يكشف الباحث الجزائري في مجالات التكنولوجيات الحيوية بجامعة ساوثهامبتون بالمملكة المتحدة، البروفيسور صالح إلياس، في هذا الحوار مع النصر، عن رغبته في العودة إلى الوطن من أجل نقل الخبرات التي اكتسبها في الخارج والمساهمة في تنمية البلاد، حيث أكد أنه يعتبر نفسه دائما من ثمار الجامعة الجزائرية، رغم ما حققه من إنجازات علمية واكتشافات في جامعات فرنسا وبريطانيا، كما يبرز أن العديد من الباحثين الجزائريين المتميزين في الخارج يتشاركون الرغبة في العودة إلى الوطن. النصر التقت بالباحث خلال التظاهرة العلمية المنظمة بمركز البحث في البيوتكنولوجيا بقسنطينة، حيث نظمت ضمن مبادرة “جسور قسنطينة العلمية”، في وقت يوطد فيه المتحدث ضرورة تطوير مجالات البيوتكنولوجيا، مشددا على أن الطلبة الجزائريين متفوقون في الرياضيات والإعلام الآلي.
النصر: حدثنا عن مشاركتك في الفعالية المنظمة من قبل مركز البحث في البيوتكنولوجيا بقسنطينة.
uالبروفيسور صالح إلياس: قبل كل شيء، أشارك هنا ضمن مبادرة «جسور قسنطينة العلمية»، التي شرعنا فيها منذ أكتوبر من عام 2024، بينما بدأ المشروع منذ عام من قبل ذلك، بعدما تواصلت معي الدكتورة فاطمة صخري وعرضت علي المبادرة التي تستهدف تلقين الطلبة التفكير العلمي. تزامن العرض مع مسعاي في ذلك الوقت من أجل ربط الاتصال مع المجتمع العلمي في الجزائر، فسعدت إذ تقدمت إليّ الباحثة صخري بنفسها قبل أن أتجه إليها. هكذا انطلق المشروع.
النصر: كيف كان تجاوب العلماء الآخرين الذين دعوتهم للمشاركة في المبادرة؟
uالبروفيسور صالح إلياس: تواصلت مع العلماء ضمن محيط علاقاتي في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وبلجيكا وعرضت عليهم المشاركة في سلسلة المحاضرات العلمية التي أطلقناها ضمن المبادرة، ودعوتهم للحديث من خلالها عن أبحاثهم العلمية والتقنيات والتكنولوجيات التي ينتهجونها في المختبرات التي يشتغلون على مستواها من أجل تلقين الطلبة المنتمين لمركز البحث في البيوتكنولوجيا بقسنطينة تعليما تقنيا، كما أنني كنت على علم بأن المركز يضم طلبة من مختلف مناطق الوطن، وبذلك نظمنا سلسلة المحاضرات المرئية، بمعدل ساعتين لكل محاضرة، حيث يتحدث المحاضر عن أبحاثه العلمية في الساعة الأولى، بينما تخصص الساعة الثانية للحديث عن واحدة أو اثنتين من التقنيات التي يعتمد عليها في المختبر.
لقد كان الأمر الرائع أن العلماء الذين دعوناهم وافقوا على منح البروتوكولات الخاصة بالتقنيات التي يعرضونها في سلسلة المحاضرات، أي الطرق المفصلة لاستغلالها، بما يسمح بتطبيقها على مستوى المركز. لقد برمجنا 10 محاضرات، بمعدل محاضرة في الشهر بعد صلاة الجمعة.
النصر: لقد قطعت مسارا ثريا في مجال البحث العلمي في الخارج. هل فكرت، أو تفكر حاليا، في العودة إلى الجزائر لنقل الخبرات التي اكتسبتها، خصوصا مع تسجيل عودة كثير من الباحثين؟
uالبروفيسور صالح إلياس: أفكر كل يوم في العودة إلى الجزائر، لكن ما نعمل عليه في الوقت الحالي يعتبر تحضيرا لأرضية تسمح للباحثين بالعودة، فأنا لا أرغب في العودة لأُملي على الجزائريين ما يجب عليهم فعله وفق ما أبتغيه أنا، وإنما ينبغي أن تكون هناك إستراتيجية ورؤية ترتسم ضمنها الحاجة المحددة إلينا كباحثين جزائريين في الخارج. ولست الوحيد الذي يمكنه أن يعود إلى بلده الجزائر، بل هناك كثيرون غيري يمكن أن يعودوا، لكن يجب أن يخبرونا: أين يحتاجون إلينا؟
ولذلك، نحن نحضر الأرضية لهذه العودة من خلال مبادرة «جسور قسنطينة العلمية» التي دعونا فيها منظمة «غيت جينوم» GetGenome التي يديرها البروفيسور سفيان كمون، وهو باحث تونسي لامع في الخارج، وأخذ يطلق مبادرات مماثلة في تونس، ثم وسعها إلى بلدان أخرى بإفريقيا، كما أنه وافق بصدر رحب على المشاركة في المبادرة والحضور إلى الجزائر.
النصر: ما تقييمك للبحث العلمي في الجزائر، على الأقل في مجال التكنولوجيات الحيوية؟
uالبروفيسور صالح إلياس: هناك إرادة سياسية، وفي مجال التكنولوجيات الحيوية، أرى أن هناك كفاءات وقدرات كبيرة في الجزائر، فالطلبة الجزائريون متفوقون جدا في الرياضيات والإعلام الآلي، في وقت تعتمد فيه التكنولوجيات الحيوية والمعلوماتية الحيوية، إلى جانب الذكاء الاصطناعي على البرمجة بشكل كبير، وهذا ما يتفوق فيه الطلبة الجزائريون كثيرا.
وتنعكس الإرادة السياسية في إنشاء المدرسة الوطنية العليا للذكاء الاصطناعي، ما يمثل دليلا دامغا على الإستراتيجية السياسية للاستثمار في التكنولوجيات الجديدة والتكنولوجيا الحيوية، واليوم؛ تتطلب الأبحاث عالية المستوى إشراك كفاءات متنوعة ومختلفة، أي البحث متعدد التخصصات.
النصر: هل ترى أن هناك حاجة ملحة بالنسبة للجزائر، وبلدان العالم العربي وإفريقيا عموما، من أجل تطوير مجالات التكنولوجيا الحيوية؟
uالبروفيسور صالح إلياس: بكل تأكيد. إنها أكبر من حاجة اليوم، بل هي استثمار إستراتيجي، فالذكاء الاصطناعي على سبيل المثال مجال في طور النمو، وبدأ في السنوات السابقة، بينما استوعب الباحثون اليوم أن الذكاء الاصطناعي يمكن توظيفه في مجالات مختلفة، مثل التكنولوجيات الحيوية والهندسة الحيوية، لذلك يمكن أن تكون الجزائر من بين البلدان الرائدة في هذا المجال. إن عالم الغد مرهون بالتكنولوجيات الحديثة والذكاء الاصطناعي والبحث المتعدد التخصصات.
النصر: ننتقل إلى مسيرتك الآن. هل بدأت من الجزائر؟
uالبروفيسور صالح إلياس: نعم. فأنا ابن مدينة تيزي وزو، وبدأت دراسة تخصص الطب في جامعة مولود معمري بتيزي وزّو بداية سنوات الألفينات، حيث كنت أحب الطب، لكنني كنت أميل بشكل أكبر إلى البحث العلمي، لذلك سافرت إلى فرنسا في 2001 من أجل دراسة علم الأحياء، ثم انتقلت إلى جامعة روان Rouen في منطقة نورماندي، أين أتممت مسار الدكتوراه في علم الأعصاب. كنت في تلك الفترة أود الاشتغال على مزيد من البحث العلمي في مجال علوم الأعصاب، لكن بعد انتقالي إلى معهد كوري Institut Curie في باريس، اقتُرح علي العمل في الأبحاث التي تدرس بروتين هنتنغتين Huntingtine protein [الوارد في مرض هنتنغتون Huntington Desease]، فأجرينا الأبحاث عليه في مجال سرطان الثدي. في هذه المرحلة قررت تغيير وجهتي البحثية بشكل كامل إلى العمل على سرطان الثدي.
قبل ذلك، عملت كباحث ما بعد دكتوراه في جامعة أكسفورد بالمملكة المتحدة، ثم واصلت البحث حول الخلايا الظهارية للثدي، ثم اشتغلت على سرطان الثدي، ومساهمة الخلايا الظهارية في ظهور المرض. بعد هذه المرحلة، توجهت إلى جامعة ساوثهامبتون Southampton في المملكة المتحدة، التي أسست فيها مختبري، الذي نشتغل فيه على سرطان الثدي، حيث نحاول فهم الكيفية التي تبني بها الخلايا الظهارية الثدي، لأن سرطان الثدي مشكلة تطورية. إن فهمنا لطريقة عمل الخلايا بشكل طبيعي سيسمح لنا بفهم ما يحدث عندما لا تعمل بشكل طبيعي، ونحن نعتمد كثيرا على التصوير بالأشعة في عملنا والذكاء الاصطناعي، فضلا عن اعتمادنا المكثف على الرياضيات من أجل نمذجة بعض العمليات، وهكذا يكون البحث المتعدد التخصصات لفهم آليات سرطان الثدي.
النصر: ما هو أكبر اكتشاف علمي حققته خلال مسارك، سواء من قبل أو حاليا؟
uالبروفيسور صالح إلياس: أكبر اكتشاف علمي حققته وترك في نفسي انطباعا عميقا، حدث عندما كنت طالبا أعد أطروحتي في فرنسا، حيث كنت أعمل على حويصلات صغيرة Vesicles تحتوي على البروتينات، وتنتقل فيما بعد إلى سطح الخلية حتى تقوم الخلية بعملية الإفراز الخلوي للبروتينات Exocytosis. في ذلك البحث، اشتغلت على خلايا لا تتضمن هذه الحويصلات، فقمت بإقحام بروتين، تمكن من توليد هذه الحويصلات، فتحولت الخلية عديمة الحويصلة، أي دون وظيفة إفرازية، إلى خلية يمكنها أن تؤدي عملية متكاملة الوظائف لتوليد هذه الحويصلات لتفرز بذلك البروتينات. كان هذا أول اكتشاف مثير في مساري العلمي، وقد شعرت بسعادة غامرة حينها.
النصر: هل تحوز براءات اختراع؟
uالبروفيسور صالح إلياس: لا أحوز براءات اختراع، لكن لدي كثير من المنشورات العلمية، ففي مجالي يكون توجهنا إلى النشر العلمي بشكل أكبر. ولقد نشرنا مقالات في دوريات علمية مرموقة دوليا في مجالات الخلايا الجذعية وعلم الأحياء الخلوي وعلم الأحياء التطوري والسرطانات بشكل عام.
النصر: هل تعتبر نفسك ثمرة الجامعة الجزائرية؟
uالبروفيسور صالح إلياس: طبعا، ولهذا يجب علينا أن نؤمن بقدرات الطلبة الجزائريين. ورسالتي لهم أن يؤمنوا بقدراتهم ويشقوا طريقهم بأنفسهم، فنحن في عصر أصبحت فيه المعرفة متاحة، لذلك يمكنهم الوصول إلى كل المعرفة التي يريدونها عبر الفضاء الافتراضي. يجب أن يتحلوا بروح المبادرة ويغتنموا هذه الفرصة، وألا يؤمنوا بالقيود. إن الإيمان بالقدرات سيتيح لهم تحرير مواهبهم وطاقاتهم.
س.ح
سيرة البروفيسور صالح إلياس
أجرى البروفيسور صالح إلياس دراسته لنيل الدكتوراه في علوم الأعصاب بجامعة روان، فرنسا، حيث بحث في آليات تكوّن الحويصلات الإفرازية ونقلها داخل الخلية. خلال أول عمل له في مرحلة ما بعد الدكتوراه، في مختبر الدكتورة ساندرين هومبير Sandrine Humbert بمعهد كوري بفرنسا، أظهر أن بروتيني هنتنغتين Huntingtine وكينيسين-1 Kinesin-1 ينظّمان توجّه المغزل الانقسامي والاستقطاب القِممي (apical polarity) في الخلايا الظهارية الثديوية، أثناء التطور والحفاظ على التوازن النسيجي.
انتقل لاحقًا إلى مختبر البروفيسورة إليزابيث روبرتسون Elizabeth Robertson في كلية دَن Dunn لعلوم الأمراض بجامعة أوكسفورد ببريطانيا، حيث تمكّن من تحديد نوع جديد من الخلايا الجذعية الظهارية في الغدة الثديوية، تُعبّر عن الجين Blimp1، وتُساهم في تشكّل الغدة والحفاظ على توازنها. في عام 2017، عُيّن البروفيسور إلياس محاضرًا في كلية العلوم البيولوجية بجامعة ساوثهامبتون. وفي عام 2018، حصل على منحة الباحث الجديد من مجلس البحوث الطبية البريطاني (MRC New Investigator Research Grant)، وجائزة التمويل التمهيدي من مؤسسة Wellcome Trust Seed Award، وذلك لتأسيس مختبره الخاص، الذي يهدف إلى اكتشاف آليات الانقسام الخلوي الموجّه (Oriented Cell Division) داخل النسيج الظهاري السليم للغدة الثديية، لفهم العيوب الخلوية التي تميّز خلايا سرطان الثدي.