام بالماضي لدى الأجيال الجديدة، وبالتالي تُصبح الرقمنة أداة تفعيل للهوية الثّقافيّة وربط المجتمع وعناصره بتاريخ أجداده.
ومُستدركاً يقول: "ورغم مزايا الرقمنة، إلاّ أنّ المشروع يُواجه تحديات تقنية ومادية، منها كلفة المعدات والتخزين، الحاجة إلى تدريب الكوادر، وضمان اِستمرارية المنصات الرقمية في ظل تغير التكنولوجيا السريع، كما يجب التنبه إلى التحديات الأخلاقية مثل: حماية الخصوصية أو منع التلاعب بالوثائق، لذلك فإنّ نجاح الرقمنة يتطلب رؤية إستراتيجية شاملة، ووعيًا سياسيًا وثقافيًا بقيمة الأرشيف كركيزة للسيادة والهوية الوطنية".
وأردف مُوضحًا: "قبل الرقمنة، كان الباحث التّاريخي مُضطرًا للتنقل إلى مراكز الأرشيف، والتي قد تكون مُتباعدة أو محدودة الوصول بسبب عوامل إدارية، سياسية أو حتّى بيروقراطية، أمّا بعد الرقمنة فأصبح بالإمكان تصفح الأرشيف من أي مكان في العالم، وفي أي وقت، ما يُوفّر على المؤرخين وقتًا وجهدًا كبيرين، ويفتح المجال أمامهم للإطلاع على كمّ واسع من الوثائق لم يكونوا يستطيعون الوصول إليه سابقًا".
مُضيفًا في ذات المعطى: "تُوفر الرقمنة إمكانية الربط بين مصادر مُتفرقة زمانيًا ومكانيًا، ما يُمكِّنُ المُؤرخ من بناء رؤية شمولية ومُتعدّدة الأبعاد، فيمكنه مثلاً مقارنة مراسلات إدارية من الأرشيف الوطني، مع شهادات شفهية محفوظة رقميًا، أو صور وخرائط تاريخيّة رقمية، مِمَا يُثري التحليل التاريخي ويُوسّع من قاعدة الأدلة التي يستندُ إليها الباحث".
وبالموازاة مع هذا، -يُشيرُ المُتحدّث-، إلى أنّ المادة الرقمية قابلة للبحث النصي، والتعليق، والتكبير، والمُعالجة باِستخدام برامج الذكاء الاِصطناعي أو التحليل النصي، وهذا يُحْدِثُ نقلة كبيرة في طريقة تعامل المُؤرخ مع الوثيقة، ويجعله أكثر قدرة على اِستخراج الأنماط، ورصد التكرارات وربط الأحداث، كما تُتيح الرقمنة الاِستفادة من أدوات التعليم الرقمي، كإنشاء خرائط زمنية تفاعلية أو بناء قواعد بيانات تاريخية قابلة للتحليل الكمي.
كما تُتيح الرقمنة للمؤرخين -يُضيف المُتحدّث- التعاون فيما بينهم عبر الحدود، وتبادل الوثائق والأفكار ضمن شبكات بحث رقمية، وهذا يُسهل بناء مشاريع بحث جماعية عابرة للدول، كما يُقرّب بين الباحثين والمؤسسات الأكاديمية والأرشيفية، ويسمح بتقاسم الوثائق النادرة أو الحساسة بطريقة آمنة.
وفي الأخير خلص إلى القول: "من خلال رقمنة الوثائق الهامشية أو غير الرسمية (كالمذكرات الشخصية، الصور، القصاصات، الرسائل الشعبية...)، تُفسح الرقمنة المجال لكتابة تاريخ من الأسفل، يُنصتُ للأصوات المنسية والمُهمشة، وهذا يُحرّر الكتابة التّاريخية من الاِقتصار على الرواية الرسمية، ويفتح بابًا أوسع لتعدّد السرديات التّاريخيّة وفهم الذاكرة الجماعية في كلّ تعقيداتها".

* الأستاذ والباحث مصطفى بن عريب
السبيل الأمثل لحفظ وصون الذاكرة الوطنية
أمّا الباحث وأستاذ التاريخ، الدكتور مصطفى بن عريب، من جامعة محمّد بوضياف/المسيلة، فيقول: "يقتضي الحديث في مسألة رقمنة المادة والوثائق والنصوص والمخطوطات التّاريخيّة بأنواعها المُختلفة التنويه أوّلاً بأنّها قد أصبحت عملية ضرورية وناجعة أكثر من غيرها لضمان حماية وتأمين الوثائق التّاريخيّة وحفظها بطريقة تقنية وإلكترونية لمدى زمني طويل جدًا يضمن وصولها وهي في حالة جيدة للأجيال اللاحقة".
فمسح الوثائق -يُضيف المتحدّث- ورقمنتها يؤدي حتمًا لتفادي المخاطر المُتعدّدة (الإتلاف، الحرائق، تضرّر الوثائق بفعل الرطوبة، الغُبار والبكتيريا) وهي في الحقيقة مخاطر تحيطُ بالعمليات التقليدية لحفظ الوثائق التّاريخيّة في العُلب والحافظات الورقية أو السجلات ورفوف المكاتب والمستودعات وهي في مجملها أدواتٌ ووسائل بالية لا يمكن التعويل عليها في حفظ المادة والوثائق والنصوص التّاريخيّة لأمدٍ طويل.وعليه -يقول ذات المتحدّث- يجب أن تُساير عمليات رقمنة الوثائق التّاريخيّة مُختلف المجهودات المبذولة من طرف الدولة الجزائريّة في سبيل رقمنة الإدارة والتجارة والبحث العملي وغيرها، بل أصبح الحفظ الرقمي للمعلومات والكُتُب والوثائق مطمح كلّ مؤسسة أكاديميّة وثقافيّة واِقتصاديّة.ففي هذا السّياق، -يؤكد الدكتور بن عريب-: "يُعدُ مشروع أو عملية رقمنة الوثيقة التّاريخيّة من المشاريع الجادة والخيارات الضرورية والاستراتيجية التي يجب على الجميع المُساهمة في تحقيقها وتجسيدها على أرض الواقع وذلك بالنظر للأهمية البالغة التي تكتسيها هذه العملية سواء على مستوى الوثائق التّاريخيّة نفسها أو على مستوى تطوّر البحث العلمي التّاريخي وحفظ التُراث المكتوب بشكلٍ عام".
وهنا أردف: "فلا ريب أنّ رقمنة الوثائق التّاريخيّة هي السبيل الأمثل لحفظ وصون الذاكرة الوطنية والطريقة العلمية الأفضل لنشر وعرض كلّ ما هو مدسوس ومُضمر من مادة تاريخية ووثائق ونصوص في مُختلف المكتبات العمومية والخاصة وكذلك مراكز الأرشيف المُتناثرة هنا وهناك فتكون بفضل مسحها ضوئيًا وتحويلها لملفات رقمية مُتاحة على مر العصور وفي مُتناول الأجيال بصفة عامة والطلبة والباحثين والمؤرخين بصفة خاصة".
لاسيما وأنّ عرضها في هذه الحالة -يقول المُتحدّث- سيؤدي حتمًا لتخفيف أعباء البحث التّاريخي واختزال الكثير من الوقت والجهد ويُبدّد الكثير من الصعوبات التي كثيرًا ما واجهها الباحث والمُؤرخ من أجل الحصول على الوثيقة التّاريخيّة كالاِنتقال لأماكن بعيدة. صعوبات ومخاطر الاِستنساخ من الوثائق الأصلية، التكاليف الباهظة للوصول إلى بعض الوثائق الموجودة غالبًا في أماكن مُتفرقة وتضع بعض الشروط القاسية مقابل الاِطلاع على وثائقها.
فضلاً -كما خلص في الأخير- على أهمية وانعكاسات اِستثمارها وتوظيفها على نطاق واسع في تطوّر البحث التاريخي والوصول لأعمال رصينة وجادة تتسم بالمصداقية والحقيقة التّاريخيّة.

* الباحث والأستاذ محمّد بن ساعو
خطوة مهمة في مسار الحفاظ على التاريخ والذاكرة
في حين، يقول الأستاذ والباحث المُختص في التاريخ، الدكتور محمّد بن ساعو من جامعة سطيف2: "لقد أسهم التحوّل الرقمي من خلال التوجه نحو تحويل الأرشيف الورقي من مخطوطات وأرصدة وثائقية وخرائط وتسجيلات إلى صيغ رقمية، في تصدر الموضوع ضمن الخطاب الأكاديمي على مستوى تصوّر مشاريع البحث واهتمامات المخابر العلمية في تخصّصات التاريخ وعِلم الآثار والمخطوطات وعِلم المكتبات، وفي خُطط عمل المُؤسسات المكتبية ودور الأرشيف ومراكز حفظ المخطوطات التي بدأت في التّكيّف مع هذا التوجه الّذي يندرج أيضًا في ما يُسمى بالإنسانيات الرقميّة".
مُضيفًا: "إنّ المُراهنة على اِستمرارية المُحافظة على الوثائق والمخطوطات بصيغتها الأولى أمرٌ في غاية الأهمية، ذلك أنّ الأصول تظل مُهدّدة بتأثير العوامل المُختلفة على الرغم من محاولة توفير ظروف مثالية للحفظ في أحيان كثيرة، على اِعتبار أنّ الرقمنة تلغي الحاجة إلى العودة إلى النسخ الأصلية والاِقتصار على المرقمنة، فينعكس التقليل من التداول الميكانيكي لها على حالتها ووضعيتها ويُطيلُ في أمد مقاومتها".
هذا المسعى -حسب الدكتور بن ساعو- هو خطوة مهمة في مسار الحفاظ على التاريخ والذاكرة من جهة لأنه يُعنى بتنويع حوامل النصوص وهو ما يُضاعف من جودة استمراريتها، كما أنّه يسهم في دمقرطة الوصول إلى المضامين من خلال إتاحة المواد المرقمنة على الشبكة العنكبوتية وفي المواقع المختصة بالبحث التاريخي وفي الأرصدة الإلكترونية للمؤسسات بالمقابل أو بالمجان وفقًا للسّياسة المُتبعة.
الأمر الّذي من شأنه -كما يُضيف- توسيع دائرة الإفادة من جهة والتقليل من حجم المتاعب التي تعترض الباحث في الوصول إلى المظان التي يعتمدها في ضبط الحقائق وإعادة تصوّر الحادثة التّاريخيّة.
ومُستدركًا أردف: "ومن المُهم الإشارة إلى أنّ هذه الدمقرطة لا تخدم البحث العلمي والباحثين الأكاديميين من المُتخصصين فقط، بل يمتد اِنعكاسها وتأثيرها الإيجابي على عموم المهتمين بقضايا التاريخ والذاكرة بصفة عامة، ليشمل أيضًا المشتغلين بالفنون المسرحية والسينمائية ومختلف ضروب الإبداع التي تتخذ من المادة التّاريخيّة ركيزة لبناء متونها وصياغة سردياتها".
وفي ذات السّياق، واصل قائلاً: "في وضعنا الراهن، وعلى الرغم من الوعي بأهمية هذه الخطوة، إلاّ أنّ العملية يبدو أنّها تسير بوتيرة بطيئة سواء على مستوى عملية الرقمنة في حد ذاتها أو على مستوى الإتاحة على الشبكة العنكبوتية، والأمر له خلفيات متعلقة بالإمكانيات المادية والبشرية من جهة وبمدى وجود الإرادة الحقيقية من جهة ثانية، ومع ذلك فإنّ هذا لا ينفي أهمية وفعّالية بعض المُبادرات الجادة سواء في المؤسسات المنضوية تحت قطاعات عمومية بعينها أو من خلال مبادرات خاصة على غرار بعض الزوايا التي اِجتهدت في فهرسة مخطوطاتها ورقمنتها وإتاحتها للمهتمين".
واختتمَ بقوله: "لا يمكن جعل رقمنة الوثائق مجرّد عملية تقنية تقوم على التصوير والإدراج في الوسائط الإلكترونية، بل هي مشروع تتقاطع في تجسيده الكثير من الفواعل لضمان السيادة المعرفية والعدالة التّاريخيّة ويحكمه واجب حفظ الذاكرة وتبليغها للأجيال القادمة، ومن الضروري التنبيه إلى أنّ عملاً من هذا النوع، يتطلب تجنيد إمكانيات مُهمة على المستوى التنظيمي، التقني، والبشري..".

* الباحث والأستاذ عبد القادر عزام عوادي
مشروع حيوي لصون التراث التاريخي
يقول الدكتور عبد القادر عزام عوادي، باحث وأستاذ في قسم التاريخ، بجامعة حمة لخضر/الوادي، من جانبه: "يعدُ مشروع رقمنة الوثائق والمادة التاريخية من أهم المشاريع الحيوية في سبيل الحفاظ على الذاكرة الوطنية وصون التراث التّاريخي من التلف والضياع. فمع تطوّر التكنولوجيا، أصبح بالإمكان تحويل الأرشيف الورقي الهشّ والمُهدّد بعوامل الزمن إلى نسخ رقمية قابلة للحفظ والاِسترجاع والنشر بسهولة، وهو ما يُمثّل تحوّلاً نوعياً في طُرق التعامل مع التّاريخ ومصادره".
ويضيف المتحدّث: "إنّ رقمنة الوثائق لا تعني فقط تحويلها إلى ملفات إلكترونية، بل هي عملية توثيق منهجية تستوجب التصنيف، والتأريخ، والتحقّق من صحة المعلومات، وربطها بسياقاتها التّاريخيّة الدقيقة. من جهة أولى، تُساهم الرقمنة بشكلٍ مُباشر في حماية الوثائق الأصلية من التلف، سواء بفعل العوامل الطبيعية كالرطوبة والحرارة، أو بفعل الاِستخدام البشري المُتكرّر. كما أنّها تضمن الحفاظ على محتوى الوثائق حتّى في حال ضياع النسخ الأصلية".
وهذا في حد ذاته -حسب رأيه- عمل من أعمال صون الذاكرة الوطنية، لأنّ الوثائق التّاريخيّة ليست مجرّد أوراق، بل هي شواهد على الماضي، وعلى مكوّنات الهويّة الوطنيّة والسّياسيّة والاِجتماعيّة.
من جهةٍ ثانية، -وحسب رأيه دائماً- تُوفر الرقمنة إمكانية الوصول الواسع إلى المادة التّاريخيّة، سواء للباحثين أو للطلبة أو للمهتمين، بغض النظر عن أماكن تواجدهم. فبدل أن تبقى الوثائق حبيسة الأرشيفات والمؤسسات الرسمية، تُصبح مُتاحة عبر منصات رقمية يمكن تصفحها في أي وقت، مِمَا يُساهم في تعميم المعرفة التّاريخية ونشرها بين الأجيال الجديدة، بل وقد يُثير اِهتمام شريحة أوسع من الشباب الذين يتفاعلون مع المحتوى الرقمي أكثر من التقليدي.
أمّا بالنسبة للمُؤرخين والباحثين، فإنّ الرقمنة -يُؤكد الدكتور عوادي- تُسهم في تسهيل مهامهم بشكلٍ كبير، إذ تُوفر الوقت والجهد في التنقل بين الأرشيفات، وتُتيحُ أدوات بحث رقمية تُمكِّن من اِستعراض كميات ضخمة من المعلومات في وقتٍ وجيز. كما تُساعد في الربط بين مصادر مُتعدّدة ومقارنة الروايات وتدقيقها. وهذا ما يُعزّز جودة البحث التّاريخي، ويدفع نحو إنتاج معرفة علمية دقيقة ومُعمّقة.
بالمُوازاة، –يُضيف المُتحدّث- من الضروري الإشارة إلى أنّ مشروع الرقمنة يجب أن يتم ضمن إطار مؤسسي يحترم الضوابط العلمية والأخلاقية، ويضمن حماية البيانات وعدم التلاعب بها. كما أنّ التكوين في هذا المجال ضروري، سواء بالنسبة للأرشيفيين أو المؤرخين، حتى تكون الرقمنة أداة فاعلة لا مجرّد تقنية حديثة.
واختتمَ بقوله: "باِختصار، الرقمنة ليست فقط وسيلة للحفظ، بل هي أفقٌ جديد للتفكير في التاريخ، ولإعادة ربط المجتمع بذاكرته الجماعية، ولتمكين الأجيال القادمة من فهم ماضيها في ضوء معطيات دقيقة ومُتاحة".

 

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com