الأربعاء 19 نوفمبر 2025 الموافق لـ 28 جمادى الأولى 1447
Accueil Top Pub

هل تنعكس إيديولوجيا الكاتب على الإبداع؟

هل تنعكس الخيارات الإيديولوجيّة للكاتب على الإبداع؟ وهل يمكن للأدب أن يتخفّف نهائيًا أو -جزئيًّا- من المضمون/أو الفكر الإيديولوجي؟ أيضًا هل بإمكان النص الأدبي أن يكون خاليًا من الخلفيات والخيارات الموقفية التي تُحيلُ بشكلٍ أو بآخر إلى قناعات الكاتب الفكريّة والسّياسيّة أو الدينيّة أو الثّقافيّة؟ بمعنى آخر هل يتأثرُ أدبهُ وكتاباته بخياراته أو بأفكاره الإيديولوجيّة؟. وهل من الضروري أن يَحْرِص الكاتب على الفصل بينهما؟ أم أنّ الأمر لا يتعارض مع بعضهما البعض. بمعنى أنّ الأدب لا يتعارض مع خيارات وأفكار وميولات الكاتب الإيديولوجيّة، والعكس الصحيح. أي أنّ الإيديولوجية بكلّ حمولاتها وسيّاقاتها وإشكالاتها وأشكالها لا تتعارض مع الأدب. حول هذا الشأن "الكاتب وخياراته الإيديولوجيّة وما مدى اِنعكاسها على أدبه وكتاباته"، يتحدث بعض النُقاد والأدباء في ملف "كراس الثقافة" لهذا العدد.

أعدت الملف: نوّارة لحرش

* الأستاذ والباحث الأكاديمي عبد الجليل منقور
الإيديولوجيّة حاضرة في كلّ إبداع بل في كلّ الكتابات
يقول الباحث الأكاديمي وأستاذ عِلم الدلالة وتحليل الخطاب، الدكتور عبد الجليل منقور، من جامعة عين تموشنت في هذا الشأن: "ينطلق المُبدع في كتاباته من معرفة مُسبقة تُشَكلُ تراكمات لقناعات فكريّة بها يُفسِر الواقع وعلى أساسها تنبني مواقفه تجاه مُختلف القضايا التي يتناولها، فالإيديولوجية –إذن– حاضرة في كلّ إبداع بل في كلّ الكتابات الفكريّة والثّقافيّة، وقد لا يصرح الكاتب/المبدع. بميوله الإيديولوجية مباشرةً ولكن تُسْتَشَفُ من خلال زاوية رؤيته للقضايا المنَاقَشة. فالقول بالكتابة الموضوعية لا وجود له البتّة".
وهنا -يُؤكد المُتحدّث- قائلاً: "فالكتابة ذاتية وتعكسُ وجهة نظر المُبدع للموضوع، وقد تتشاكل وجهات النظر بين مجموعة من الكُتّاب وينم ذلك على وحدة المصدر المعرفي الّذي يُشكِل مرجعية كلّ واحد منهم، بل إنّنا قد نجد بين هؤلاء الكُتّاب ذوي المرجعيّة الواحدة اِختلافًا في جزئيات النظر إلى الموضوع بدرجات مُتفاوتة ولكن النزعة الإيديولوجية واحدة، وقد شاع بين بعض المُثقفين إلصاق مصطلح الإيديولوجية بالنزعة الدّينيّة أو السّياسيّة، وإن كنا نجزم أنّ ذلك يُعَدُ مجالاً رحبًا لكلّ الميول الفكريّة".
ومُستدركًا يُضيف: "ولكن ينبغي التنبيه إلى أنّ الإيديولوجية هي نسقٌ من الأفكار والمُعتقدات والقيم التي توجّه سلوك الأفراد والجماعات في أي مجتمع. فالشيوعية والرأسمالية إيديولوجيتان عرفتا اِنتشارًا واسعًا للترويج الّذي حازت عليه من قِبل العُلماء الذين تبنوا أحد هذين الاِتجاهين، بل وانتقل الأصل المعرفي الّذي شَكَلَ أساس هذين الاِتجاهين إلى واقع النّاس وحياتهم ومن ذلك اِنعكس في آدابهم وإبداعاتهم".
وأردفَ في ذات السّياق: "بل لقد تحالفت السّياسة بالإبداع أثناء اِنتصار الثورة البلشفية سنة 1917 وإعلانها الشيوعية إيديولوجية تُوحد الشعب الروسي، وتُحدّد نمط اِقتصاده، فثم تسخير الثقافة والأدب لخدمة هذا الاِتجاه الّذي وضع أُسسه كارل ماكس (1818-1883) من خلال كتابه (الرأسمال) وقد اِنخرط فريدريك إنجلز (1820-1895) في مسعى كارل ماكس وأسهمَ في إخراج الجزء الرابع من الكِتاب والّذي أَعلَنَ عن ضرورة قيام إيديولوجيّة اِجتماعيّة اِقتصاديّة سياسيّة هدفها الأساس تأسيس مجتمع شيوعي بنظام اِجتماعي اِقتصادي مبني على الملكية المشتركة لوسائل الإنتاج في ظل غياب الطبقات المجتمعية".
وبناءً على ذلك -يُواصل المُتحدّث- "كان لزامًا على جميع أطياف المُجتمع ونُخبه على وجه الخصوص الاِنخراط في إنجاح هذا الاِتجاه، ومن هؤلاء مكسيم غوركي في روايته (الأم)، والشاعر فلاديمير ماياكوفسكي الّذي عَبَّرَ في قصائده عن الحماس الاِشتراكي، ودعَا إلى بناء الإنسان الجديد، وبوريس باسترناك صاحب رواية (الدكتور جيفاغو) والّذي تَعَرَضَ لاِنتقادٍ شديد لأنّه لم يلتزم كليةً بالخط الاِشتراكي".
وفي ذات المحور، يُضيف مُستدركًا: "بل عُدّ الشكلانيون الروس أمثال رومان جاكبسون (1896-1982) وفلاديمير بروب (1895-1970) وغيرهما الذين تبنوا المنهج البنيوي في تحليل النصوص أبناءً ضالين للثورة البلشفية كونهم نادوا باِتجاه نقدي يعتبر النص شبكة من العلاقات اللغويّة المُغلقة، وأنّ أي نقد ينبغي أن ينتقل من داخل النص إلى خارجه وليس العكس".
وهنا أردفَ قائلاً: "وكان من نتاج تأثير الإيديولوجية الشيوعية على الإبداع الأدبي بروز اِتجاه الواقعيّة الاِشتراكيّة في الكتابات الروائية في العالم ومن تلك الرواية الجزائرية الحديثة عند كلّ من عبد الحميد بن هدوقة في روايته (ريح الجنوب)، و(نهاية الأمس)، والطاهر وطار في روايته (اللاز) و(الزلزال)، كما تتجلى النزعة الإصلاحية المُستمدة من الاِتجاه الديني الإسلامي عند كثير من كُتّاب الرواية والمقالة الجزائريّة الحديثة أمثال أحمد رضا حوحو في مقاله القصصي مع حمار الحكيم".
وخلص إلى القول: "إنّ الإبداع الأدبي يخضع إلى ذاتية الكاتب وقناعاته الفكريّة وميوله السّياسيّة ونزعته الدّينيّة والتي تتجلى -جميعها- في صور شتّى داخل نصوصه على شكل رموز وأنساق ذات أفكار ودلالات..".

* الناقد الأدبي والفني محمد الأمين بحري
نفي الأدلجة في الأعمال الإبداعيّة يُعتبر ضربًا من التسلط والشطط
يؤكد الأكاديمي والناقد الأدبي والفني، الدكتور محمّد الأمين بحري، (من جامعة بسكرة)، أنه: "على الرغم مِمّا تتصفُ به الكتابة الأيديولوجية من الأطراف الفنية والنقدية المُعادية لها، بأنّها سجنٌ للكتابة وقمعٌ تأليفي لمنظور المُتلقي، وتوجيه تعسفي وإملائي للتلقي، وكونها دكتاتورية تأليفية، لمجرّد إعلان الكاتب عن اِنتمائه الإيديولوجيّ والفكريّ، أو السّياسيّ، بل إنّ البعض قد ذهبَ إلى أنّ إعلان المواقف والاِنتماءات في الأعمال الأدبيّة أمرٌ مُنافٍ للإبداع".
إلاّ أنّنا لو عدنا -يُضيف بحري- إلى أصل الكتابة الأدبيّة، لوجدناها ترجمانًا لفكرة لكاتب ناقلاً من نواقل الفكر إلى العالم، عن طريق السرد المخيالي، حتّى وإن كانت واقعية المنحى، فإنّ المخيال يُحَوِّلُ الواقع إلى أدلوجة حاملة لفكرة عن طريق أساليب السرد ومكوناته وخيارات المُؤلف فيه.
ثُمَ واصل مُوضحًا وجهة نظره: "ووفق مبدأ حرية التعبير التأليفي فإنّ النفي الكلي والقطعي للأدلجة في الأعمال الإبداعية، ومحو اِنتمائية الكاتب بصورة نهائية يُعتبر ضرباً من التسلط والشطط، بل وتجنيًا وتدخلاً في إرادة الكاتب وقمعًا لحرية تأليفه، والتعبير عن رُؤاه كما يشتهي أن يُقدم نفسه لقرائه".
ومن هنا -حسب رأيه- فإنّ سؤال الإيديولوجيا في الأعمال الأدبيّة، لا يكمن في اللماذية، يعني أنّه لا يحق لأي مُعادٍ للإيديولوجيا أو التأدلج في الاِعتراض على إعراب الكاتب عن اِنتمائه بطريقته. أي لا يحق له سؤاله بـ: "لماذا؟"، فهذا سؤال فاشي وقمعي أكثر من أية إيديولوجيا مُتصلبة.
ويُواصل في ذات الفكرة: "بل إنّ السؤال الإبداعي والنقدي والفني الأبرز هو (كيف؟) وَظَفَ الكاتب الرأي والرأي الآخر، والاِنتماء والمعارضة، وخاصةً في تلك الأعمال التي تُوصف بأدب القضايا الّذي عَادَ إلى الواجهة هذه الأيّام (بسبب القضية الفلسطينية ومواقف المثقفين في العالم منها)، فالحرب في غزة مثلاً والقضية الفلسطينية عمومًا عادةً ما تُوصف الكتابة عنها بالتموقف السّياسيّ، والإيديولوجي (إمّا دعمًا أو نكرانًا لعدالة القضية)".
مُضيفًا في ذات النقطة: "فحين نقرأ مثلاً: عن صورة فلسطين ما يكتبه أدباء من أمثال كمال داود أو ياسمينة خضرة، (رواية الصدمة) مثلاً، وتبني هؤلاء لموقف غربي يربط مقاومة الاِحتلال في فلسطين بالإرهاب وتبني أدلوجة السّرديّة الغربيّة، أو نقرأ مسألة التسامح مع اليهود في أعمال واسيني الأعرج (سوناتا لأشباح القدس)، أو الحبيب السايح (أنا وحاييم). أو نقرأ في الجهة المُقابلة، روايات غسان كنفاني (عائد إلى حيفا- أم السعد)، أو إبراهيم نصر الله (سداسية الملهاة الفلسطينية)، أو عبد الله كروم (شميطاه وإلى الأبد)، فسنقف بوضوح على موقف اِنتماء هؤلاء مع أو ضدّ أو توسط بين أطراف القضية، مادامت نصوصهم قضوية التصنيف (روايات قضية)".
وهي -حسب رأيه-، نصوصٌ تهدفُ إلى إيصال رسائل واضحة التوجيه، والخيارات والقناعات، التي تضع بين يدي المُلتقي كلّ ما يطرح الكاتب من قضايا عصره وموقفه من تلك القضايا، وسردي تخييلي مُسخر لخدمة توجهه المُعلن تجاه أطروحته، ورسالة تحمل في طياتها صورًا نوعية نسجها الكُتّاب حول كِلاَ طرفي الصراع في هذه القضية. إمّا بالتأييد أو المناوأة أو الدعوة إلى التسامح.
وهنا اِختتمَ بقوله: "لا يملك أي شخص سؤال الكاتب المُنتمي إلى هذا الطرف أو ذاك من أطراف الصراع في القضية الفلسطينية، لماذا تكتب؟ بل تصبح القراءة الفنيّة والتلقي الثّقافي للخطاب عند مناقشة عرضه، اِنطلاقًا من كيفية الصياغة ونوعية الطرح، والأساليب والصور المُوظفة في ذلك، لكي يكون السجال الفني ذا جدوى ثقافيّة، تقرأ الفكرة في الفكرة في الخطاب ولا تُحاكم الخطاب على توظيف الفكرة".

* الناقد والكاتب عبد القادر رابحي
لا يمكن للنص أن يكون خاليًا من قناعات صاحبه
يتساءل الناقد والكاتب الدكتور عبد القادر رابحي: "هل يمكن أن يتأسَّسَ نص من دون قناعة مُسبقة؟ وهل يُمكننا تصوّر كتابة خالية من موقف أو من مُسبقات أو من تصوّرات جاهزة؟ سؤال لطالما راودَ أهل الكتابة عمومًا وأهل الأدب وخاصّةً نُقاد الأدب الذين أطالوا المكوث في البحث عمَّا يجعل النص الأدبي نصًا أدبيًا بالأساس".
وهو السؤال الّذي -حسب رأيه- يظل يُراود النُقاد والدارسين نظرًا لِمَا يحملُ من روافد و تشعّبات لا تزال تُثير النقاش حول الجدوى من الكتابة أساسًا، وحول المغزى من الأدب ومن دوره في المُجتمعات التي تتغير أحوالها التّاريخيّة والاِجتماعيّة بسرعة رهيبة وتتغير بموجبها طرائق النظر إلى النص بوصفه مرآة تاريخيّة لهذه المُجتمعات تُحيل إلى أحواله ومواقف من مروا بها وأثروا فيها وأثْروا بكتاباتهم زخمها الفكريّ والثّقافيّ الأدبيّ.
وفي ذات السّياق، أردفَ قائلاً: "لقد كُتِبَ الكثير حول علاقة الأدبيّ بالإيديولوجيّ في مراحل سابقة ووفق منظورات وقناعات مُختلفة. ولعل ما يمكنُ التأكيد عليه هو عَدم القدرة على تصوّر أنّ النص الأدبي بإمكانه أن يكون خاليًا من أي خلفيّة موقفية تُحيلُ إلى قناعات صاحبه الفكرية أو السّياسيّة أو الدينية أو الثّقافيّة. ذلك أنّ حمولة كلّ هذه الخلفيات جميعها، هي التي تجعل من نص ما مقبولاً لدى المُقتنعين برؤيته وتصوّره ومرفوضًا لدى من يختلفون مع هذه الرؤية وهذه القناعة".
مُؤكدًا في هذا المعطى، أنّ ذلك هو ديدن النص الأدبي منذ أن كان نصًا، ومنذ أن اِنبرى له الدارسون لاِستنباط النظريات الجماليّة والمذاهب الأدبيّة والمناهج النقديّة من بين ما يُضمره في أنساقه، وما يخفيه في بواطنه.
ومُستدركًا يُواصل في ذات المحور: "ولعله لذلك لا يُمكننا تصوّر كتابة من دون موقف يحملُ شارات صاحبه ويدلُ على موقفه وموقعه وهدفه وغاياته الظاهرة والخفية. ومهما يكن من عمليات إخفاء مُتعمّد للمُوقف، أو عملية تلاعب مُتعمدة بمنطلقاته ومآلاته، فإنّ النص إنّما هو موقف بالأساس يعكسُ ما يُظهرهُ صاحبه أو ما يُخْفِيه. وكلّ محاولة للإدعاء بأنّ الكتابة خالية من موقف هي محاولة تغطية على الموقف الحقيقي الّذي يخدم غايات وأهداف صاحب النص".
صاحب "مقصّات الأنهار" أضاف: "لقد غامرت العديد من المناهج النقدية المُستحدثة في محاولة الفصل بين إيديولوجية الكاتب وإيديولوجية النص من خلال إيجاد رؤية ذرائعية تستأثر بالنص الأدبي كبنية مُستقلة عن كاتبه من خلال محاولة قتل المُؤلف والخروج بتصوّر نظري لرؤية ألسنية نصانية بحتّة تجعلُ من النص مَركزًا أساسًا لأي نظرية نقدية تطمحُ إلى الهيمنة. تستأثرُ بعقل القارئ وتجعلُ من المُؤلف مجرّد آلة، غيرَ أنّ الأصل يبقى دائمًا هو المُؤلف الحقيقي بِمَا يحملهُ من هواجس ورؤى وتمثلات".
ولعل سؤال إيديولوجية النص -حسبَ اِعتقاده- تعاود الظهور بقوّة في راهن المُمارسة الإبداعيّة بِمَا صار يُعرف بنص الذكاء الاِصطناعي وما صار قادرًا عليه من توليد آليّ لنصوص إبداعيّة شِعريّة كانت أم روائيّة أعادت طرح سؤال علاقة الإيديولوجيّ بالأدبيّ من وجهة نظر جديدة تتدخل مُعطيات جديدة في تحديد هويّتها الفكريّة والفلسفيّة في عصر الثورة الرقمية.
مُشيرًا في هذا المعطى، إلى "أنّ اِنفلات النص في عصر الثورة الرقميّة لا يعني بالضرورة اِنفلات تصوراته الفكريّة وقيمه الأخلاقيّة بغض النظر عن توجهات هذه القيم، بل يُؤكد اِنفلات مُمكنات تفسيره وفق زوايا جديدة تعتمدُ التزييف أو التضليل أو التأثير على القُرّاء بغرض تغيير إحداثيّات فكريّة وتاريخيّة لم يكن مُمكنًا تغييرها في أزمنة سابقة".
وخلص إلى القول: "لقد أصبحنا اليوم في عصر يحتمُ إعادة النظر في مُجمل ما حاول المنظرون أن يشرحوا به هذه العلاقة السّريّة بين النص وما يمكن أن يحمله من مواقف فكريّة وإيديولوجيّة. ولعلّ في هذا بابًا جديدًا لتجديد أفكار وآليات التنظير لهذه العلاقة بين النص وما يُحمله من أفكار ومواقف أصحابه".

* الناقد والأكاديمي عبد الحميد ختالة
لا يمكن أن يفصل الأديب بين كتاباته وخياراته الإيديولوجية
يقول الناقد والأكاديمي الدكتور عبد الحميد ختالة: "معلومٌ أنّه لا يمكن أن ينفصل الأدب عن الأيديولوجيا، إذ تبقى اللّغة في وظيفتها الأساس كما عَرَّفَهَا اِبن جنّي بأنّها أداة يُعبِرُ بها كلّ قوم عن أغراضهم، والأيديولوجيا أظهر غرض يتجلّى في الأداء اليوميّ للغة، فالأدب ليس مجرّد حكاية منفصلة أو وصف فني بعيد عن ذات قائله، الأدب في وظيفته الأبرز تعبيرٌ عن رؤية الكاتب للعالم، هذه الرؤية التي هي تكثيفٌ للمُعتقد الدّيني والسّياسي والاِجتماعيّ والثّقافيّ، إذ يُضَمِّنها الأديب نتاجه الأدبي إن على المستوى الموضوعاتي أو الفني أو البنائي لعمله السّرديّ".
مُضيفًا في ذات الفكرة: "قالت العرب قديمًا (كلّ إناءٍ بِمَا فيه يَرشحُ) وهذا الضامن لأنّ تظهر القناعات الأيديولوجية للأديب في أدبه، إذ يرى (سانت بيف) أنّ قيمة الأثر الأدبي فيما ينعكس فيه من قضايا النفس والمُجتمع، بل هذا بالذات ما كان في مرحلة سابقة يعطي للأدب تَمَيزه، إذ يترجم الشعور بالاِنتماء واِلتزام الأديب بقضايا المُجتمع الّذي ينتمي إليه، وأنا أجد أنّ هذا ينخرطُ في صدق العملية الإبداعية وهو كفيلٌ بإبراز هويّة النص".
مُؤكدًا في هذا الاِتجاه، أنّ الأديب لا يمكن أن يفصل بين كتاباته الأدبيّة وبين قناعاته وخياراته الإيديولوجيّة. وهذا ما يُشيرُ به قوله بهذا الخصوص: "إنّ الوعي بالاِنتماء في الأدب يعدّ مركز الفعالية البشرية، وهو النقطة المرجعيّة لكلّ الوجود داخل الأدب وخارجه إذ لا يستقيم أن يفصل الأديب بين كتاباته وخياراته الإيديولوجيّة وقد يستخدم في ذلك اللّغة الاِنزياحية من أجل تمرير رسالته الأيديولوجيّة رغم أنّه لم يكن مُضطرًا أصلاً من البدء إلى أن يخفي ميله الفكري والعقدي والاِجتماعي".
وفي ذات الشأن يُضيف مُستطردًا: "يتفاعل سؤال الأيديولوجيا مع مُختلف الإشعاعات الثّقافيّة التي يرومها الأدب، وهذا الّذي يُناقشهُ اليوم الدرس النقدي وسط جُملة من الهواجس والأفكار التي تتوجسُ خيفةً من مستقبل الفرد في المجتمع المُتعالي الّذي رَضَخَ في الآونة الأخيرة للمصطلح الغريم الّذي هو العولمة، خاصّةً وقد أمسى العالم يعيشُ هذا الاِمّحاء الغريب لحدود المُجتمع الكلاسيكي في المساحات الشّاسعة جدًا للتماهي بين ثقافات كانت إلى وقتٍ قريب يُؤطرها برزخٌ من الخصوصيّة، ولهذا وَجَبَ التركيز على جُملة من العناصر أجدها في مُنتهى الأهمية في حماية الإنسان من التَميع الثّقافيّ، ولعلّ أبرزها تحديد المرجعية الدّينية التي أجدها نقطة اِرتكاز تتبنّاها كلّ الأيديولجيات، بشكلٍ مُعلن مَرّة وبشكلٍ مُتستر في كثير من المرّات". ويضيف مؤكدًا: "نعم، تنبني العولمة على فكرة محو حدود المسافة الهوياتيّة بين الشعوب ولكنها لا يمكن أن تدعو إلى نمطية واحدة للفرد والتفكير والمُعتقد والفن، إذ لا يستقيم أن يسهم الاِنفتاح المعرفي الّذي أوجدته العولمة في تقزيم كينونة الإنسان المبنية على التنوع والتعدّد والاِختلاف، ومنه فليس من العقل الخوف من العولمة كما أنّه ليسَ من العقل أن يفقد الإنسان هويته الثّقافيّة والاِنبطاح في حضرة الآخر، بل الّذي يُمليه منطق الحضارة البشرية هو أن يُحافظ الفرد على مَحلّيته دينيًا وثقافيًا ولغويًا وأيديولوجيًا إحقاقًا لمبدأ التدافع الضامن لاِستمرارية الحياة".
وفي خُلاصه كلامه، اِختتم بقوله: "أجد نفسي مُقتنعًا بأنّ أكبر مُغالطة ناقشها الدرس النقدي هو التخلص من الأيديولوجيا في الأدب، وهي لعمري كمن يُريد أن يفصل الرّوح عن الجسد فلا يجني حينها إلاّ الموات، فلا حياة للأدب إلاّ وهو ينبضُ بقناعاته الأيديولوجية ويُقدمها في طابع تخييلي رمزي يُعبّر عن أنا الأديب الثّقافيّة بكلّ أطيافها".

* الباحث والناقد الأدبي طارق بوحالة
الأدب لا يُمكنه أن يتخفّف نهائيًا من المضمون الإيديولوجي
يعتبر الناقد والأكاديمي الدكتور طارق بوحالة، العلاقة بين الأدب والإيديولوجيا علاقة جدلية، وهي في الوقت نفسه علاقة ضرورية؛ فلا يمكن للأدب باِعتباره شكلاً جماليًا أن يتخفَّفَ من الجوانب الفكريّة والإيديولوجيّة.
مُضيفًا في ذات المفصل: "..ولا بدّ أوّلاً من الإشارة إلى صعوبة ضبط مفهوم دقيق للإيديولوجيا، كما يجب التعامل مع هذا المفهوم عند ربطه بالأدب بعيدًا عن كونها ونقصد (الإيديولوجيا) وعيًا مُزيفًا كما هو في الأدبيات الماركسية المُبكرة. لتعرف بعد ذلك بأنّها نسقٌ من التخيلات والأساطير والأفكار والتصورات ذات الوجود والوظيفة التّاريخيّة والاِجتماعيّة. في مقابل الوظيفة المعرفيّة التي تختصُ بها مجالات أخرى على رأسها العِلم".
الدكتور بوحالة، ذهبَ إلى اِستحضار رأي الناقد المصري محمود أمين العالم الّذي يرى أنّ "الإيديولوجيا لا تظهر في المواقف السّياسيّة والاِجتماعيّة فحسب، بل قد تتجلَّى بشكلٍ أو بآخر في قصة حب، أو في رؤية للطبيعة أو في حكاية أسطوريّة مجرّدة".
بعدها أَردفَ موضحًا: "تتعامل المُقاربة الثّقافيّة مع الأيديولوجيا كونها نظامًا مُتماسكًا من الأفكار والمُعتقدات التي تُساهم في تشكيل الذوات وتُمَوضعها ضمن هويّة ما. وهناك أيضًا من يرى أنّ الإيديولوجيا هي عنصرٌ مركزيّ من عناصر الثّقافة".
وبناءً على ذلك -يُضيف المُتحدّث- فإنّ: "الأدب لا يُمكنه أن يتخفّف نهائيًا من المضمون الإيديولوجي، وهذا لا يعني أنّه يتنازل عن شرطه الجمالي الّذي هو أساس العملية الإبداعيّة. بمعنى إنّ الأدب خطابٌ جماليّ يَملكُ القدرة على تضمين العناصر الإيديولوجية وتذويبها خَلْفَ البناء الفني، ولا بدّ هُنا من التفريق بين الإيديولوجي والمؤدلج؛ فالأوّل عنصرٌ أساسيّ من العناصر التكوينيّة للأدب، بينما الثاني هو أن يتخذ الأديب مواقف خاصّة مُوجهة بهدف خلق مساحة لصراعات سياسيّة ودينيّة وعرقيّة وثقافيّة مِمَّا ينتج الجدل القاتل بدل السجال المُثمر".
ومُستدركًا يواصل: "ومِمَّا يجب الإشارة إليه أنّ العنصرين الجماليّ والإيديولوجيّ ليسَا دائمًا في حوارية جدليّة، بل إنّ هناك بعض التجارب التي تَغَلَّبَ فيها المضمون الإيديولوجيّ على حساب الكفاية الجماليّة، ليجعل النص الأدبي بمثابة وثيقة إيديولوجيّة مُفرغة من شرطها الفني. وقد دَافَع عن هذه الفكرة عددٌ من النُقاد والفلاسفة المُعاصرين. أبرزهم (بيار ماشري) الناقد الفرنسي الّذي خَصَّ كتابه الموسوم بـ: من أجل نظرية في الإنتاج الأدبيّ" حديثًا عن قدرة الأبعاد الإيديولوجية من التخفي خَلْفَ البناء الشكلي للنص الأدبيّ، لهذا فإنّ المُكَوّن الإيديولوجيّ أساسيّ في تشكيل البنيات الفنيّة والجماليّة لهذا النص".
وهُنا –يُضيف ذات المُتحدّث-: "ولكن هذا التشكيل يُحيلُ على العلاقة بين الواقع الاِجتماعي وبين الإيديولوجيا التي تقفُ قاصرةً أمام هذا الواقع، كونها ليست إلاّ رؤية جزئيّة له. حتّى إنّ بعض النُقاد اِعتبروها تمثيلاً مُشوهًا للواقع الاِجتماعي، سرعان ما يُحَوِّلُهُ إلى نوعٍ من الوهم".
في الأخير، اِختتم بقوله: "إنّ التمثل الجماليّ للإيديولوجيّ ليس بالأمر الهين، بل إنّه يَتوّسَلُ بعملية التخييل قَصْدَ إعادة تذويب التناقضات الموجودة في الحياة الاِجتماعيّة، ويتطلبُ وعيًّا حقيقيًّا من قِبل الأديب الّذي يبقى مُطَالَبًا بالاِنتصار إلى قضايا ذات أبعادٍ إنسانيّة وأخلاقيّة، رَغْمَ ما يُواجهه من اِكراهات مُختلفة تُمَارِسُ عليه ضَغْطًا مُستمرًا ينتصر عليه في الأخير بنص أدبي مُلتزم بقضايا وطنه ومجتمعه وإنسانيَّته".

آخر الأخبار

Articles Side Pub-new
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com