
في زمن تتقاطع فيه الشاشات مع الوعي، وتتراجع الحدود المادية أمام جبهات جديدة تُخاض فيها الحروب على الأفكار والقيم والمعاني، يبرز مفهوم الأمن الثقافي بوصفه خط الدفاع الأخير عن هوية الشعوب وذاكرتها الجمعية، فكيف يمكن للثقافة أن تحمي المجتمع من التفكك وسط عواصف الرقمنة والعولمة؟ وما موقع الإعلام في معركة الوعي التي تُدار اليوم بخوارزميات الذكاء الاصطناعي بدل الدبابات؟
هذه الأسئلة كانت جوهر الندوة الفكرية التي احتضنتها قاعة ‹›آسيا جبار››، أمس الأول تحت عنوان ‹›الأمن الثقافي والإعلام.. التحديات المستقبلية››، والتي ناقش فيها أساتذة وباحثون جزائريون وعرب وأفارقة مستقبل الوعي الثقافي في عالم متحول، وكيف يمكن مواجهة ‹الحروب الهجينة› التي تستهدف الإنسان في فكره قبل جسده، وفي هويته قبل حدوده.
في كلمته الافتتاحية، قدم الدكتور أحمد بن سعادة مقاربة تحليلية لمفهوم ‹›الحروب الهجينة›› أو “‹›حروب الجيل الرابع››، موضحا أنها لم تعد تعتمد على السلاح التقليدي، بل تُدار عبر أدوات ناعمة كالإعلام والثقافة والتكنولوجيا والمنظمات غير الحكومية.
وأبرز الأستاذ بن سعادة، أنّ هذه الحروب تمثل «الاستعمار الجديد» الذي يستهدف العقول بدل الأرض، مذكرا بما فصله في كتابه ‹›الجزائر: الحرب الهجينة الكبرى›› حول استخدام شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان كغطاء لتدخلات خارجية تهدف إلى زعزعة استقرار الدول المقاومة للهيمنة الغربية.
وأشار بن سعادة إلى أن ما سُمي بـ››الثورات الملونة›› يُعد أحد تجليات هذه الاستراتيجية، إذ تُدار عبر الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، من خلال الأخبار الزائفة وصناعة الرأي العام، بما يجعل السيطرة على الوعي أكثر فاعلية من السيطرة على الجغرافيا. كما نبه إلى أن الإعلام الرقمي بات ‹›مختبرًا للرأي العام››، تُستخدم فيه تقنيات الذكاء الاصطناعي وخوارزميات الاستهداف لتوجيه المواقف ونشر التضليل، داعيا إلى بناء إعلام وطني سيادي ودعم البحث العلمي في ميدان الاتصال، باعتبارهما خط الدفاع الأول في ‹›معركة الوعي››.
من جانبه، تناول الدكتور العربي بوعمامة مفهوم الأمن الثقافي من زاوية العلاقة بين الهوية والإعلام، مؤكدا أنه ليس شعارا نظريا بل آلية دفاعية تحمي تماسك المجتمع وتمنعه من الانهيار القيمي، مبرزا أن الثقافة تشكل خط الدفاع الأول ضد ‹›الاختراق القيمي›› الذي تفرضه العولمة الرقمية، وأن الوعي الثقافي الأصيل يمنح الشعوب مناعة فكرية في مواجهة التشويه والتزييف.
واعتبر بوعمامة الإعلام الواجهة الأمامية للأمن الثقافي، لما له من دور حاسم في تشكيل الوعي الجماعي، داعيا إلى تأسيس إعلام وطني قوي ومستقل يحافظ على الهوية ويصون اللغة العربية بوصفها الوعاء الحافظ للذات الحضارية.
كما نبه إلى أن الحروب الثقافية الجديدة تُخاض عبر السينما والمحتوى الرقمي الموجّه، الأمر الذي يستوجب سياسات ثقافية متكاملة تدمج التعليم والفنون والإعلام لتربية أجيال واعية بانتمائها دون انغلاق.
في السياق ذاته، قدم الإعلامي، عبد العالي زواغي، رؤية تربط بين الأمن الثقافي والتنمية الوطنية، معتبرا الثقافة عنصرا أساسيا في استقرار الدول، لا ترفا فكريا، موضحا أن الأمن الثقافي يرتكز على أربعة أبعاد: القيمي والهوياتي لحماية اللغة والتراث، المعرفي والتربوي لترسيخ الوعي، الإعلامي والتكنولوجي لتوجيه أدوات التأثير الحديثة، ثم الانفتاح الواعي على الثقافات الأخرى دون المساس بالخصوصية الوطنية.
وبعد أن أشار إلى أن الخطر الحقيقي لم يعد يأتي من الحدود بل من العقول، حذر السيد زواغي، من هشاشة البنى الثقافية الداخلية وغياب المشاريع الفكرية المنتجة، وداعيًا إلى الاستثمار في الثقافة كقطاع تنموي واستراتيجي يواجه الحروب الناعمة ويعزّز المناعة الفكرية للمجتمع.
أما الدكتور محمد خوجة، فاعتبر أن الأمن الثقافي أحد ركائز الأمن الشامل إلى جانب السياسي والاقتصادي، معرفًا إياه بقدرة المجتمع على حماية مقوماته الفكرية والرمزية والدينية من أي اختراق يهدد أصالته، مشددا على أن التربية والإعلام هما الأداتان الأساسيتان لتعزيز هذا الأمن من خلال تكوين وعي نقدي ومناهج تعليمية تُرسّخ الانتماء والاعتزاز بالهوية.
ودعا خوجة إلى صياغة سياسة ثقافية وطنية متكاملة تدعم الإنتاج المحلي وتحافظ على اللغة والذاكرة الجماعية، مشيرا إلى أن قوة الأمم لا تقاس بترسانتها المادية، بل بقدرتها على حماية ذاتها الحضارية في عالم سريع التحوّل.
وشارك في الندوة أيضًا كلّ من الإعلامية المصرية لمياء محمود، التي أبرزت أهمية الإعلام والسياحة في تعزيز الثقافة الوطنية، مشيرة إلى أن شبكات التواصل الاجتماعي أصبحت منافسًا محتملًا لوسائل الإعلام التقليدية، وأن دور الصحافة اليوم هو تحييد الحروب المعرفية من خلال مقاربة إعلامية مسؤولة.
أما الأكاديمي والمستشار الدولي السنغالي مختار سيلا، فحذر من ‹›المحتوى الإعلامي الخبيث›› القادم من الخارج، واقترح وضع استراتيجية منسقة لإنتاج محتوى إفريقي إيجابي يعيد الاعتبار للثقافة والتاريخ الإفريقيين ويواجه حملات التضليل والتشويه، داعيًا إلى إعطاء الأولوية لمؤلفات المبدعين الأفارقة لتعزيز الوعي بالهوية المشتركة.
عبد الحكيم أسابع