
* ليسَ من المُمكن تجاوز الفلسفة كموقف أو خِطاب فكري إزاء قضايا التّاريخ والراهن *عادةً ما يكون الموقف من الفلسفة نِتاج ما يتم تداوله
يؤكد أستاذ الفلسفة والباحث الأكاديمي الدكتور بشير خليفي، أنّه لا يمكن إنكار الجهود الفلسفية المبذولة بغرض تأثيث المشهد الفلسفي واِغنائه بنشاطات فكريّة ومؤلفات. وأنّه من الضروري فتح الخِطاب الفلسفي وتحيينه بِمَا يتماشى والوقائع المُتجدّدة.
حوار: نوّارة لحـرش
كما يؤكد في مقابل هذا، أنّ التفكير الفلسفي في نسخته النقديّة هو مشروع مجتمعي بالأساس، يُجسَّد من خلال أقنيّة التنشئة الاِجتماعيّة مُمثلة في الأسرة، المدرسة والمجتمع، وليسَ تنظيرًا نخبويًا يتمُ تداوله في صالونات الثّقافة ثم سرعان ما يتبدّد حين اليأس. وفي هذا السّياق، يعتقد أنّ الرهان الأكبر هو قدرة المُتفلسفة على الإقناع بجدوى خطاباتهم. كما يتحدّث الدكتور خليفي، عن دور الفلسفة ومكانتها في الحياة والمجتمع، وعن مدى حضورها في مشهد الواقع والعلوم والأدب والسّياسة والثّقافة، واشتراطاتها وسيّاقاتها وخصوصيّاتها في سياق جزائري/عربي.
للإشارة الدكتور بشير خليفي، واحد من الباحثين الأكاديميين في حقل الدراسات الفلسفية، يشتغل بالفلسفة المعاصرة، وعلى وجه التحديد الفلسفة التّحليليّة والفلسفة الأمريكية المُعاصرة، وفلسفة اللّغة وفلسفة الأدب. بالإضافة إلى اِهتماماته العلميّة العامة والتي تدور حول منهـجيّة البحث وطرائق التدريس، مشاريع النهضة الفكريّة، الفلسفة النسويّة، الفلسفة القاريّة وقضايا النقد الأدبي. إلى جانب هذا يعمل الدكتور خليفي أستاذًا محاضرًا، يشرف على العديد من الهيئات العلميّة. له العديد من الإسهامات البحثيّة والمقالات المنشورة في مَجلات مُحكَمَة، ومؤلفات على غرار: كتابه "الفلسفة وقضايا اللّغة: قراءة في التصوّر التحليلي". وكذا مؤلفات مشتركة، مثل: "العدالة والإنسان". "التسامح: الفعل والمعنى". "حوار الفلسفة والعِلم". "الأمير عبد القادر: عبقرية في الزمان والمكان".
إنّنا بحاجة إلى منظومة مفاهيميّة ونقديّة أثناء تعاملنا مع مشكلات الحياة
تشتغل في حَقل الفلسفة، بحثًا وتدريسًا وتأليفًا وترجمةً. كيف ترى حضورها ونسقها في مشهد الواقع والعلوم والأدب والسّياسة والثقافة. ما دورها في كلّ هذا، وكيفَ هي علاقتها بكلّ هذه المرجعيات أو الروافد؟ وهل من المُمكن مثلاً تجاوز الفلسفة كموقف أو خطاب فكري إزاء قضايا التّاريخ والراهن؟
- بشيـر خليفي: ليس من المُمكن تجاوز الفلسفة كموقف أو خطاب فكري إزاء قضايا التّاريخ والراهن، إنّنا بحاجة إلى منظومة مفاهيميّة ونقديّة أثناء تعاملنا مع مشكلات الحياة، هُنا يجب أن نتوقف قليلاً للتأكيد على ما سمَاه ميشال فوكو الإبستيمي حينما تَحَدَّث عن جملة الظروف المُساندة لنشأة الخطاب المعرفي وترقيته، من منطلق أنّ الحضور الفلسفي يحتاج على الدوام إلى شروط مساندة لعلّ أبسطها الوعي والحرية، مِمَّا يجعل مساره ضمن مساق دالة جيبية صعودًا وهبوطًا في ظل اِزدهار الإنجاز أو تحت طائلة أزمات لعلّ أبرزها أزمة النهايات. في هذا السّياق يمكن القول ضمن فضائنا التداولي أنّ الحالة الفلسفية تعيش اِنتعاشًا دون أن يعني يقظة تامة، وللبرهنة على ذلك تكفي إطلالة بسيطة على إبداعات متفلسفة اليوم وعدد الأطاريح والكُتُب المؤلفة ضمن مساقات الفلسفة المُتعدّدة، زيادةً على النشاطات الحاصلة في مختبرات البحث وأقسام الفلسفة عبر ربوع جامعات الوطن. بيدَ أنّ ذلك لم يمنع من وجود نقائص، ولعلّ أبرز معالمها أنّ الخطابات الفلسفية للإنتلجنسيا الجزائرية لا تكاد تُقرأ ولا يُحتفى بها بقدر الاِحتفاء بأهداف كرة القدم، وهي مسألة مُبكية مُضحكة تُلخص أزمة الثقافة في مجتمعنا، بِمَّا يدفعنا لطرح هذا التساؤل الملحاح: أنّى لنا أن ننتظر اِنجازًا فلسفيًا راشدًا يجد صداه في ظل سياق تستبدُ به ثقافة اِستهلاكية مؤسسة على اِمبريالية نفسية؟ في الواقع لا يمكن إنكار الجهود الفلسفية المبذولة بغرض تأثيث مشهد فلسفي واِغنائه بنشاطات فكريّة ومؤلفات، هذا النمط من الحراك توّجَهُ المهتمون بيوم وطني يتمّ الاِحتفاء به في26 من أبريل كلّ سنة، كما أوجد أيضًا الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية التي تأسّست في25 جوان 2012 بمشروع يتمحور أساسًا على نشر وتجذير الفكر الفلسفي النقدي في الحياة الثّقافيّة الجزائريّة. ويبقى الرهان الأكبر قدرة المُتفلسفة على الإقناع بجدوى خطاباتهم، وذلك بفتح الخطاب الفلسفي وتحينه بما يتماشى والوقائع المتجدّدة، مع الحفاظ على خصوصياته العامة، إذ لا يعقل أن يبقى التفلسف مقترنًا بالاِستدلالات النظرية الحالمة بلغة كارل ياسبرس والتي لا نجد فيها أثرًا للمُمارسة، بِمَّا يفرض إخراج الفلسفة من قُمقمها الإبستمولوجي والأنطولوجي والإكسيولوجي الّذي طالما ثَوت فيه إلى محايثة واقع النّاس، بأن تنخرط في مجالات الحياة، فيحضر الخطاب الفلسفي بمنطق التخاصص والمُعالجة البينية المشتركة بين الذوات ليُبرِز خصوصيّته وفرادته التحليليّة أثناء مُعالجة المعضلات.
الرواية كحالة سرد وبسط للمعرفة قادرة على اِستيعاب عديد الفلسفات ومُختلف صنوف المعرفة
لكّل المعارف فلسفتها الخاصة واشتراطاتها وسيّاقاتها وخصوصيّاتها. ماذا عن المعرفة الفلسفية، أو معارف الفلسفة أو المُرتبطة بها؟
- بشيـر خليفي: إنّ لكلّ معرفة فلسفتها الخاصة، فالمعرفة الأصيلة بالأدب على سبيل المثال تشترطُ دراية فلسفيّة، فالرواية بوصفها عملاً أدبيًا هي نتاجٌ معرفي يُمتَح من التّراث الفكري والحياتي المُجتبى من لدن الكاتب نفسه، كما لا يمكن لأي رواية أن تخلو من موقف فكري، بل إنّ بعض الفلاسفة يرون أنّ الرواية كحالة سرد وبسط للمعرفة قادرة على اِستيعاب عديد الفلسفات ومُختلف صنوف المعرفة، عبر الشخوص المهيكلة للمدونة الروائية، حيثُ أنّ لكلّ شخصيّة فلسفتها وقناعتها التي يقوم الروائي المُحترف عبر واسطة الحجاج وسمت التخييل والتخليق والتعريض والمجاز إلى الإقناع، إقناع القارئ بعفوية شخوصه ومن ثمّة بجدوى كتابته. كما ينسحب الأمر على مختلف صنوف المعرفة، لتكون الدعوة قائمة لتجاوز حالات التثبيط المؤدية للإفلاس الفلسفي لصالح فلسفات جديدة تتجاوز منطق النهايات بإيغالها الوظيفي في تاريخ المعرفة وحاضرها بغية اِستشراف المستقبل، ولن يكون ذلك دون "ميتا فلسفة" أو فلسفة واصفة يكون هدفها الأساس معالجة أعراض المرض والأزمة ومن ثمّة البحث في تجاوز المعرفة المحنطة لصالح صور جديدة للفلسفة والفيلسوف، وذلك بخلخلة الأنماط الجاهزة، هتك الحُجُب والاِستفادة من الأخطاء التّاريخيّة للاِنطلاق في حياةٍ جديدة.
التفكير الفلسفي في نسخته النقديّة هو مشروع مجتمعي بالأساس
هذا يقودنا إلى سؤالٍ آخر عن مكانة الفلسفة في سياق جزائري/عربي؟ وهل يمكن حقًا، الحديث في المجتمعات العربيّة عن فلسفة قائمة بذاتها؟ ولماذا نظرة إنسان هذه المُجتمعات للفلسفة، في أغلبها نظرة مُتعالية، منفّرة وغير مُرحبة؟ لماذا هو غير مُقتـنع بالخطاب الفلسفيّ، بل يُشكِكُ فيه وفي فحواه ومحتواه؟
- بشيـر خليفي: يُتَحَدَّثُ في بعض الفضاءات عن يقظة فلسفيّة أو اِستئنافًا للقول والكتابة الفلسفية، ويَتَحدَّثُ البعضُ الآخر عن ربيع فلسفي عربي مُعاصر حينما يتعلق الأمر بالتفكير والكتابة والنشاطات المعرفيّة. لكن هل يمكن الحديث في المجتمعات العربيّة عن فلسفة قائمة بذاتها بمعناها الينبغياتي الصحيح؟
لابدّ من الاِعتراف في مقامٍ أوّل بأنّ الوضع المزري الّذي يرزح تحته العالم العربي هو نتاج غياب فلسفة رصينة تأخذُ على عاتقها إحداث الوعي المفضي للتطوّر، لا نقصد بالفلسفة ما يتم تدريسه في الثانوية أو الجامعة فحسب، بل الأمر يتعلقُ بمنظومة فكرية مُتكاملة تستدعي شروطًا ذاتيّة وموضوعيّة تَستنِدُ في معظمها على أهميّة العِلم والمعرفة وحريّة البحث، التساؤل والتفكير واِتخاذ المواقف في إطار نقدي قائم على الحجة والاِختلاف والاِحترام المُتبادل.
لا يمكن للفلسفة أو بالأحرى التفكير النقدي القائم على الحرية، الشكّ، الاِستقلالية، المرونة، الاِستدلال أن ينشأ ويترعرع في مناخات التخلف والاِستبداد، يتبدّى التخلف في وضعية العِلم في حين يبرز الاِستبداد في صعوبة أو اِستحالة إبراز الرأي حينما يتعلق الأمر بمخالفة السائد. ولأنّ العقلانيّة والموضوعيّة ليستا نتاج الفطرة بل مُحصلة مسيرة لا تتخللها إلاّ الصعاب، فكيفَ يمكن للواحد أن يَتَمَثّل العقلانيّة أو الموضوعيّة بدون تدريب تتكفلُ به في مقامٍ أوّل مؤسسات التفكير الأولى مُمثلة في الأسرة والمدرسة؟ مع الإقرار بصعوبة ذلك سواء بالنسبة للأسرة في زمن سلعنة القيم وسيطرة الثقافة الاِستهلاكيّة، وبالنسبة للمدرسة حيثُ يُسيطرُ الحفظ على التفكير والتلقين على روح المُبادرة.
عادةً ما يكون الموقف من الفلسفة نتاج ما يتم تداوله دون أن يُعَبِر عن خصوصيّة وفرادة لتفكير شخصي، هو نتاج تراكمات تاريخيّة تُماهي بين الصعوبة، عدم الجدوى والاِستغراق في التنظير على حساب الفعل إضافةً إلى مواقف دينيّة ذات خلفيّات سياسيّة. ثمّ إنّ وضعية الفلسفة في العالم العربي لا تتعلق فحسب بوضعيّة تدريسها أو بِمَا يُنجزه المؤلفون. إنّ الأمر أعمق إذ يتعلق بوضعيّتها ضمن الفضاء العام داخل الأسرة وفي الشارع حين التبضع وأثناء مشاهدة مباريات كرة القدم وحين لقاء الأصدقاء وأثناء التعارف.... ومن ثمّة فإنّ التفكير الفلسفي في نسخته النقديّة هو مشروع مجتمعي بالأساس يُجسَّد من خلال أقنيّة التنشئة الاِجتماعيّة مُمثلة في الأسرة، المدرسة والمجتمع، وليس تنظيرًا نخبويًا يتمُ تداوله في صالونات الثقافة ثم سرعان ما يتبدّد حين اليأس.
لقد أُقرِنت الفلسفة في كثيرٍ من الفضاءات العربيّة بالمروق والجنون وبالثرثرة، وحشر الأنف في خصوصيّات الغير، كما أُقرنت بإضاعة الفُرص حيثُ لا يتوانى بعض المُعلقين الرياضيين بنعت اللاعب المُحتفظ بالكرة والّذي يُؤثر المرواغة عوض التسديد ومن ثمّة تسجيل الهدف بأنّه يتفلسف، ولكم أن تتصوروا كيفَ سيكون مُوقف شاب أو مُراهق تحديدًا تعلقَ قلبهُ بكرة القدم من الفلسفة حينما يَسمع بأنّ التفلسف سبب ضياع الأهداف.
أهمية الترجمة في أشكالها المُتعدّدة تنبعُ أساسًا من التعدّد اللغوي
الأهميّة البالغة التي تمدها الترجمة للفكر في شتّى صنوفه من حيثُ نشره وتبليغه، تدفعنا للتساؤل عن واقع وحال حركة الترجمة ودورها في المجال/أو الإطار البحثي، الفكري، الفلسفي، والمعرفي؟
- بشيـر خليفي: لقد أضحت الترجمة مجالاً واسعًا للبحث من حيثُ ضوابطها ومجالاتها وأشكالها مِمَّا فسح المجال لكثير من الباحثين للخوض في غِمارها من أبواب شتّى. والواقع أنّ أهمية الترجمة في أشكالها المُتعدّدة تنبعُ أساسًا من التعدّد اللغوي الحاصل والرغبة في تواصل ناجع يستفيدُ من خلاله الأفراد من الحاصل في المعطيّات التّداوليّة المُختلفة، هذا زيادةً على الأهمية البالغة التي تمدها التّرجمة للفِكر في شتّى صنوفه من حيثُ نشره وتبليغه.
إنّ الحديث عن الترجمة في الجزائر لا ينفصلُ البتّة عن طبيعة الوعي بمفصليّة الثّقافة لدى الإنسان الجزائري، ومن ثمّة ترتبطُ اِرتباطًا عضويًا بالفهم التّراكميّ للفِعل الثّقافيّ وبالحاجة المعرفيّة للآخر سواء كباحث أو مستقبل، أو حتّى عند القارئ الجزائري نفسه من حيثُ رغبته في قراءة "منجز معرفي" مكتوب بلغة مُختلفة عن إطار التكوين والاِشتغال.
إلاّ أنّ غياب التنسيق وعدم وجود إستراتيجيّة واضحة المعالم للاِعتناء بالترجمة والمُترجم يجعلُ من فِعل الترجمة في إطارها البحثي والمعرفي على وجهِ الخصوص عملاً بالغ العسر والصعوبة. ليستحيل الأمر إلى نشاط فردي ينبري له بعض الباحثين بجرأة وتحدٍ كتعبير عن نشاط معرفي يستجلبون من خلاله مناويل وأنسجة في التحليل والحكي من سياق لغوي إلى نظير له، مثلما يتضح على سبيل المثال لا الحصر عبر جهود أبو العيد دودو، محمّد ساري، سعيد بوطاجين، عبد الحميد بورايو، جيلالي خلاص وبوداود عميّر في مجال الأدب، إضافةً إلى محمّد جديدي، عمر مهيبل، كمال بومنير، الحسين الزاوي ونادية بونفقة في إطار الفكر والفلسفة.
ن.ل