الأربعاء 19 نوفمبر 2025 الموافق لـ 28 جمادى الأولى 1447
Accueil Top Pub

الكاتب و المترجم حميد عبد القادر للنصر: قوّة الأدب في عدم حياديته ولا وجود لكاتبٍ مُنصف

* المُؤرخ يستمع لصوت الوثيقة التّاريخيّة و الأديب للكلام الّذي سقط من الوثيقة
يعتقد الكاتب والروائي حميد عبد القادر، أنّ مجال اِهتمام الروائي هو الذاكرة. وأنّ المُؤرخ هو من يهتم بالتّاريخ كعِلم قائم بذاته. مُؤكدًا في هذا السّياق، أنّ منهجه ليس هو منهج المُؤرخ، بل منهج دارس الِفعل السّياسي. وأنّ التّاريخ شيء، والأدب شيءٌ آخر. وأنّ التّاريخ هو فضاء الجماعة باِمتياز، أمّا الأدب فهو فضاء الفرد في مأساته، وخرابه، ومعاناته. مُشيرًا في هذا المعطى، إلى أنّه لَمَا يتحوّل للكتابة التّاريخيّة، يسعى للتحلي بالموضوعية، بالرغم من أنّه قد يكون يُدافع عن مشروع معين.

حوار: نوّارة لحـرش

وفي ذات الشأن تقريبًا، يقول أنّه لا يهتم بالتّاريخ لحظة كتابة الرواية أو القصة القصيرة، بل يهتم بمرويات تأتي من عُمق الذاكرة. ولهذا يعتبر -نفسه- روائيًا وليس مُؤرخًا. وفي مسألة غياب الوثيقة الأرشيفية. يُؤكد أنّ الوثيقة الوحيدة التي تهمه هي آراء الفاعلين التّاريخيين من شهادات مكتوبة أو شفهية. عبد القادر وهو يتحدث عن تجربته في كتابة الرواية والكتابة التاريخية. يقول إنّه يكتب الأدب أكثر مِمَّا يكتب في التاريخ.
للتذكير، حميد عبد القادر، روائي وكاتب ومترجم جزائري من مواليد العام 1967، درس العلوم السّياسيّة والعلاقات الدولية في جامعة الجزائر، واِلتحق بالعمل الصحافي العام 1990. أصدرَ مجموعة من الكُتب بالعربية والفرنسية في الرواية والنقد والتّاريخ والترجمة. ومنها أعماله الروائية: «الاِنزلاق»، «مرايا الخوف»، «توابل المدينة»، «رجل في الخمسين»، إضافةً إلى مجموعة قصصية بعنوان «حكايات مقهى ملاكوف الحزينة». وفي مجال النقد أصدر «أسفار الزمن البهي»، و»الرواية مملكة هذا العصر».
وجدتُ نفسي مُنساقًا نحو الذاكرة التي تختزن أحداثًا مُتراكمة صالحة لكي تكون مادة أدبية
تُزاوج بين الكتابة الأدبيّة والتّاريخيّة، لكن المُلاحظ أنّ الكتابة التّاريخيّة تحتلُ حيزًا أوسع من الكتابة الأدبيّة. هل يشغلك التاريخ أكثـر من فن الكتابة والإبداع؟، أم أنّك ترى نقصًا في مجال الكتابة التّاريخيّة لهذا يذهبُ اِشتغالك وشغفك أكثـر في هذا الاِتجاه؟
-حميد عبد القادر: ولدتُ، وترعرعتُ، في حي هادئ، يكاد يختفي منه الضجيج، يقع بالضاحية الغربية للجزائر العاصمة. هو حي «سان كلو» الّذي وَرَدَ في أعمالي الروائية (الاِنزلاق، مرايا الخوف، وتوابل المدينة) والقصصية (مجموعة «حكايات مقهى ملاكوف الحزينة»). بناهُ المعمرون مَطلع القرن العشرين، وسكنته نخبة مُثقفة من أطباء وأساتذة جامعة الجزائر. وهو في الحقيقة حي صيفي، أيّ أنّ ساكنيه لا يقصدونه إلاّ خلال أيّام الصيف. اِحتفظَ الحي بهدوئه لسنوات طويلة، إلى أن شَهد تشييد عمارات من بضعة طوابق، وعرف قدوم ساكنين جُدد من أحياء شعبية بعيدة. قبل هذا، كُنا ننعمُ بهدوءٍ كبير، والحياة في حي «سان كلو» تكاد تكون رتيبة، لا صخب فيها، ولا أي شيء يُعكر صفو النّاس الذين اِكتسبوا ثقافة راقية.
هذا الهدوء اليومي، يُقابله صخبٌ كبير على مستوى الذاكرة. وبحكم أنّ أي عمل إبداعي يُعتبر بمثابة تعبير عن «صخب وعنف» المجتمع، وجدتُ نفسي مُنساقًا نحو الذاكرة التي تختزن أحداثًا مُتراكمة صالحة لكي تكون مادة روائية أو قصصية. ومن بين هذه الأحداث، أنّ خليج «كاب كاكسين» المُحاذي لحي «سان كلو»، شهد أوّل محاولة لغزو الجزائر، وبالضبط يوم الثالث والعشرين من شهر ماي سنة ألف وثمانمائة وثلاثين، حيثُ يروي أحد القادة العسكريين الغُزاة، أنّ أكثر من خمسمائة باخرة مُدجّجة، أرست عند الخليج، واستعدت للغزو، بيدَ أنّ الجنرال «دوبورمون» أعطى أوامره للاِنسحاب إلى «جُزر البليار»، بعد أن هَبت عاصفة هوجاء على الخليج والمنطقة برمتها. تَذَكرَ ما حدث لـ»شارل كانت»، فَهَبّ راجعًا، مذعورًا. كلّما فتحتُ نافذة غرفتي، وأبصرتُ الخليج المذكور، إلاّ وتَذكرتُ الحادثة، وتخيلتُ السُفن الراسية، والجنود المُدّججين بالأسلحة، وهم يستعدون للغزو.
أعتقد أنّ الذاكرة / ذاكرتنا تختزنُ كثيرًا من الأحداث القابلة للحكي، وإضافةً لحادثة خليج «كاب كاكسين»، هناك مرويات جدي «سعدي عبد القادر» الّذي شارك في الحرب العالمية الأولى، ومرويات جدي من أمي «أرزقي» الّذي شاركَ في الحرب العالميّة الثّانيّة، ومُعاناة عائلتي خلال حرب التحرير، وهجرتها إلى العاصمة هروبًا من مُخطط «شال» الجهنمي بعد عودة الجنرال ديغول للحُكم في فرنسا. إضافةً لأحداث أخرى، منها أحداث «لابلويت» التي جَرت بالقُرب من «دشرتنا»، وغيرها. دون نسيان ما كُنْتُ أقرأهُ مكتوبًا على جدار حي «سان كلو»: «منظمة الجيش السريّ سوف تنتصر»، وهو مكتوب حائطي لغلاة الجزائر الفرنسية، وغيرها من الأحداث التي تأتي من الذاكرة لتقضّ هدوء حي «سان كلو»، وتجعله صخبًا. في النهاية عوضتُ، صخب اليومي الغائب، بصخب الذاكرة.
لا أهتم بالتّاريخ لحظة كتابة الرواية أو القصة القصيرة بل أهتم بمرويات تأتي من عُمق الذاكرة
ألفتَ سلسلة من الكُتب التّاريخيّة إلى جانب كتابة الرواية. ما الحدود المُشتركة بين الأدب والتّاريخ، ومتّى يكون التاريخ إضافة للأدب، والعكس أيضًا، متى يكون الأدب إضافة للتاريخ؟
-حميد عبد القادر: في الحقيقة، وفي الغالب، لا أهتم بالتّاريخ لحظة كتابة الرواية أو القصة القصيرة، بل أهتم بمرويات تأتي من عُمق الذاكرة. لهذا أعتبرُ نفسي روائيًا، ولستُ مُؤرخًا، رغم أنّني ألفتُ كُتبًا حول التّاريخ. لَمَا نشرتُ كتابي حول فرحات عباس «رجل الجمهورية»، قامت القيامة وسط المؤرخين، رددوا قائلين «ما له يحشر نفسه في ما لا يعنيه؟». فكان ردي «ولماذا لم تكتبوا أنتم؟». كلّ المشكلة تكمن هنا، المؤرخون رفضوا اِعتباري واحدًا منهم، لأنّني لستُ كذلك، وهذا صحيح. والأدباء والنُقاد أخرجوني من حظيرة الأدب، لأنّني أهتم كثيرًا بالتّاريخ، لكن من زاوية معينة، وهي دراستي للعلوم السّياسيّة في الجامعة.
أعتقد أنّ مجال اِهتمام الروائي هو الذاكرة. المُؤرخ هو من يهتم بالتّاريخ كعِلم قائم بذاته. ولَمَا أتحوّل للكتابة التّاريخيّة، مثلما حَدَثَ مع «عبان رمضان»، أو «فرحات عباس»، أو «لمين دباغين» ومجموعة الستة، أو «هواري بومدين»، هنا تجدونني أسعى للتحلي بالموضوعية، بالرغم من أنّني أدافع عن مشروع معين. ومنهجي طبعًا ليس هو منهج المُؤرخ، بل منهج دارس الِفعل السّياسي. التّاريخ شيء، والأدب شيءٌ آخر. التّاريخ هو فضاء الجماعة باِمتياز، أمّا الأدب فهو فضاء الفرد في مأساته، وخرابه، ومعاناته.
لا أقول هذا في المُطلق، لأنّ الجماعة يمكن أن يكون لها أدبها، لكن في الغالب حسبَ تصوري الأدب هو فضاء الخراب، والاِنكسار الفردي. المُؤرخ يستمع لصوت الوثيقة التّاريخيّة، والأديب يبحث عن الهمسات، وعن الكلام الّذي سقط من الوثيقة، وعن اللحظة الشِّعريّة. أعتقد أنّ الشِّعر، ووجوده في الرواية هو الّذي يجعلها مُختلفة.
الترجمة عملٌ شاق ومُتعب
لكَ أيضًا إسهاماتٌ عديدة في الترجمة، وحتّى ترجمة الكُتب التّاريخيّة تغلب على الكُتُب الأدبيّة، ما يُؤكد مرّةً أخرى شغفك واهتمامك بالتاريخ؟
-حميد عبد القادر: بل ترجمتُ الكثير من الأعمال القصصيّة، ففي مطلع التسعينات ترجمتُ ونشرتُ بصحيفة «الخبر»، وهي بالحجم الكبير الكثير من القصص لإرنست همنغواي، وغابرييل غارسيا ماركيز، والفرنسي دانيال بيناك الّذي ترجمتُ له فصلين من رواية. إضافةً لمقالات أدبية كثيرة بالأخص خلال الذكرى الخمسمائة لاِكتشاف العالم الجديد من قِبل كريستوف كولومب.
الترجمة، صراحةً لا تستهويني كثيرًا، فهي عملٌ شاق، ومُتعب، صحيح أنّها تُدِرُ بكثير من المال، لكن ذلك هو آخر اِهتماماتي.
أسعى دائمًا للتوصل إلى خلاصة/ فكرة أستنتجها وأدافع عنها
المعروف أنّ الكتابة الأدبيّة تستلهم من الواقع والخيال وتستثمر فيهما، في حين الكتابة التّاريخيّة تعتمد على الوثيقة، لكن كثيرًا ما يصطدم الكاتب بغياب الوثيقة أو بتذبذب الحقائق فيها. ما رأيك؟
-حميد عبد القادر: لستُ مُؤرخًا مُحترفًا. في الحقيقة أنا كاتب صحفي، أهتمُ بشيءٍ واحد هو تعدّد الآراء حول موضوع واحد، وتقاطعها. أسعى دائمًا للتوصل إلى خلاصة/ فكرة أستنتجها وأدافع عنها. كتبتُ عن «فرحات عباس» في وقت لم يكن أحد يجرؤ على تناوله، ودافعتُ عن الشهيد «عبان رمضان» في خضم الحملة التي اِستهدفته مطلع الألفية الجديدة من قِبل خصومه التقليديين الذين ظلوا رافضين لمؤتمر الصومام. لا تهمني مسألة غياب الوثيقة الأرشيفية. الوثيقة الوحيدة التي تهمني هي آراء الفاعلين التّاريخيين من شهادات مكتوبة أو شفهية.
الروائي هو الكائن الوحيد الّذي لا يزال يُؤمن بجدوى الإبحار في ظلمات النفس البشريّة ومتاهات الحياة
في رواياتك (الاِنزلاق، مرايا الخوف، توابل المدينة) تحضرُ كثير من القضايا الشائكة، وتاريخ الجزائر في أكثـر من محطة من محطاته المُختلفة والمُتشابكة. إلى أيّ حد يهمك تناول التّاريخ في كتاباتك ورواياتك؟
حميد عبد القادر: أعتقد، أنّ الروائي لا يكتب الرواية لكي يتخذ مواقف حيادية، وهنا يأتي اِهتمامه بِمَا هو شائك من القضايا، بالتالي، فهو لا يتحلى بالموضوعية وهو يكتب. تكمن قوّة الأدب وميزته في عدم حياديته. وفي اِنغماس الروائي في المُعترك. يكتب الروائي لأنّه يحمل في أعماقه أوجاعًا تجعله يتخذ مواقف، يكتب تحت تأثير الشعور والعواطف، وليس تحت تأثير العقل. بالتالي هل يوجد «روائي مُنصف؟» أجيبكِ بسرعة، وأقول لا يوجد «روائي مُنصف»، الروائي كائن ذاتي، وهو يختلف عن المُؤرخ الّذي تُسَيِرُه سلطة العِلم. شخصيًا أنتقل كثيرًا بين الكتابة التّاريخيّة والكتابة الإبداعيّة، وأعرفُ أنّ الأدب هو لحظة شعوريّة، عاطفيّة باِمتياز. لهذا نجد أنّ البشريّة تمسكت بالرواية، لأنّ الروائي هو الكائن الوحيد الّذي لا يزال يُؤمن بجدوى الإبحار في ظلمات النفس البشريّة، ومتاهات الحياة، لكنّه في نفس الوقت هو الّذي يفتح مجال الشِّعر (في ظل تراجع دور الشِّعر) أمام النّاس، وهم يشعرون في لحظات اليأس أنّ العقل قد خانهم في مكانٍ ما. لَمَا نَشر الناشر الأمريكي الشهير «وليام بركينس» رواية «غاتسبي العظيم» لـ»سكوت فيتجيرالد»، فَعَلَ ذلك من منطلق إيمانه بأنّ «تغلغل الشِّعر في الحياة يُعدُ أمرًا ضروريًا». صحيح أنّ فيتجيرالد كَتَبَ رواية، لكن «غاتسبي العظيم» عبارة عن قصيدة طويلة، تَعُجُ بالحياة. هي إلياذة أمريكا بداية القرن العشرين.
كلّ عمل روائي يحمل جزء من ذات الكاتب
في «توابل المدينة»، يحضر حميد عبد القادر في شخصية «محفوظ عبد القادر المغراوي»، كما تحضر سيرتك وبعض تفاصيل حياتك في هذه الرواية وفي «الاِنزلاق و»مرايا الخوف». لكنّه ذاك الحضور الخجول/الطفيف. لماذا برأيك الكاتب الجزائري لا يحب/أو يخشى الغوص والتفصيل في سيرته؟
-حميد عبد القادر: بالفعل يوجد في شخصية «محفوظ عبد القادر المغراوي» شيء مني. تختلف «توابل المدينة» عن رواياتي السابقة. في روايتي الأولى «الاِنزلاق» تظهر الكثير من تفاصيل حياتي، أو حياة الصحفي الّذي عاش دوامة التسعينات. تحدثتُ عن إخفاقاتي في الحبّ، وعن عدم قدرتي على التواصل بواسطة لحظة العشق، بسبب ظروف العنف. «مرايا الخوف» كذلك يوجد فيها الكثير من حياتي، من الطفولة حتّى سن الخامسة والثلاثين. وتسير حياتي مع تفاصيل البلد وهو يُواجه العنف. تظهر في هاتين الروايتين حياتي الشخصيّة، لكنّني أكاد أغيب في روايتي الثالثة «توابل المدينة»، هنا كلّ شيء مُتخيل، الشخصيات والأحداث، وهي أوّل رواية تمكنتُ بواسطتها من التخلص من «الذات». بيدَ أنّ كلّ عمل روائي يحمل جزء من ذات الكاتب، وإن صحت مقولة «غوستاف فلوبير»: «السيدة بوفاري هي أنا»، فأنا أقول بدوري: «السيدة جنات هي أنا».
دونَ العودة إلى أحداث ماضية لا يمكن فهم الواقع المُعاش
هل تبحث عن ذاتك في رواياتك؟ وهل يمكن للرواية أن تكون ذات كاتبها بشكلٍ أو بآخر، وما هي مهمتك كروائي؟
-حميد عبد القادر: بالفِعل، لَمَا نكتب نبحث عن شيء ضائع. نريد اِستعادة (زمن مضى). شخصيًا أبحثُ كثيرًا عن طفولتي، وشبابي، عن حي «سان كلو» في السبعينات والثمانينات. في كثير من الأحيان أستمع لأصوات رفاقي، وجيراني الذين رحلوا عن «سان كلو»، بعضهم هاجر بعيدًا إلى كندا، وبعضهم الآخر لمُدن داخلية. يشدني الحنين إلى الزمن الّذي مضى، وعليه أبحث عن هذا الزمن الّذي اِنفلتَ من بين أصابعي. في النهاية الروائيين عبارة عن كائنات «بروستية» باِمتياز، فالجميع يريد اِستعادة «الزمن الضائع».

آخر الأخبار

Articles Side Pub-new
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com