الأربعاء 19 نوفمبر 2025 الموافق لـ 28 جمادى الأولى 1447
Accueil Top Pub

قسنطينة تسترجع قطعة من لوحتها الحضارية: المقاهي الثقافية تعود وتستقطب مزيجا من الأجيال

استعادت مدينة قسنطينة مؤخرا، قطعة من لوحتها الحضارية بفضل مبادرات شباب طموح أعاد إحياء فكرة المقاهى الثقافية التي كانت رائجة في زمن مضى، وذلك بعدما تطوع أصحاب مشاريع لبعث هذه الثقافة والمساهمة في صناعة المشهد العام، عبر أسلوب معاصر يحمل شعار « قهوة وكتاب»، وهو مفهوم نجح في استقطاب مزيج من الأجيال بفضل الترويج الجيد للفكرة على مواقع التواصل الاجتماعي.

لينة دلول

عرفت المدينة منذ نهاية القرن التاسع عشر بحيوية مقاهيها الأدبية التي كانت ترصد نبض الحياة الثقافية، أين يلتقي المهتمون لتبادل الأفكار وبناء رؤى جديدة للحياة الثقافية والاجتماعية، غير أن تغيرات الزمن والتحولات الاجتماعية أطفأت هذه الشعلة فتراجع حضور المقاهي الثقافية في المشهد القسنطيني.
مؤخرا، عاد هذا النشاط ليسجل حضوره بين الأنشطة التجارية في عاصمة الشرق الجزائري من خلال مبادرات صنعت التميز واستطاعت أن تصمد وتحقق النجاح.
«لارين» مقهى يشبه الزمن الجميل

ومن النماذج الناجحة التي لاقت إقبالا وترحيبا كبيرين من طرف المهتمين بالثقافة والأدب، مقهى « لا رين» ، أو «كافيتيريا الملكة»، للشابة شيماء كردون صاحبة 27 سنة، التي تشارك متابعيها على مواقع التواصل مقتطفات من نشاطاتها اليومية. زرنا المقهى المتواجد في أحد الأحياء الهادئة بالوحدة الجوارية 17 بمدينة علي منجلي، ووسط بنايات الإسمنت والمحلات التجارية شكلت وجهتنا مساحة استثنائية.
أول ما شدنا في المقهى هو تصميمه، حيث يحتضنك المكان بدفء فالجدران مزينة برفوف الكتب المختلفة التي تنبعث منها رائحة الورق والخشب، كما جهزت القاعة بمقاعد مريحة للتشجع على القراءة الطويلة، مع تخصيص ركن للأطفال وزوايا للعزلة وأخرى للنقاش
عناوين متعددة تمس مختلف المجالات
أول ما يلفت الزائر للمقهى، هو ثراء المكتبة، إذ تحتوي الرفوف على عناوين قديمة وأخرى جديدة تمثل تشكيلة متنوعة تعنى بعديد المجالات على غرار الدين، والفقه، والسيرة الفلسفة، وعلم النفس والتنمية الذاتية والرواية، والقانون، والموسوعات النادرة، وكتب الأطفال والقصص المصورة، كتب فرنسية، عربية، وحتى طبعات قديمة جدا لا تتوفر في المكتبات. حدثتنا الشابة شيماء صاحبة الملامح الهادئة، عن مقهاها الذي وصفته بالبوابة نحو الزمن الجميل، وعادت بنا قليلا إلى بداياتها وكيف قررت أن تستثمر في مشروع مماثل.أكدت، أنها عملت لسنوات كممرضة في طب الأطفال، وتحديدا مرضى سرطان، وكانت ترعى هذه الأرواح الصغيرة وتقاسمها قصصها وآلامها، وآمالها، وحتى لحظات الوداع الأخيرة، لكنها أنهكت نفسيا بعد مرور خمس سنوات في المجال، خصوصا وأنها كانت شاهدة على رحيل ثلاثة صغار في ليلة مناوبة واحدة.قالت، بأن ذلك الحدث مثل النقطة التي أفاضت الكأس فدخلت بعدها في نوبة اكتئاب حادة حين شعرت أن تعبها لا يفيد شيئا وأن وجودها مع هؤلاء المرضى لا يقدم لهم الكثير بقدر من يستنزف طاقتها وعاطفتها.
أخبرتنا شيماء، أنها وسط هذا الانهيار لم تجد يدا أحن من يد والدتها التي نصحتها بالبحث عن مشروع يشبهها وتنتمي إليه و تستطيع أن تضع فيه شغفها وروحها.
وهكذا وجدت أن القهوة والكتب هما أكثر ما يمنحانها الطمأنينة فقررت الجمع بينهما في مشروع واحد، يحمل رسالة ويمنح لغيرها الراحة والسلام الذين افتقدتهما لسنوات.أوضحت، أنها بدأت من الصفر لكنها كانت غنية بالعزيمة حيث استعملت الكتب التي كانت تملأ غرفتها، وأواني المطبخ من منزل العائلة وطورت مهاراتها في الطبخ لتعد المملحات والحلويات بنفسها.
لكن التحدي الأكبر كان ماديا، فاضطرت والدتها لبيع حليها لتمويل المشروع. قالت، إن الزبائن لم يستوعبوا فكرة المشروع في بداياته، بعضهم ظنها مكتبة، والبعض الأخر اعتقد أنه محل نسائي فقط، لكن مع الوقت تمكنت من كسب ثقتهم ووفائهم أيضا. معلقة :» لم يكن المقهى يوما مكانا لارتشاف فنجان أو تناول تحلية معينة، هو بالنسبة لي مساحة للراحة وملاذ ثقافي يجمع الباحثين عن الهدوء وعن الكتاب و الفن، لطالما حلمت بمكان كهذا في قسنطينة ولأني لم أجده قررت أن أصنعه بنفسي».
شطرنج وسكرابل و ألعاب فكرية
من بين أكثر الكتب التي تجذب الزبائن ذكرت الروايات، ونسخة نادرة من كتاب ألف ليلة وليلة، إلى جانب كتب التنمية البشرية والسيرة أيضا. وقالت، بأن بعض الأساتذة الذين يرتادون المكان أهدوها كتبا قيمة جدا مثل طبعة قديمة من كتب جبران خليل جبران.يحتضن المقهى كما علمنا، جلسات أدبية، وأمسيات موسيقية، وعروض رسم، وفعاليات ثقافية في المناسبات مثل 1 نوفمبر، والمولد النبوي وليالي رمضان، يمتد بعضها حتى الثانية صباحا. كما تحدثت صاحبة المشروع، عن تخصيص مساحة للألعاب الذهنية على غرار الشطرنج العادي والصيني، السكرابل، البازل، لعبة «ناس بكري قالو» التراثية عن الأمثال الشعبية، وكذا ألعاب عائلية تتضمن أسئلة ترفيهية وتثقيفية مع تخصيص ركن للعب والتلوين.

وأوضحت، أنه أثناء الامتحانات يتحول المقهى إلى مكتبة للمراجعة يزورها عشرات الطلبة من أجل الاستفادة من الهدوء والتركيز. وعن سر اختيار تسمية الملكة للمقهى، قالت إنها ووالدتها يمارسان هواية تربية النحل، ويستخرجان العسل الطبيعي من منحلهما الصغير ويبيعانه داخل المقهى وهو تحديدا ما أوحى إليها بالتسمية.
الجنس اللطيف الأكثر وفاء للمكان

وحسب المتحدثة، فإنه في بداية افتتاح المقهى ساد الاعتقاد بأن المكان مخصص للنساء فقط، وذلك بسبب الأجواء الهادئة والديكور الجميل، لكنها كانت حريصة على توضيح الصورة والتأكيد أن العنوان مفتوح أمام الجميع دون استثناء، مع ذلك فإن أكثر من يقصده هن النساء حيث يلعبن الشطرنج ويقرأن الكتب و يتناقشن حولها.
مشيرة من جهة ثانية، إلى أنها لاحظت بأن الشطرنج غير من سلوك بعض الشباب والمراهقين الذين يزورون المقهى باستمرار، إذ صاروا أكثر هدوءا وانضباطا وتعلقا بالقراءة، مضيفة بأنها تحلم بأن تنتشر الفكرة أكثر بقسنطينة، و أن تصبح القراءة عادة يومية.
«كافي تايم» عنوان للمتعة و للقراءة والإبداع
يوجد في مدينة الخروب، مقهى آخر يعنى بالثقافة والفن معا، واسمه «كافي تايم». المكان مصمم بطريقة جميلة يطغى عليها الخشب والديكورات التقليدية، وهو عنوان للمتعة والقراءة والنقاش والإبداع أيضا، ذلك لأنه يحتضن عشاق القراءة، وكان ينظم جلسات نقاش مع الكتاب والأدباء، ناهيك عن ورشات للرسم، و النحت، وصناعة الفخار.

تعود فكرة المقهى للمهندسة الشابة أسماء بوعبلو وشقيقها، وقد استحدث المكان في جانفي 2024، حيث قالت لنا بأن المشروع وليد شغفهما بالتراث وتأثرهما بوالدهما الذي غرس فيهما قيم الحفاظ على العادات والتقاليد.أخبرتنا، أنها اختارت أن تمنح المقهى طابعا تراثيا فصممته بمواد طبيعية تعكس روح الأصالة، وشيدت جدرانه بالحجارة واختارت له أثاثا خشبيا كما قررا معا هي وشقيقها أن يضفيا عليه سمة ثقافية خصوصا في ظل شح النشاطات في المدينة، وهكذا تحول إلى ملتقى ثقافي احتضن لقاءات مع كتاب وباحثين جامعيين و مثقفين عموما.
موضحة، بأن «كافي تايم» يقدم قهوة الجزوة لمن يبحث عنها، كما يتيح قائمة متنوعة من المرطبات العصرية، ويمد جسرا بين الأجيال حيث يستقبل بشكل كبير أبناء الجيلين ألفا وزاد، الذين يستمتعون بحضور جلسات ثقافية ينشطها مخضرمون.
تنظيم اللقاءات الأدبية
وقالت المتحدثة، بأنها خصّصت ركنا للمطالعة تم تزويده بمجموعة من الكتب التي تبرّع بها الأقارب والأصدقاء، فصار الركن فضاء يلجأ إليه شباب ومراهقون لتذوق متعة المطالعة.
كما أنشأت ركنا خاصا بالحديث عن الجزائر يناقش فيه الزوار التراث والتاريخ، وأدرجت ضمنه كتبا اقتنتها خلال عملها على مشاريع ترميم مست قصر أحمد باي، ومساجد ومعالم أثرية بقسنطينة. إلى جانب استحداث ركن للطلبة، لاسيما طلبة تخصص الرياضة، أين وضعت بين أيديهم كتبا ودوريات تساعدهم في بحوثهم ودراساتهم.
وأوضحت أسماء، أن المقهى احتضن العديد من الأنشطة الفنية، إذ استضاف مبدعين، حققت أولى جلساته الأدبية نجاحا وإقبالا غير متوقعين. كما عرض في المكان فيلم ثوري تمت مناقشته في جو فكري مفتوح، مؤكدة أن كل جلسة تنظمها تجذب عشرات المهتمين.ونظرا للإقبال الكبير، قالت بأنها قررت توسيع المشروع بإنشاء طابق إضافي مخصص للورشات والمعارض الحرفية، لتشجيع الفنانين والحرفيين على الاحتكاك بالجمهور.
80 بالمئة من مرتادي المقهى شباب
وأوضحت المهندسة، أنها من خلال هذه التجربة اكتشفت طاقات شبابية مذهلة لشباب في العشرين يحملون أفكارا مبتكرة، مؤكدة أن من بين أهداف المقهى دعم الحرف المحلية والتعريف بها.
وأشارت، إلى أن نوعية رواد المقهى تغيرت مع مرور الوقت وصار المكان قاطبا أكثر للمراهقين وطلبة الجامعات الذين يشكلون 80 بالمائة من مرتاديه.
يقبل هؤلاء الشباب أيضا على عنوان آخر يتواجد بوسط المدينة، ويكتسب شهرة متزايدة يوما بعد يوم بفضل النشاطات الثقافية التي يحتضنها وهو مقهى « ليمون» بحي المنظر الجميل.
المقهى من بين الفضاءات الهادئة التي استطاع القائمون عليها تحقيق توازن بين البساطة في التصميم والعمق الثقافي، إذ يجتمع فيه عشاق الموسيقى والكتاب معا في جلسات للفنان والنقاش الهادف.

آخر الأخبار

Articles Side Pub-new
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com