
رَحَلَ أوّل أمس (5 أكتوبر) المُناضل والسّياسي والطبيب والدبلوماسي ورجل الفكر والأدب والثقافة، ونجل الشيخ محمّد البشير الإبراهيمي، الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي. أحد أعلام الجزائر ورجالاتها البارزين، الذي خَدم الوطن في مجالات الفِكر والسّياسة والثّقافة. الإبراهيمي من مواليد سطيف العام 1932، تلقى تعليمه في منطقة تلمسان، حيثُ كانت جمعية العلماء المسلمين اِفتتحت دار الحديث، قبل أن ينتقل إلى العاصمة التي اِستكمل فيها دراسته وحصل على شهادة البكالوريا، توجه بعدها إلى كلية الطب، وقد كانت الكلية الوحيدة بالجزائر في تلك الفترة الاِستعمارية، قبل أن يُغادر إلى باريس لاِستكمال دراسة الطب حيثُ سيكون له دورٌ بارز في العمل الطلابي. وبسبب نشاطه لصالح الثورة الجزائرية قامت السلطات الفرنسية باِعتقاله وإيداعه السجن في فيفري 1957، حيثُ قضى فترة اِعتقاله في السجن نفسه الّذي نُقل إليه الزعماء الخمسة (محمّد بوضياف، أحمد بن بلة، حسين آيت أحمد، محمّد خيضر، مصطفى الأشرف)، الذين اِختطفتهم فرنسا بعد قرصنة الطائرة التي كانوا يستقلونها من المغرب باِتجاه تونس، وأتاح له ذلك الاِحتكاك بقادة الثورة البارزين. "كُراس الثقافة"، في عدده لهذا الأسبوع يستحضر فقيد الجزائر، مع مجموعة من الدكاترة الأكاديميين والمُؤرخين والمُترجمين، الذين أضاؤوا أكثر على سيرته ومسيرته، وأدلوا في ذات الوقت بشهاداتهم وآراءهم في الراحل، وهي شهادات تجمع على مكانة وكفاءة وقيمة وأهمية هذه الشخصية الوطنية التّاريخيّة والعلمية والثقافية.
نوّارة لحرش

أحرج كامي وصادق آسيا جبّار وموّن مالك حداد بالكُتب
الإبراهيمـــــي..مثقّـــف في دهــاليــز السيّاســـــــة
طغى الوجه السيّاسي لأحمد طالب الإبراهيمي على المثقّف المُطمئن خلف مظهر الوزير الأنيق والمُناضل الذي خاض معارك مختلفة عبر تاريخ الجزائر الحديث، بدايةً من نضاله في صفوف الطلبة وصولًا إلى نشاطه من أجل تكريس الديمقراطيّة.
سليم بوفنداسة
وفي جميع المراحل، كان المثقّف الكامن يمدّ رجلَ الواجهة بالمؤونة الضروريّة والأدوات. وكشفت كتبُ ومذكراتُ طالب أنّه كان حامل قلمٍ بالأساس، يسكنه هاجس التّدوين الذي أتاح له، فيما بعد، تقديم بانوراما عن تاريخ الجزائر الحديث، كشاهد ألزم نفسَه بواجب سرد ما رأى بأمانة "قدر الإمكان"، مع تجنّب ما يُؤذي الرفاق، حين يتعلّق الأمر بسلوكاتٍ مجالها علم النّفس وليس الشهادة التاريخيّة، كما برّر ذلك.
وفي مسيرته الطويلة صادق وتقاطع مع مثقّفين وكتّاب، وساهم في وضع السيّاسات الثقافيّة، انطلاقًا من إقامة البنى التحتيّة ومرورا بوضع البرامج وإطلاق المشاريع في مجالات النشر والسينما والمسرح والفنون التشكيليّة. وما حزّ في نفسه، أن اسمه ظل مرتبطًا بسياسة التّعريب (في معرض انتقادها)، على حساب مختلف الإنجازات التي قام بها أو ساهم فيها.
ولم يتوقّف هذا الاختزال على الجزائريين، ومما يرويه في هذا الشأن أنّ الكاتب الصحافي جون دانيال استغرب، بعد لقاء جمعهما، كيف أن مثقّفًا متمكنًا من الفرنسيّة أصبح مدافعًا عن التّعريب.
خلال دراسته في باريس، وانتسابه إلى منظمة الطلبة المسلمين الجزائريين، أظهر طالبُ الطب وجه المثقّف الذي يُساهم في الصّحف، ويجالس ويناقش فلاسفة من طراز جون بول سارتر، ويحرج ألبير كامي الذي ظلّ يتغنّى بجزائريّة يعوزها الموقف، ويكشف في الجزء الأول من مذكراته أنّه راسله طالبًا منه إبداء موقفٍ من المُمارسات الاستعماريّة، بعد صدور كتاب " “la questionلهنري علاق الذي هرّب محاميه قصاصاته من السّجن، والذي فضح بشاعة التّعذيب الذي يُمارس في الجزائر. ودفع صمتُ كامي أحمد طالب إلى توقيع رسالة مفتوحة مُزلزلة إلى كاتب "الغريب"، نبّهه فيها إلى جبنه، وخيبة أمل طلبة جزائريين تعلّقوا بكتاباته، وتضع الرسالة المنشورة في مُلحق الجزء الأول من "مذكرات جزائري" صورةً دقيقةً عن مواقفِ الكاتب الذي "اختار أمه" من الجزائر، التي تظهر التّعاطف لكنها ترفض القطع مع النّظام الاستعماريّ.
يذكر أحمد طالب في الجزء الثاني من المذكرات، أنّه لم يكن يعرف خلال توليه حقيبة الثّقافة والإعلام (1970 - 1977) من إطارات الوزارة سوى مالك حداد الذي وصفه بصاحب الموهبة المتأصّلة و شديد التّواضع، وكشف أنّه أبدى له رغبةً عارمةً في مُعاودة الارتباط بجذوره، ولم يكن يمرّ أسبوع من دون أن يطلب منه كتابًا عن الحضارة الإسلاميّة عامة ، وترجمات الجاحظ إلى الفرنسيّة، ويسأله عن الرواية العربية، الأمر الذي كان يجعل الوزير يعود إلى مراجعه للإجابة على أسئلة الكاتب، ومعلوم أنّ مالك حداد أطلق وقتها، مجلة آمال بسلسلة كتبها التي قدمت جيلا جديدا من الكتّاب.
كما، يكشف عن إجراء "نقاشات متحمّسة" مع كاتب ياسين حول ضرورة الرّبط بين المسرح الوطني والمسرح الشعبي، وكشف له أنّه بصدد إعداد مسرحيّة عن حصار تلمسان خلال القرن الرابع عشر والدور الذي اضطلعت به النّساء على وجه الخصوص في تلك الفترة.
ويقدّم الإبراهيمي انطباعاتٍ لافتة، عن بعض المثقّفين الذين استقبلهم، تكشف عن قدرة على التقاط جوهر الشخصيّات و تنحو نحو الطرافة أحيانًا، مثل قوله عن صالح خرفي إنّ الأدب والثّقافة كانا يتوقفان عنده على الشعر، ووصفه لحنفي بن عيسى بالأستاذ الجاد والمثابر والمُترجم الجيّد من الفرنسيّة إلى العربيّة، وتوقّفه عند رفض عبد الله شريط للمناصب التي عُرضت عليه ليتفرّغ لإعداد أطروحته عن ابن خلدون، في حين كان أبو العيد دودو يُذكّره برضا حوحو في دقّة ملاحظاته، وتلميحاته النقديّة السّاخرة ومعرفته بالأدب الغربي، أما عبد الحميد بن هدوقة فكان يشترك معه في عشق طبعات القرن التّاسع عشر الأوروبيّة لكبريات نصوص الثّقافة العربية، في حين لفت انتباهه ارتباط بوعمران الشيخ بالثّقافة الشعبيّة وهو الذي يعد أطروحة في الفلسفة عن المُعتزلة.
كما يتذكّر استقباله لكتّاب عرب كيوسف إدريس الحالم بنوبل ومحمود درويش الذي تأثّر بحديثه عن غسان كنفاني وكمال ناصر اللذين اغتالتهما إسرائيل.ومحمد حسنين هيكل الذي اعترف له بالمساعدة الثمينة التي قدمها بومدين خلال حرب أكتوبر 1973 لبلدان المواجهة، فضلا عن لقائه بالشاعر أحمد فؤاد نجم وشريكه الشّيخ إمام، اللذين عرفه بومدين على منجزهما الغنائي.
كما التقى بمثقفين غربيين وبينت مذكراته إطلاعه الواسع على الفلسفة والرواية الغربيّة والموسيقى ..
ولم ينقطع عن مُجالسة المثقّفين خلال تولي وزارة الخارجية، حيث شبّه المُحادثات معهم "بجزر الهناء في محيط يعج بالسيّاسيين وأدعيّاء السيّاسة".
حيث يتحدّث عن أبي القاسم سعد الله، ويعترف أنه لم يُقابل جزائريًا في مُستوى فهمه للنّصوص التراثيّة التي تتعلّق بتاريخ بلاده، وشبّهه "بالسندباد الذي يجوب العالم بحثًا عن وثائق كي يحل لغز تاريخ القرون المظلمة".
كما حّدثه بن هدوقة عن طفولته الصّعبة و عن رواية "ريح الجنوب" التي اشتهرت بفضل السينما.. وخلال استقباله كان يقارنه بالطاهر وطار كي يرسم بورتريه لرائدي الرواية، فإذا كان الطاهر وطار بفورانه وصراحته يلامس أحيانا الاستفزاز،كما يراه طالب (وهوكذلك) فإن بن هدوقة يُعبّر بلطف وتواضع يقارب الامحاء، الأول يُنمي المفارقة الثاني يُفضّل الجدل.كما يكشف أحمد طالب عن علاقة صداقة ربطته بآسيا جبار التي رآها لأول مرة في سجن "لسانتي" سنة 1959 حين ذهبت لزيارة أخيها سمير، الذي كان رفيقًا للابراهيمي في السّجن، ويعترف أنّ سُمعتها لم تكن في ذلك الوقت جيّدة لدى مناضلي جبهة التحرير"لأنّ روايتها الأولى "العطش" تُحيل إلى فرانسواز ساغان أكثر مما تحيل إلى جميلة بوحيرد".
لتتحسّن الأمور بعد الاستقلال وتتطوّر علاقته بها من المراسلة إلى اللقاءات في باريس وبالضبط في مقهى "دو فلور"، خاصة بعد العشرية السوداء:
"قالت لي ذات يوم" إذا كان عليك أن تختزل مؤلفاتي، فماذا تقول عنها؟" أجبت:"إنها بحث عن الهوية عبر اكتساب وعي عبر مراحل متتالية: الجسد والعلاقة الزوجية والهوية الجزائرية والبعد الإسلامي والأمازيغي...".
ويروي كيف قاما، بطلبٍ منها، بلعبة الكتابة على شواهد القبور: "حينما جاء دوري، وبما أنّ كلينا يهوى اللّعب بالكلمات والسّجع، قدّمت اقتراحي: "هنا ضريح آسيا جبّار، الكاتبة والسينمائيّة الجزائريّة والأكاديميّة في باريس، حادّة القلم و شحدة الكلمات وصارخة الأنوثة وأنثويّة، ومن أنصار حُريّة المرأة وسنوريّة وفاتنة. تمقتُ القوالب الجاهزة والتقريبات والببّغاويّة، ولكنّها تعشق الأصالة والإحاطة الشموليّة والنّعومة في التّعبير". صاحت: "رائع". قبل أن تسلّم لي ما كتبته عني مثلما صاغته (مذكرات جزائري الجزء 4 ص398 و399) .
وحين توفيت الكاتبة سنة في2015 يعترف أنّه وجد صعوبة في كتابة كلمة في مستوى تبادلاتهما في المقهى.
ومن الشهادات الهامة الواردة في المذكرات ما أورده، عن المفكّر محمد أركون، حيث يذكر أنّه درس في نفس الفترة التي درس فيها بجامعة الجزائر، و كان من الطلبة القلائل الذين لم يكونوا منضوين تحت لواء "جمعيّة الطلبة المسلمين لشمال افريقيا" التي تعبّر عن اختلاف مع الطلبة الأوروبيين، وتشكّل موقعًا للمقاومة الثقافية التي تحوّلت إلى مقاومة سياسية.. لكنّه اكتشف تطوّره، الذي قابله بفرح، خلال اعتقاله بفرنسا حين قرأ دراسته عن "مسكويه". وحين حدثه في الأمر، بعد الاستقلال، كشف له، بأنّه لم ينشأ في جو عربي إسلامي خلال طفولته، وأنه اكتشف في باريس "روائع وإشعاع الثقافة العربية وكنوز الفكر الإسلامي".. ومن ثمّة استثمر العلوم الإنسانية لإعداد تفكير نقدي للفكر الإسلامي من الداخل.
ويكشف أحمد طالب (الجزء الرابع من المذكرات) أنه تلقى رسالة من أركون سنة1991 يبدي فيها رغبته في لقائه في سفره المقبل إلى باريس ليتمّ ذلك في الفاتح جوان، وحدّثه وقتها عن مشروعٍ أثيرٍ، بالنّسبة له، يتمثّل في تأسيس "مركز وطني للدراسات الإسلاميّة بفرنسا، يكون فضاء تعبيريا علميا عن الإسلام، وعن قيامه باتصالات في هذا المسعى نالت موافقة الرئيس ميتيران، غير أنّ قوة خفيّة تريد إفشال مشروعه، ويشك أنّ الأمر يتعلّق بمجموعة يهودية في ستراسبورغ... وكشف أنه سعي لدى رولان ديما من أجل تحقيق مشروع أركون و وعده بالعمل في اتجاه تحقيق ذلك(الأمر الذي فسّرته صحيفة جزائرية وقتها باتصال المعارضة بالخارج وحرص المعني على التكذيب)، ويروي كيف أخبره أركون حين أبلغه بالمسعى بمعاناته من عدوانيّة مزدوجة: عدوانية الفقهاء عبر العالم الإسلامي، حين يقارن نفسه بابن رشد الذي أحرقت كتبه، وعدوانيّة الدّوائر الباريسيّة "التي تفضّل البُلغاء عن المُفكّرين". وسرد كيف تم تفضيل جمال الدين بن الشيخ على علي مرّاد لشغل كرسي شاغر بجامعة باريس4 وهي نفس الدوائر التي تُكيل المديح لجيل كيبيل.
كما يروي بحسرة كيف غاب "الجزائريون" عن تأبينيّة أركون بمعهد العالم العربي بباريس سنة 2010، التي حرص على حضورها، وكيف تداول على المنصّة خُطباء للاعتراف بمكانة المفكر في غيّاب تمثيلٍ جزائريّ.
ومثلما تقدّم مذكرات أحمد طالب الإبراهيمي، شهادة على تاريخنا الحديث تفيد الباحثين وترسم ملمح عصرٍ، فإنّها تصحّح بعض الكليشيهات التي ألصقت بالرّجل بسبب مواقفه السيّاسية، و تترك طعم المرارة لخروجه المبكّر من مسرحٍ كان سيجيد فيه.
هامش: مذكرات جزائري
(أربعة أجزاء)- دار القصبة للنشر

وداعًـــا لجنتلمـــــان السّياســـــة والثقافـــــــة
هل من عجب أنّني كُلّما فكرتُ في شخصية الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي تتسابقُ إلى ذهني أحمالٌ من الكُتُب ويتجلى في مخيالي جلال المكتبات؟ أبدًا لا عجب، فقد اِرتبطت صورته بالثقافة أكثر منها بالسّياسة أو الدبلوماسية أو التربية، على الرغم من توليه حقائب وزارية في الإعلام والخارجية والتربية، وكان مُستشارًا لدى رئيس الجمهورية.
ربيعة جلطي
لعل صورته المُميزة تلك، المُرتبطة بالمعرفة، بالكتاب والمكتبة والثقافة هي التي جعلته يفتكُّ بها نوعًا من الاِحترام الأخلاقي عند العامة، وأبعدت عنه سِهام الخصوم المُباشرة من السّياسيين ولم يُزعزع مقامه ذاك تشكيله لحزب سياسي وترشّحه للرئاسة.
الحقّ يُقال فإنّ الصورة الثّقافيّة الكُتبيّة تلك التي طَبَعَت شخصية أحمد طالب الإبراهيمي لم تأتِ بها صدفة خير من ألف ميعاد، بل لعلها جيناته التي لا ريب فيها ورثها من والده الشيخ البشير الإبراهيمي آخر رؤساء جمعية العُلماء المسلمين التّاريخيّة، وقد اِستطاع الاِبن البارّ أن يقطف ثمرات تُراث والده وطيب سُمعته القارة في ذهنية العامة والخاصّة، إلاّ أنّه وبكلّ أمانة لم يستثمر في تاريخ جمعيته بحيث أنّه حين عَزَم أن يركب أمواج السّياسة، أنشأ حركة سياسية جديدة ، ولم يدّعِ يومًا بأنّه وريث جمعية العُلماء المسلمين.
أتصوّر أنّ اِرتباط صورة الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي بالكِتاب والمكتبة والثّقافة من جهة، وبجمعية العُلماء المسلمين من جهة أخرى، كانت حصنًا له، إلى حدٍ ما، من الخطاب السّياسيّ الّذي غالبًا ما يبدو مُكتظًا باللّغة السوقية.
كم كان حضاريًا في أحاديثه وخطاباته السّياسيّة والثقافية، فلم نقرأ له ولم نسمع منه يومًا تصريحًا فيه قذف ضد خصومه السّياسيين، وهم كُثر، وظلَ راقيًا في لغته ورد فعله، على الرغم مِمَّا عاناه من تهميش منذ التسعينات، وحتى حزبه الّذي شَكَلَهُ، لم يحصل على الاِعتماد.
ظلَ أحمد طالب الإبراهيمي من أكثر الشخصيات السّياسيّة ورجال الدولة في الجزائر المُستقلة الذين حافظوا على هامش الاِستقلال في الرأي، فهو الّذي اِختلفَ مع الشاعر جان سيناك اليساري بينما كانت البلاد تمر في عصر الاِشتراكية، واختلف مع المفكر الإسلامي مالك بن نبي وهو اِبن رئيس جمعية العُلماء المسلمين.
كان أحمد طالب الإبراهيمي من المُدافعين الشرسين عن التعريب حين كان وزيرًا للتربية الوطنية ومع ذلك ظلَ يكتب بالفرنسية، فحتى مذكراته بأجزائها الأربعة وضعها باللّغة الفرنسية.
يجب التذكير بأنّ الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي قارئ للأدب شِعرًا ورواية، ولقد أصبحت محاضرته التي قدمها في بيروت منتصف السبعينات عن ألبير كامو مرجعًا أساسيًا كلما جاء الحديث عن علاقة كامو بالجزائر، وانحيازه لفرنسا بوضوح وعدم وقوفه مع الثورة الجزائرية، فكثير مِمَّا قِيلَ في خيانة كامو للثورة الجزائرية مصدره محاضرة الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، لكن الجميل في مواقف الإبراهيمي أنّه لم ينفِ عن ألبير كامو أدبيته ولم يخفِ إعجابه بأسلوبه وببناء عالمه الروائي على الرغم من معارضته له سياسيًا.
كانت شخصية أحمد طالب الإبراهيمي في اِنسجام بين الشرق والغرب، مُتوازنة الثقافة والمشاعر، فزوجته من أصول لبنانية ومن عائلة عِلم، عائلة الحوري، منحته كثيرًا من ثقافة الشرق. ثم إنّه مُطّلع ومُتضلع في الثقافة الأوروبية والفرنسية بشكلٍ خاص بحكم دراسته في فرنسا وتخرجه من جامعاتها، وكاتب بلغتها. من شمائل شخصية الدكتور طالب الإبراهيمي أنّها جمعت بين رهافة الشرق وعقلنة الغرب.
كانَ للإبراهيمي وهو المُثقف الإسلامي الليبرالي موقف مُتقدم من المرأة، إنّه من دُعاة تعليمها وتحريرها وهذا من بقايا فكر جمعية المسلمين الجزائريين التاريخية التي عَمَلت على تعليم البنات وركزت على عقلها لا على لِباسها.
لقد كان الإبراهيمي شخصية جامعة، محورية، إذ تَحَوّل بيته في السنوات الأخيرة إلى فضاء للندوات والحلقات المفتوحة لزوّاره من جميع الأطياف السّياسيّة ومن الأجيال المُختلفة، من السياسيين الذين اِختلفوا معه إلى الصحفيين إلى الكُتّاب. كلّ من زاره يُعرب عن حِكمة الرجل وتنزهه عن كلّ ضغينة ضد الذين همشوه وحاربوه سياسيًا.

اكتشفـــت فيـــه صفـــات التّواضـــع والرزانـــة واحتــرام الخصـــوم
كنتُ أعرف المرحوم الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي بالشهرة كما جميع الجزائريين المُتابعين للشأن السّياسيّ والثّقافيّ العام. أوّلاً كإطار دولة ثمّ كاتبًا وأخيرًا كرجل سياسي. وكنتُ قد قرأتُ كتابه "رسائل من السجن" باللّغة الفرنسية، لا أعرف كيفَ تحصَلتُ عليه وأنا لا أزال في الثانوي، وبعد ذلك رسالته إلى ألبير كامو يُعاتبهُ فيها على موقفه المُتذبذب من الثورة التحريرية. وبعد ذلك جاءت مُذكراته، في جزئها الأوّل، فقرأتها لأتعرف أكثر على نضال الرجل ومواقفه أثناء ثورة التحرير. وبعد ذلك تتالى الجزءان الثاني والثالث ليروي فترة الاِستقلال. وبعد النكسة التي تعرّض لها في ترشحه للرئاسيات، غاب عن الأنظار إلاّ أنّنا شاهدنا الحلقات التي سجلتها معه قناة الجزيرة حيثُ تحدّث عن سيرته وعلاقاته مع أصدقائه وخصومه بروح المسؤولية الأخلاقية التي لا تليق إلاّ بمثقف رصين لا يُلقي الكلام على عواهنه.
محمد ساري
وتشاء الظروف أن أتولى ترجمة الجزء الرابع من مذكراته من الفرنسية إلى العربية. وفي تلك الشهور التي دامت فيها عملية الترجمة، من شهر جانفي إلى جوان من سنة 2022، عرفتُ الرجل عن قُرب. كان يستقبلني في بيته بكلّ تواضع واكتشفتُ أنّه يحسنُ السمع ويتحدّث برزانة ولا نعثر في كلامه على نرجسية زائدة أو التعالي والتركيز على الأنا المُتضخمة مثلما يفعل غيره من المسؤولين عمومًا. وتعمّقت معرفتي به في الأسبوعين الأخيرين حيثُ خصّصت للمُراجعة الدقيقة والكاملة للنص المُترجم. فكنا نلتقي يوميًا في بيته من التاسعة صباحًا إلى غاية الرابعة زوالاً، لقراءة النص حرفًا حرفًا وجملةً جملة للنظر في الكلمات الحساسة والمُصطلحات ونُدقّق الجانب اللغوي والتركيبي. اِكتشفتُ أنّه يحسنُ اللّغة العربيّة جيدًا ولكنه يجد سهولة في الكتابة باللّغة الفرنسية التي اِستخدمها طويلاً. كانت المُذكرات تتحدثُ عن فترة حرجة من تاريخ الجزائر الحديث (1988_2019) وكان المرحوم حريصًا على اِختيار الكلمات المُناسبة التي لا تقبل الاِلتباس والتأويل أو المساس بالأشخاص حتّى وإن اِختلفَ معهم أو أساءوا إليه. قال لي مرارًا أنّه لا يريد أن يفهَم القُرّاء من مذكراته أنّه جاء ليصفّي حساباته مع خصومه (الرئيس أحمد بن بلة الّذي سجنه والرئيس بوتفليقة الّذي حال دون ترشحه لرئاسيات 2004) وبالأخص منهم الأموات. قال عن بن بلة أنّ ما آلمه كان حينما سَجَنَ والده وهو في سنّ مُتقدّمة مع كلّ الماضي المُشرف سواء مع جمعية العُلماء أو مع الثورة في الخارج، وبمصر خاصةً. اِكتشفتُ حينها الأخلاق العالية التي يَتَمَيزُ بها المرحوم من الإخلاص والنزاهة والطيبة والثّقافة العالية. كان مُنضبطًا في حياته اليوميّة، فمثلاً كان دومًا حريصًا على تسجيل الأحداث الهامة التي يمرّ بها وتواريخ لقاءاته المُتعدّدة وذلك منذُ الستينات من القرن الماضي في دفاتر مُكدسة ومرتبة في مكتبته الضخمة. وهو الّذي خَصَ سنوات من حياته بعد التقاعد لجمع كتابات والده الشيخ البشير الإبراهيمي مُنقبًا في الجرائد والمجلات في الجزائر والبلاد العربية ليجمعها وينشرها في مجلدات فخمة في بيروت لتكون في متناول القارئ العربي.
وحتى في أحاديثنا الجانبية كان ينتقي الكلمات ويتجنب المساس بأعراض المسؤولين والحط من قيمتهم كما يفعل الكثير بعد غيابهم. أحتفظُ بتلك الأيّام بذكرى رجل مهيب في ثقافته وسلوكه وسمعته الطيبة والّذي لم يسجل إلاّ ما اِحتك به رؤيةً أو سماعًا من مصادر وَثِقَ بها. سألته مرارًا أثناء أحاديثنا الجانبية عن أحداث سياسيّة كثيرة مبهمة أو اِختلف الرُواة حولها تخصُ فترة الرئيسين هواري بومدين والشاذلي بن جديد وكذا فترة العشرية السوداء التي لم يسجلها في مذكراته بالجزء الرابع، فكانت إجاباته أيضًا حذرة غير جازمة لأنّه لم يكن يملك المعلومات الموثوقة، وليست لديه المصادر المكتوبة أو الشفهية التي تسمح له بتشكيل رأي أو موقف يقتنع به. كان المرحوم بحق مُثقفًا وإطارًا وسياسيًّا من الطراز العالي الّذي ينبغي للأجيال أن تحتذي بسلوكه وأن تتعلم من مذكراته التي دَوَّنَ فيها سيرته وتاريخ الجزائر الحديث من بداية الخمسينيات من القرن الماضي إلى نهاية العشرينيات من القرن الحالي.

طبيــبُ الأبـدان كان طبيـب أفكــــار أيضًـــــا
ليسَ من الصُدف أن ينتقل الفقيد أحمد طالب الإبراهيمي إلى الرفيق الأعلى يوم الخامس من أكتوبر الحالي، بل يحمل ذلك رمزيّة كبيرة رتبتها الأقدار بشكلٍ مُحكم، لِمَا يُمثله هذا اليوم من قيمة في حياة المُجتمع الجزائري والإنساني، فهو اليوم العالمي للمُعلم، كما يُذكرنا هذا التاريخ بأحداث 5 أكتوبر من سنة 1988، والتحوّلات السّياسيّة التي عرفتها الجزائر مُجتمعًا ودولة منذ ذلك الحين إلى اليوم.
مصطفى كيحل
فالطبيب والسّياسيّ والمُفكر والمُجاهد والوزير والكاتب أحمد طالب الإبراهيمي، يُعدُ بلا مُواربة أحد الوجوه الوطنيّة الكُبرى للجزائر المُستقلة، حيثُ قَدَمَ للجزائر خدمات جليلة، بسبب المسؤوليات الكُبرى التي توّلاها في الدولة الجزائرية المُستقلة خاصّةً في مجالات التربية والإعلام والثقافة والدّبلوماسيّة. وقد أبان عن كَفاءة وقدرة كبيرتين في كلّ مساره السّياسي.
إنّ عبقرية الأمة الجزائرية وذاكرتها ستبقى تحتفظ بصورة رائعة عن فقيدها أحمد طالب الإبراهيمي، وهي التي كانت تستدعيه في المُنعطفات الكُبرى والخطيرة التي عرفتها الجزائر، حيثُ يتذكر الجميع كيفَ رُفِعَتْ صُوره في الحراك الشعبي الجزائري في 2019، وطالبت الجماهير بتدخله لاِنقاد البلد من الأخطار والأهوال التي كان يعيشها بسبب القِوى غير الدستورية التي عَبَثت بالبلد لعِدَة سنوات، وهو الأمر الّذي حَذَرَ منه الفقيد أكثر من مرّة، ففي الوقت الّذي تصاعدت فيه أصوات لدعم تعديل الدستور وفتح العُهدات باِسم الاِستمرارية سنة 2008 رَفَضَ أحمد طالب الإبراهيمي ذلك التعديل وحَذَرَ من عواقبه الخطيرة على مُستقبل الدولة والمجتمع، وفي سنة 2014 عَارَضَ ترشح بوتفليقة لعهدة رابعة، لقد كان ينحاز دومًا لمصلحة الأمة ودولة المُؤسسات وسيادة القانون.
وفي العشرية الحمراء ظلَ يُناضل مع ثلة من الوطنيين الجزائريين من أجل حقن الدماء ووقف الحرب الأهلية وإيجاد أرضية للحوار بين الجيش والسلطة من جهة والإسلاميين من جهة أخرى، والبيانات التي أصدرها والحوارات التي أدلى بها للصُحف الوطنية والدولية ومواقفه في حزب جبهة التحرير الوطني، وهي المواقف التي ضمنها كتابه "المُعضلة الجزائرية: الأزمة والحل 1989-1999" شاهدة على عبقريته السّياسيّة الفذّة، وعلى فِكره المُنفتح البعيد عن التعصب للرأي والاِنغلاق، ولاِنحيازه لمصلحة الشعب والوطن، ومُعاداته للأيديولوجيات القاتلة والجماعات العرقية والفئوية السلطوية التي كان يتماهى الوطن للأسف مع مصالحها الضيقة.
ووطنية الرجل تجد منابعها الأولى في تنشئته العائلية، فهو نجل الشيخ البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العُلماء المُسلمين الجزائريين بعد وفاة عبد الحميد بن باديس، أي أنّه وريث المدرسة الإصلاحيّة الوطنيّة، ولذلك نجدهُ تَحَمَلَ مسؤولية النضال الوطني منذ سنوات شبابه الأولى، حيثُ تَرَأَسَ جمعية الطلبة المُسلمين الجزائريين، وانضم مُبكرًا إلى فدرالية جبهة التحرير الوطني في فرنسا، وعندما سُجِنَ في فرنسا تَعَرَفَ مُباشرةً على أباء الثورة الجزائرية أمثال حسين آيت أحمد وأحمد بن بلة ومحمّد بوضياف ومحمّد خيضر ومصطفى الأشرف، وكانت له معهم نقاشاتٌ سياسيّة واسعة.
ولَمْ يُغَطِ الوجه السّياسيّ والنضاليّ الحركي لأحمد طالب الإبراهيمي على الوجه الآخر له، الّذي لا يقل نصاعةً وإبداعًا وهو الوجه الثّقافيّ والفكريّ، فَنجدهُ في بداية الخمسينات اِهتدى لتأسيس مجلة "الشاب المُسلم" باللّغة الفرنسية ليرد على الإيديولوجية الكولونيالية التي تهدفُ إلى خلق التابع، كما أَغْنَى المكتبة الوطنية بمذكراته التي جاءت في أربعة أجزاء وهي: "الجزء الأول: مذكرات أحمد طالب الإبراهيمي: أحلام ومِحن (1932-1965)". "الجزء الثاني: مذكرات أحمد طالب الإبراهيمي: هاجس البناء (1965-1978)". "الجزء الثالث: مشروع لم يكتمل (1979-1988)". و"الجزء الرابع: مذكرات أحمد طالب الإبراهيمي (1988-2019)". وهكذا بدأ مُذكراته بالأحلام والمحن وأنهاها بالمخاوف والأمل، أي الأمل في جزائر العدالة والديمقراطية والُمساواة والكرامة والتقدم، والمخاوف (بالجمع) من كلّ مُفردات البؤس كالاِستبداد والفساد والتخلف والجهل والرداءة وكلّ ما يقود إلى التدمير الذاتي للمجتمع والدولة. ومن أهم كُتبه أيضًا كِتاب "من تصفية الاِستعمار إلى الثورة الثّقافيّة" إيمانًا منه بأنّ الاِستقلال السّياسيّ لا يكتمل إلاّ بالاِستقلال الثّقافيّ والفكريّ، فهو وحده من يبعثُ من جديد ذاتية الجزائرية الحرة والأصيلة التي عَمَلَ الاِستعمار على إزالتها، ومُحاولة تصميم الفرد الجزائري وفَرض ذاتية عليه غير ذاتيّته الأصليّة. إذن يرحل طبيب الأبدان وطبيب الأفكار وطبيب الأوطان الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي بعد عقودٍ طويلة من النضالات الفكريّة والسّياسيّة والحضارية بعد أن أدى واجبه على أكمل وجه.

مثقّــف وازن تـــرك بصمــات واضحــة في تاريـخ الجزائـر المُعاصـــر
أحمد طالب الإبراهيمي من أبرز المُناضلين العظام الذين لعبوا دورًا بارزًا أثناء الثورة التّحريريّة المُباركة وأهم الشخصيات المُثقفة الوازنة الفاعلة التي تَركت بصمات واضحة في تاريخ الجزائر المُعاصر، مسارٌ طويل من النضال من أجل الحرية واسترجاع السّيادة الوطنيّة، ومسارٌ آخر من النضال لا يقل أهميّةً عن سابقه في كنف الجزائر المُستقلة.
السعيد عياشي
مجازر الثامن ماي1945 كانت بداية تبلور الفِكر السّياسيّ عند أحمد طالب الّذي لم يتجاوز سنه آنذاك 13 سنة، المذابح التي راح ضحيّتها آلاف الجزائريين واِعتقال والده الشيخ البشير الإبراهيمي يوم 27 ماي 1945، جعلتهُ يُدرك حقيقة القمع الاِستعماري بكلّ حِدّته وبشاعته، وأدرك أنّ كلمات مثل الوطن والاِستقلال لم تعد مجرّد كلمات وإنّما أصبحت تُثيرُ في نفسه الكثير من الاِنفعال والتأثر.
بدايةً من سنة 1946، بعد إطلاق سراح والده شهر جوان من نفس السنة، وكان وقتها طالبًا بالثانوية بَدَأَ اِحتكاكه برجالات الحركة الوطنية من قادة حركة اِنتصار الحريات الديمقراطية والإتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري والحزب الشيوعي الجزائري وتعرف على حسين لحول وأحمد بوده وحسين عسلة وفرحات عباس وعمار أوزڤان ومحمّد أمين دباغين وغيرهم من الشخصيات الذين كان يلتقي بهم والده الشيخ البشير الإبراهيمي في مقر جمعية العُلماء المُسلمين الجزائريين.
اِنخرط أحمد طالب بعد دخوله جامعة الجزائر سنة 1949 في جمعية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا وشارك في العديد من النشاطات والتظاهرات التي كانت تُنظمها الجمعية خاصّةً في المناسبات الدّينيّة على غرار المولد النبوي الشريف، وسنحت له فرصة تواجده بالجامعة التعرّف على مُختلف التيارات السّياسيّة والفكريّة عن قُرب، وكان دائم الحضور للنقاشات والمُناظرات التي كان أغلبها يدورُ حول قضية الأمة الجزائرية، وكان وراء فكرة إنشاء جريدة باللّغة الفرنسيّة ( Le jeune musulman)وصدر العدد الأوّل منها شهر جوان 1952 بعد إقناع مكتب جمعية العُلماء المُسلمين الّذي كان يُدِيرهُ كلٌ من الشيخ العربي التبسي ومحمّد خير الدين وأحمد توفيق المدني. كما اِستطاع أن يُقنع العديد من المُثقفين الجزائريين أن يكونوا من أقلامها مثل عمار أوزڤان الّذي كان يتناول في مقالاته مُناورات السّياسة الاِستعماريّة، ومالك بن نبي والهاشمي التيجاني ومحمّد الشريف ساحلي ومصطفى الأشرف، بينما كان أحمد طالب يُشرف على تحرير الاِفتِتَاحيّات وموضوعات ربط الصلة مع العالم الإسلامي وجمع شهادات الكُتّاب الغربيين الذين نوّهوا بإسهام أمتنا في الحضارة العالميّة.
في صيف 1953 تَمَّ اِعتقاله واِحتجازه في ثكنة حسين داي لمدة فاقت الشهر، ومَثُلَ بعدها أمام المحكمة العسكريّة التي أطلقت سراحه بعد تدخل فرحات عباس، وسافر بعدها مباشرة إلى المشرق العربي(مصر) لزيارة والده، زيارة كانت حافلة بالنشاطات واللقاءات سمحت له بالتعرف عن قُرب على العديد من الشخصيات والقامات الفكريّة والسّياسيّة الكبيرة، فَحَضَرَ اِستقبال جمال عبد الناصر لوالده، وتَعَرَفَ على شيخ الأزهر محمود شلتوت ومفتي القدس الحاج أمين الحسيني وعبد الخالق حسونة الأمين العام للجامعة العربية، كما كان له لقاء مع الزعيم عبد الكريم الخطابي وهلال الفاسي والتونسي الصالح بن يوسف وبعض الوجوه البارزة في الحركة الوطنية مثل محمّد خيضر وحسين آيت أحمد والشاذلي المكي وأحمد بيوض. هذه اللقاءات التي رَسَّخَت عنده فِكرة أن لا بديل عن المُقاومة والكفاح وما أُخِذَ بالقوّة لا يسترد إلاّ بالقوّة وكانت حافزًا ودافعًا إلى سعيه مع الطلبة الجزائريين بفرنسا إلى تأسيس اِتحاد الطلبة المُسلمين الجزائريين (1955)، واِنخراطه في صفوف الثورة التحريرية دون تردّد مُستعدًا للتضحيّة بكلّ شيء في سبيلها.
بَذَلَ أحمد طالب خلال رئاسته للإتحاد الكثير من الجهد ، فقد شَكَلَ مجموعة فروع للاِتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين في المُدن الجامعية الفرنسية، بالإضافة إلى فرع الجزائر الّذي كان ينشطُ فيه محمّد الصدّيق بن يحيى والأمين خان، وكان يرأس الاِجتماعات الأسبوعيّة للّجنة التّنفيذيّة واِجتماعات اللّجنة المُديرة، كما أَصدَرَ الاِتحاد برئاسته مجلة "الطالب الجزائري"، إلى جانب النشاط السّياسيّ المُكَثَّف والتنديد بجرائم الاِستعمار وانتهاكاته لأبسط حقوق الشعب الجزائري وتوجيه العديد من النداءات إلى الرأي العام الفرنسي.
وسعى أحمد طالب خلال فترة رئاسته للاِتحاد إلى ربط اِتصالات بشخصيات فرنسية من صحفيين وكُتّاب وجامعيين ورجال سياسة، بغية شرح شرعية كفاح الاِتحاد العام للطلبة المُسلمين الجزائريين من أجل الحرية والاِستقلال، وسافر إلى بيروت وتونس وليبيا وألمانيا وسويسرا لإنجاز العديد من المُهمات التي كان يُكَلَفُ بها من طرف فيدرالية فرنسا حينًا ومن طرف قادة الثورة أحيانًا أخرى.
بعد اِسترجاع السّيادة الوطنية تَجَنَبَ أحمد طالب التخندق ونأى بنفسه عن الصراعات وعاد إلى مزاولة مهنة الطب في مستشفى مصطفى باشا الجامعي مُركزًا جُلّ اِهتمامه على أبحاثه في مجال أمراض الدم رغم العروض التي كانت تأتيه أحيانًا عن طريق أصدقاء لشغل منصب سياسي. وكَلَفَتْهُ مواقفه الدخول إلى السجن في جزائر الاِستقلال.
وبعد وصول الرئيس هواري بومدين إلى الحُكم، قام بعرض منصب وزاري على الدّكتور أحمد طالب، وبعد إلحاح من الرئيس قَبِلَ المنصب الّذي عُرِضَ عليه وعُينَ وزيرًا للتربية شهر جويلية 1965، ثم وزيرًا للإعلام والثقافة سنة 1970، ثم وزيرًا مُستشاراً لرئيس الجمهورية بدايةً من سنة 1977 واستمر في هذا المنصب في بداية عهد الرئيس الشاذلي بن جديد وكان من إنجازاته في هذه المرحلة تأسيس مجلس المُحاسبة وإدارة بعض الملفات الشائكة على ملف الصحراء الغربية. ثم تولى منصب وزير خارجية بعد وفاة محمّد الصديق بن يحيي. أولى اِهتمامه إلى ملف الحدود مع دول الجوار وأنهى مُشكل ترسيم الحدود مع كلّ من موريتانيا وتونس ومالي والنيجر، إضافةً إلى العناية بصورة الجزائر خارجيًا وثقلها الدّبلوماسي في شتّى المحافل الدّوليّة والإقليميّة، فكان من غير المُمكن إصدار قرار في مُنظمة عدم الاِنحياز أو منظمة الوحدة الإفريقية أو جامعة الدول العربية من دون موافقة الجزائر.
الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي اِسمٌ لامع في سماء السّياسة الجزائرية وقامة فكرية سامقة اِستطاع أن يُزاوج بين الفِكر والسّياسة فكان وراء تأسيس مجلة "الشاب المسلم" بداية الخمسينيات، ومُؤسس مجلة "الثقافة" المعروفة التي كانت تصدرها وزارة الإعلام والثقافة، ومُؤسس "المجلة الجزائرية للعلاقات الدولية" منتصف الثمانينات، وشغل عضو المجلس التنفيذي للمنظمة الدولية للتربية والعلوم (اليونيسكو) بدايةً من 1968، وعضو مُراسل بمجمع اللّغة العربية بدمشق وبمجمع اللّغة العربية بالقاهرة، وكذلك عضو بالأكاديمية الملكية بالأردن، كما كان من المُؤسسين لمعهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية بفرانكفورت سنة 1982، إلى جانب الكثير من الدراسات والمقالات والأعمال المنشورة .