أجمع أساتذة وباحثون، أمس بوهران، على أن الجزائر رائدة دوليا وتاريخيا في ترسيخ قيم ومساعي لم الشمل، و تطرقوا لعدة نماذج وأمثلة موثقة تاريخيا تعكس صور المبادئ السامية للسلام بين الشعوب عبر العصور كان رجال الجزائر ونساؤها أبطالا لها، أبرزها ما قام به الأمير عبد القادر الجزائري مؤسس مفهوم “إنسانية المجتمع الجزائري لدى الآخر”.
تزامنا و الاحتفال بالطبعة السادسة لليوم الدولي للعيش معا في سلام، نظمت أمس بوهران ندوة وطنية علمية “العيش معا بسلام والتراث”، بمقر مركز البحث في الأنثروبولوجيا الثقافية والاجتماعية “كراسك”، والتي تمحورت حول أهم المسالك المرتبطة بالتراث الجزائري و علاقتها بقيم التسامح و الجمع بين الخطاب والممارسات المجتمعية وما ينتج عنها من قيم العيش المشترك والسلام.
و أوضح الأستاذ حبيب بريك الله المختص في التاريخ والمخطوطات بالمركز الجامعي بتندوف، أنه لا يختلف اثنان على أن الأمير عبد القادر الجزائري إنساني في دفع الضرر وجلب المنفعة للمسلمين والمسيحيين والأجناس الأخرى دون تفريق ولا تمييز وهذا لأخلاقه الرفيعة التي اتصف بها، مضيفا أنه من مثال أزمة دمشق أسس الأمير لمفهوم “إنسانية المجتمع الجزائري لدى الآخر”، وهي القيم التي رضعها من ثدي “لالة الزهرة” والدته التي لها عدة مواقف في إسعاف الجرحى أثناء المعارك دون تمييز وغيرها من المواقف التي يذكرها التاريخ، منها أن 100 جندي فرنسي أسلم بفضل معاملتها لهم.
وأضاف المتدخل، أن الأمير عبد القادر بنزعته الإنسانية وإيمانه العميق بالتعايش مع الغير ونبذ التفرقة والكراهية وإرساء التسامح، كتب “...لو استمع إلي المسلمون والمسيحيون لكنت قد قضيت على تناحرهم و لجعلت منهم إخوة في الخارج والداخل”، وعرج الأستاذ بريك الله على أن المظاهر التي ألصقت ولازالت تلصق بالدين الإسلامي بغير حق هي شواهد الفكر المتخلف، وأن الجميع يعلم اليوم أن الجزائر رائدة للم الشمل والسلام والتسامح، فهي من بادرت بترسيخ “العيش معا في سلام” دوليا.
الأمير عبد القادر أول من انتهج مسعى حقوق الإنسان
كما أكد الأستاذ عصام طوالبي مختص في القانون من جامعة الجزائر، في مداخلته بعنوان “ثقافة السلام وحقوق الإنسان في التراث الجزائري”، أن أول من انتهج مسعى حقوق الإنسان بمفهومه الحديث هو الأمير عبد القادر الجزائري، مبرزا حدث تدخله في أزمة صيف 1860 في دمشق السورية حين أنقذ أكثر من 12 ألف نصراني، حيث قال الأمير في تلك الأزمة، إنه قام بهذا التدخل لأنه واجب فرضته الشريعة الإسلامية وحقوق الإنسانية، كما أن هذا المفهوم موجود في مخطوط الشيخ سيدي أحمد ابن مصطفى العلوي المستغانمي الذي قدم 10 إجابات على أسئلة الصحفي الفرنسي “طابي” الذي أسلم بعدها وأصبح يسمى “عبد الرحمان طابي”، بعد أن قدم الشيخ العلوي إجابات من القرآن حول هذه العلاقة التي يمكن إدراجها في المفاهيم الحالية للعيش معا بسلام وحقوق الإنسان، وذكر المتدخل بعضها وأساسا حرية المعتقد والحرية الدينية بصفة عامة.  
“العيش معا بسلام” جاء ليصحح “انحرافات” العولمة
ومن جهته، قال مولاي إدريس بن تونس الأمين العام للمؤسسة المتوسطية للتنمية المستدامة “جنة العارف” التي هي فرع من الزاوية العلوية بمستغانم، أن مثل هذه الندوات العلمية الفكرية هي فرصة للم شمل النخب الوطنية نحو ما يعزز التلاحم الوطني والإنساني، مؤكدا أن العيش معا في سلام يبدأ من ذواتنا لأنه في جوهره هو تصالح مع الذات والتراث ثم التفتح على الآخر، مضيفا أن القيم التي يحملها اليوم الدولي للعيش معا في سلام تدعو لإمعان النظر في الفلسفة التي يرتكز عليها، فيمكن القول، وفق المتحدث، أن هذا المفهوم “العيش معا في سلام” جاء ليصحح “انحرافات” برزت في سياق العولمة التي بسطت هيمنتها على المشهد العالمي ونجم عنه عدة بؤر توتر والإقصاء والتهميش والازدراء.
و قال ذات المتحدث أن اليوم الدولي للعيش معا بسلام الذي بادرت به الجزائر منذ 2014، جاء ليقول للعالم “إننا مختلفون” ولكن كيف يمكن أن نلتقي ونجتمع دون أن يذوب أحد في هوية وثقافة الآخر، وكيف نجعل من تنوع ثقافتنا ثراء للعطاء الإنساني والفكري، فالتراث الوطني الجزائري في أصله متنوع و واسع على امتداد جغرافية البلاد، يضيف المتدخل، الذي دعا في الوقت نفسه للتفكير في كيفية انخراط كل الفاعلين في مستويات مختلفة و باختلاف تخصصاتهم، في المسعى الذي يعيد للشباب الحالي وللأجيال القادمة حلقة الوصل مع معالمهم ومرجعياتهم، فالتراث الحي، حسب ما أكده، هو الذي حصن ساكنة هذه الجغرافية عبر العصور من الذوبان والاستلاب و الاستغراب وأيضا من الاضمحلال.وأفاد الأستاذ يوسف لعجيلات مختص في التصوف من جامعة معسكر، أن للجزائر مواقف تاريخية في لم الشمل والتي جسدها شيوخ الطريقة التيجانية المنتشرة عالميا، وسرد المتدخل نماذج من الأحداث التي عاشها بعض شيوخ التيجانية الذين كانت ردود أفعالهم جامعة للشمل و زارعة لقيم السلم والتسامح.بينما تطرقت الباحثة في تاريخ الجزائر الحديث والمعاصر مولاي حليمة، بأنه خلال الفترة الاستعمارية ظهرت التفرقة داخل المجتمع وتفكيكه، وهذا من بين سياسات المستعمر التي ذهبت لتقسيم الجزائريين تقسيما عرقيا إثنيا، وقالت أن البعض في مخيالهم الشعبي يعتقدون أن هناك عداء لليهود من طرف الجزائريين ولكن هذا غير صحيح بل هناك عداء لمن تمسكوا بمواقف عدائية ضد الجزائريين، فالتعايش، كما قالت، “لا يعني أنني أقبل معاداتك، بل يجب أن يكون القبول من الطرفين”.
وقالت الأستاذة أسماء شاوش من كلية الإعلام بجامعة الجزائر، أن دور الإعلام دور مهم و فعال في النشر و الترويج لهذا النمط الثقافي، أي التعايش السلمي الذي هو من أسمى القضايا التي تهم المجتمعات لما تحمله من قيم عليا أساسها الاحترام المتبادل وقبول الآخر، مؤكدة أنها من خلال مداخلتها حاولت تسليط الضوء على تعزيز ونشر وغرس ثقافة التعايش السلمي بين الأفراد مع ضرورة تبني وتشجيع هذه الظاهرة ونبذ التطرف والعنف من خلال نشر التوعية في المجتمع والعمل على تعزيز قيم التعايش عبر وسائل الاعلام.
بن ودان خيرة

الرجوع إلى الأعلى