
uالكاتـب اِبـن البيئـــــة التـي نشـــأ فيهــــا أوّل مـــرة
يؤكد الكاتب والروائي الخير شوّار، أنّ الرواية صناعة تتطلب المُداومة، مُشيرًا إلى أنّ الكثير من الكُتّاب لا يُواصلون الكتابة إلاّ طمعًا في جائزةٍ ما تُتيحُ لهم تجاوز أزماتهم المعيشية. وقد دفع هذا الواقع بعضهم إلى النشر على حسابهم الخاص، حتى بات بعض «تُجّار النشر» يبيعون الوهم للكُتّاب مقابل طباعة محدودة لا تتجاوز بضع عشرات من النسخ تُرسل غالبًا إلى لجان المسابقات المحلية أو الإقليمية.
حوار: نوّارة لحرش
صاحب «حروف الضباب»، وفي سياق حديثه عن روايته الجديدة «عام الرّهمة» التي تنطلق من أجواء التكنولوجيا ومواقع التواصل، لتنغمس فجأةً وبشكلٍ مُباغت وبمُراوغة سردية في عوالم وأجواء أخرى بعيدة ومُغايرة تمامًا لمدخل الرواية، وهي الأجواء والعوالم العجائبية والغرائبية التي عُرِفَ بها شوّار. كما تحدث أيضًا عن اِستثماره في المرويات الشعبية واستحضارها في كتاباته والاِتكاء عليها وعلى الموروث/التراث الشعبي المحكي. مُؤكدًا في هذا المعطى أنّه ورغم محاولته التنويع في كتاباته إلاّ أنّه لم يستطع بعدُ الخروج من الغرائبية.
الرواية صناعة تتطلب المداومة
على كتابتها ضمن شروط موضوعية غير متوفرة
للأسف الشديد
بعد غياب سنوات. تعود هذه الأيّام برواية جديدة «عام الرّهمة» الصادرة عن دار البرزخ. وهذا ما يُؤكد مرّةً أخرى أنك مُقل في النشر. فهل يعني هذا أنك أيضًا مقل في الكتابة (أقصد الرواية طبعًا)؟
الخير شوّار: بعد صدور روايتي السابقة «ثقوب زرقاء»، مرّت مياهٌ كثيرة من تحت الجسر، كما يقول المثل الإنجليزي الشهير. أصدرتُ مجموعة قصصيّة بعنوان «مغلق أو خارج نطاق التغطية»، ومجموعة نصوص هايكو «مثل صائد عصافير في منام»، وكتاب حوارات بعنوان «إخوة النار»، ثم أنطولوجيا «سلالة شهرزاد». ولم أنقطع عن العمل الصحفي الّذي يستنزفُ مُعظم وقتي بين الكتابة والتحرير. فهل أُعدّ مُقلًّاً في الكتابة؟ ربّما، ولعلّ لي في ذلك عذرًا.
كان يمكن، بعد كلّ هذه السنين، ألا أكتفي بثلاث روايات خلال ما يُقارب الربع قرن منذ صدور «حروف الضباب» عن منشورات الاِختلاف عام 2002. كان بوسعي أن أنشر عملًا جديدًا كلّ عام أو عامين، وأن أتبوأ مكانة أوسع في المشهدين الروائيين المحلي والإقليمي، لكن يبدو أنّني خيّبتُ آمال الكثيرين مِمَن راهنوا على ذلك. أعتقد أنّ الرواية صناعة تتطلب المُداومة على كتابتها ضمن شروط موضوعية غير متوفرة للأسف الشديد. فكثير من الكُتّاب لا يُواصلون الكتابة إلاً طمعًا في جائزةٍ ما تُتيحُ لهم تجاوز أزماتهم المعيشية، وقد دفع هذا الواقع بعضهم إلى النشر على حسابهم الخاص، حتى بات بعض «تجّار النشر» يبيعون الوهم للكُتّاب مقابل طباعة محدودة لا تتجاوز بضع عشرات من النسخ تُرسل غالبًا إلى لجان المسابقات المحلية أو الإقليمية.
وأستثني هُنا بعض دور النشر المُحترمة على غرار «الوطن اليوم» التي قدمت مشروعًا حضاريًا كبيرًا في شكل سلاسل مُتعدّدة من الكُتُب وأبرزت شخصيات ثقافيّة كبيرة طواها النسيان. إنه واقع مؤلم جعلني أكاد أنسحب من المشهد، إلا إذا «كتبني نص»، بتعبير نزار قباني، مثلما حدث لي مؤخرا مع رواية «عام الرهمة» الصادرة عن دار «البرزخ»، إحدى الدور القليلة التي ما تزال تحافظ على مقاييس احترافية عالية في النشر والتوزيع.
لكلّ جائزة أهدافها المُعلَنة وما يُخفى من كواليسها ولا شيء يُمنَح بالمجان
على ذكرك للجوائز. اِسم (الخير شوّار) غائب عن قوائم الجوائز الأدبية وطنيًا وعربيًا. لماذا؟ ألا يهمك أمرها –مثلاً-. أم أنّ مقاييس اِختياراتها تُخطئ بعض الأسماء أحيانًا؟
الخير شوّار: السبب الأوّل لعدم فوزي ببعض الجوائز المحلية والإقليمية هو أنني لم أترشّح إليها أصلاً، إلاّ في حالة نادرة حين أخبرني ناشر أنّه رَشَّحَ عملاً لي مَرةً واحدة لجائزة مشهورة، ولم يظهر للعمل أثر. بعض الجوائز مُغرية من الناحية المادية، وفي لحظات ضُعف إنسانية أقول في نفسي: لو رشّحت هذا العمل أو ذاك فقد يفوز ويُوفّر لي مجالاً أوسع للنشر والاِنتشار وعوائد محترمة تنهي مشكلاتي المادية من الأساس، غير أنّ الإصرار على الترشح لا يعني بالضرورة الفوز، فلكلّ جائزة أهدافها المُعلَنة وما يُخفى من كواليسها، ولا شيء يُمنَح بالمجان.

العوالم العجائبية والغرائبية لا ندخلها من دون أسباب
أو مُقدمات
الرواية تنطلق من أجواء التكنولوجيا ومواقع التواصل. فالفصل الأوّل جاء كمدخل لنص عصري (نص اِبن التكنولوجيا والميديا)، لكن حين يبدأ القارئ في الاِنغماس في الرواية يتفاجأ بدخوله عوالم وأجواء أخرى بعيدة بل مُغايرة تمامًا لمدخل الرواية. هل هي حيلة ذكية لتمسك القارئ إلى آخر النص. أو لتقول له واصل القراءة فهناك الكثير من المتعة في الخيال وفي العوالم العجائبية والغرائبية؟
الخير شوّار: رأيتُ أنّه من غير المعقول أن أُقحم القارئ مُباشرة في أجواء السرد، من دون تبرير لهذا الاِنزياح، لذلك اِخترتُ توظيف تقنية التكنولوجيا الحديثة، ولا سيما مواقع التواصل الاِجتماعي، التي يختلط فيها الواقعي بالاِفتراضي، والحقيقي بالمُزيّف، والصادق بالكاذب، في فضاء تتصارع فيه الأفكار مُحاولةً صياغة مرجعيات فكرية وثقافية مُتباينة، إلى حدّ الفوضى.في خضمّ ذلك، تتقاطع روايتان مُتناقضتان حول أحداثٍ معيّنة وجذورها، ليجد السارد نفسه في النهاية مُستمعًا إلى شهادةٍ تُمثّل وجهة نظرٍ قد تكون خاطئة، لكنها تتولى دفة السّرد، ومن خلالها ندخل تلك الأجواء.أمَّا العوالم العجائبية والغرائبية –كما تفضلتِ بالقول– فلا ندخلها من دون أسباب أو مُقدمات، والتقنية السّرديّة تكتسب هنا أهميةً بالغة، وليس أنسب من التكنولوجيات الجديدة لاِقتحامها.
العمل الروائي في جوهره ليس مجرّد تكديس للأحداث
مدخل الرواية المُباغت في سياق العمل لم يكن مُتوقعًا أن ينتهي بسرعة مُباغتة أيضًا. هل يمكن القول أنك تعمدت هذه المُباغتة أو المُراوغة السّرديّة في هذه الرواية؟
الخير شوّار: أعجبتني عبارة «المُراوغة السردية» التي تفضلتِ بذكرها، فالعمل الروائي، في جوهره، ليس مجرّد تكديس للأحداث، لأنّ الصرامة الزائدة والجدّية المُفرطة قد تؤدي بالقارئ إلى الملل.
وعَطْفًا على السؤال السابق المُتعلّق بالتقنية، أقول إنّ العمل السردي الّذي يُقدَّم بوصفه «رواية» يتّسمُ عادةً بكثرة المنعرجات، وبالصعود والهبوط، خصوصًا مع تعدّد الشخصيات وتنوّع مداركها الثّقافيّة ومستوياتها الفكريّة.
حاولتُ أن أجمع كلّ تلك المُتناقضات في نصٍّ واحد يبدو مُتجانسًا في النهاية، ولأنّكِ وصفتِ ذلك بـ»المُراوغة السردية»، فأحسبُ أني نجحتُ في إيصال الفكرة إلى القارئ المُفترض.
أحاول التنويع في كتاباتي لكنني لم أستطع بعد الخروج من الغرائبية
الرواية تتكئُ على موروث وتراث شعبي محكي، غرائبي وعجائبي في آن. وهي الأجواء التي تُميزُ أغلب أعمالك الروائية والقصصية. هل يمكن القول إنّ هذه الأجواء هي دائمًا الأحب والأقرب إلى اِشتغالاتك وذائقتك وحساسيّتك الأدبيّة؟
الخير شوّار: أحاولُ التنويع في كتاباتي، لكنني لم أستطع بعدُ الخروج من الغرائبية. فعندما تجنبتُ المرويات الشعبية والذاكرة في رواية «ثقوب زرقاء»، وتعمدتُ توظيف شخصية رئيسية هي متشرد فاقد للذاكرة، جاءت الأجواء غرائبية من نوعٍ آخر، كما نبهني كثيرون مِمَن قرأوا النص.
أمّا الاِتكاء على التراث الشعبي، فليس غريبًا عليّ، وأنا اِبن دوّار وُلدتُ فيه، وقضيتُ فيه سنواتي الأولى مُتشربًا الحكايات التي كان يرويها الكبار في مرحلة «طفولة العقل»، حين يختلطُ الذاتي بالموضوعي، وتبيتُ قطعان المواشي في ساحات البيوت حتّى تكاد تُعَدّ أفرادًا من العائلات، وتمتزجُ الخرافات بالوقائع في تناسق عجيب.في تلك السنين، لم نكن نقرأ كُتبًا أو نشاهد التلفاز أو نذهب إلى السينما، بل كُنا نكتفي بالقصص الشعبية التي تحكيها الأمهات في ليالي الشتاء الباردة، وعندما توجهتُ لاحقًا إلى المطالعة، لم أجد أمامي في البيت إلاّ كِتاب «ألف ليلة وليلة» بمجلداته المُتعدّدة، في طبعته اللبنانية القديمة. عندما كبرتُ، وجدتُ نفسي مُنجذبًا إلى النظريات العلمية، خاصةً في مجال الفيزياء الحديثة، فاكتشفتُ عوالم ميكانيكا الكم، والنسبية العامة والخاصة، ونظرية الأوتار الفائقة، والعوالم المُوازية، كلها كُتُبٌ علمية، غير أنّها تفتحُ آفاقًا غامضة تتقاطعُ مع الغيب والخيال، في عوالم لا تختلفُ كثيرًا عن تلك التي قرأتها في «ألف ليلة وليلة» وأنا صغير.
رغم زخم الغرائبية والعجائبية في أحداث وتفاصيل الرواية إلاّ أنها رواية محلية باِمتياز، اِبنة بيئة محلية بشكلٍ كبير جدًا. كيف تنظر لمسألة المحلية في الكتابات الأدبية؟
الخير شوّار: في نهاية المطاف، يظل الكاتب اِبن البيئة التي نشأ فيها أوّل مرة. ولئن جاءت أفكار الرواية الجديدة ثمرة لتراكم قراءات وتجارب عبر السنين في شتى الحقول المعرفية والفكرية، فإنّ إطارها العام اِنبثق من بيئة غارقة في المحلية.
أرى أنّ النفس الإنسانية واحدة في جوهرها مهما اِختلفت الأمكنة والظروف؛ سواء سكنتَ دوّارًا صغيرًا أو قرية نائية، أو مدينة مكتظة، أو برجًا شاهقًا في نيويورك، تبقى هناك قواسم مشتركة تجمع البشر جميعًا. لقد قِيلَ إنّ العالم، مع التطوّر التكنولوجي، أصبح «قرية صغيرة»، لكني أرى أنّه مهما بلغ من تطور ورقي، يظلُ في النهاية مجرّد «دوّار كبير».
أنا مُتصالح مع ذاتي ومع السّياقات التي شكّلت تجربتي
الغرائبية السوداء في الرواية كانت واضحة ولافتة جدًا. كأنها اِنتقامٌ من سياقات واقعية ما بشكلٍ موارب ومُخاتل؟
الخير شوّار: ما كتبتهُ ليس بدافع الاِنتقام، فأنا مُتصالح مع ذاتي ومع السّياقات التي شكّلت تجربتي، إنّها أفكارٌ ووجهات نظر ناتجة عن تراكم قراءات وتجارب وخبرات مُتباينة، أردتُ أن أقدّمها في هذا القالب. وفي النهاية، أعتقد أنّ الروائي، وإن كان عليمًا، فقد ظلّ مُحايدًا في سرده للأحداث، ولم يتدخل تفسيرًا أو توجيهًا ولو مرة واحدة.لقد قَدَّمَ رؤيته لِمَا حدث من تحولات في الدوّار، وبدا طرحه مُقنعًا إلى حدّ بعيد، غير أنّ وجهات نظر أخرى قد تظهر لتُعيد النظر في السّرديّة من أساسها.
في الرواية تتداخل وتتناسل وتتصارع الكثير من السُّلط: (سلطة اللسان، سلطة النفوذ، سلطة المال، سلطة الخيانة والطمع والمصالح. وسلطة التملق والتسلق... وغيرها). كأنّ الرواية كانت أرضًا أو حلبة لهذه الحروب الرمزيّة في سيّاقها السّردي؟
الخير شوّار: الحياة، في جوهرها، صراع أفكارٍ وإرادات. لقد قِيلَ إنّ «الديالكتيك» كان يسيرُ على رأسه مع هيغل، حتى جاء ماركس فأعاده إلى قدميه. وبغضّ النظر عن صدق هذا الطرح أو ذاك، فإني أرى أنّ المنهج الجدلي هو الأقدر على تحليل الظواهر وفهم تحوّلاتها.
ومع «تصارع السُّلَط»، كما تفضلتِ بالقول، نجد أنفسنا في كلّ مرة أمام طريق ثالث لم نكن نعرفُ عنه شيئًا. فعندما تلتقي المُتناقضات، تنشأ منها حالة جديدة، تمامًا كما يلتقي الماء البارد بالنار المُلتهبة فينشأ البُخار من بينهما.
في الرواية منسوبٌ كبير من القسوة والألم والفظاعات النفسية والجسدية والمعنوية الصادمة؟ ككاتب للنص كيف تحملت كلّ هذا. وهل إلى هذه الدرجة يمكن للخيال أن يكون صادمًا ومُؤذيًا في آن؟
الخير شوّار: الحياة قاسية، لا تتوقّف عن صراع الإرادات، عند كلِّ جدلٍ، يتغيّر الواقع من حالٍ إلى حال، والخيال قد يكون صادمًا، لكنه ليس مؤذيًا، لأنه يفتح لنا زوايا نظر مُختلفة قد لا نلحظها في كثير من الأحيان.
تتناولُ الرواية صراعًا مُتواصلاً من أجل البقاء، وفي تلك المعارك الوجودية يصعب على الضعيف أن يُواصل العيش إلاّ إذا غَيَّرَ أسلوب تعامله مع الأشياء والمواقف.
العملية الأدبية كلها تلعب في الفضاء الرمزي
تحضر الأرض في الرواية كتيمة، وبشكلٍ آخر كملاذ مُتنازع عليه. هناك رمزية ما في هذه الجزئية في الرواية. هل تفصح عنها للقارئ؟
الخير شوّار: العملية الأدبية كلها تلعب في الفضاء الرمزي، والأرض، في ثقافتنا، مُرادفة للشرف؛ فمن فَقَدَ أرضه، فَقَدَ عرضه، كما يُقال، لذلك كان النّاس في أوقات الجفاف يُفضّلون سفّ التُراب على بيع شبرٍ واحدٍ من أرضهم، وساكن الدوّار، في النهاية، لا يملك إلاّ بعض الأرض ورؤوسًا من الماشية، قَلَّ عَددها أو كثر.
أمّا من لا يملك هذا ولا ذاك، فَتَحَوّلَ إلى خمّاس أو راعٍ عند الآخرين، ويُقال في المثل الشعبي: «تهاوش الراعي والخمّاس على شَيْ النّاس.»
أحاولُ الغوص في النفس الإنسانية ضمن سياقها التّاريخي من دون إسقاط
إلى أي حدّ يمكن للكاتب أن يُوَفَّق في اِستحضار واِستثمار وتحيين الأسطورة والتُراث والمرويات في رواياته وأحداثها وإسقاطها على الراهن؟
الخير شوّار: «التاريخ يكون تراجيديًا في البداية وعندما يُعيد نفسه يتحوّل إلى كوميديا»، كما قال أحد الفلاسفة.. أحاولُ الغوص في النفس الإنسانية ضمن سياقها التّاريخي، من غير أن أُسقِط ذلك على واقعٍ بعينه، وللقارئ حريةُ التأويل والإسقاط في إطار الفِعل الأدبي، بعيدًا عن أي تجسيدٍ واقعي.
إذَا رأى في النص إسقاطًا على الواقع، فذلك يعني أنّ العملية الإبداعية قد نجحت، حين يتحوّل التراجيدي إلى كوميدي أو العكس.
ماذا بعد «عام الرّهمة»؟
الخير شوّار: بعد «عام الرّهمة» تأتي «أعوام الصابة والخير» إن شاء الله (يضحك).
ن.ل