قد لا يختلف اثنان حول التداعيات العديدة التي سيُسفر عنها «كورونا» على مختلف الأصعدة، لاسيما الاقتصادية منها والجيوسياسية، نظرا للركود العميق الذي تعيشه اليوم مختلف اقتصادات العالم، بصرف النظر عن التوترات التي حصلت على مستوى العلاقات السياسية والدبلوماسية بين العديد من الدول، مما أدّى بالبعض الى الحديث عن منعرج حادّ سيُفضي لا محالة الى قطيعة عنيفة بين عالمين مختلفين، عالم ما قبل كورونا وعالم ما بعده. أما على الصعيد الاجتماعي فقد توقّع العديد من علماء الاجتماع و الخبراء في مختلف حقول العلوم الإنسانية و الاجتماعية إمكانية حدوث بعض التغيرات التي ستطال العلاقات الاجتماعية، العادات، أنماط الحياة، السلوك و التفكير و وظائف بعض الأنساق
و النظم الاجتماعية، خاصة بعدما اتجهت معظم دول العالم إلى فرض ما يسمى بقرار «حظر التجوال» سواء الكلّي أو الجزئي، باعتباره الاستراتيجية الأنجع حاليا لتطويق انتشار هذا الوباء، في مقابل العجز أو التباطؤ الذي عرفه العلم في اكتشاف و تطوير لقاحات أو بروتوكولات علاجية مُجدية لمواجهة هذا الفيروس.
 فعلا، لقد أدى الحجر المنزلي الى تحولات عميقة مسّت أنماط حياة الناس وعلاقاتهم الاجتماعية، حين وجدوا أنفسهم لأول مرة مضطرين للمكوث بين أربعة جذران، في عزلة شبه تامة عن العالم الخارجي، بعدما فرض عليهم «كورونا» طريقة عيش جديدة خالية من أي احتكاك مع الآخرين خارج نطاق الأسرة، هذه الأخيرة التي استعادت مجدها المفقود لزمن طويل على إثر حركة التحضّر الواسعة التي طالت مختلف المجتمعات الإنسانية، حين اجتمع شمل أفرادها تحت سقف واحد، ناهيك عن استرجاعها لبعض أدوارها و وظائفها التي شارفت على الأفول في عصر التمدّن الحديث.
 لكن، و بما أن لأي وباء دورة حياة تبدأ عادة بظهور بؤرة يصل فيها التفشي إلى مستوى الذروة، يعقبه انحسار يتواصل حتى التلاشي، فهل ستعود المجتمعات الى أنماط حياتها المعتادة بعد رفع الحظر عن التجوال و انتهاء كورونا؟ أم سيُعيد هذا الأخير صياغة علاقاتنا الاجتماعية و الأسرية و بلورة طرق و أنماط جديدة في التفكير و النظر إلى الحياة الاجتماعية؟ إن محاولة الإجابة عن هذه التساؤلات -ولو أنها قد تبدو سابقة لأوانها نوعاً ما- تدفعنا الى استعراض أهم عوامل التغير الاجتماعي عبر التاريخ، والتأمّل في مختلف محطات تحوّل المجتمعات البشرية على مرّ العصور، مما سيسوقنا مرة أخرى الى طرح التساؤل التالي: هل كان للأوبئة التي شهدها العالم عبر التاريخ دورا في التغيّر الاجتماعي للمجتمعات الانسانية؟ أو بتعبير فيه شيء من المبالغة: هل أحدثت الأوبئة التي عرفتها البشرية عبر الماضي صدعاً بين مجتمعين مختلفين، مجتمع ما قبل الوباء و مجتمع ما بعده؟ إن الإجابة عن هذه المسألة تبدو شائكة نوعاً ما، نظرا لأن الدراسات و الأعمال السوسيولوجية عموما كانت مجحفة في حق الأوبئة و ما يمكن أن ينجُم عنها من انعكاسات اجتماعية و سيكولوجية على حياة الأفراد و المجتمعات، إلّا أن ذلك لا يمنعنا من الإقرار بدور الأوبئة في ذلك، و لو أن انعكاساتها على الجوانب الديموغرافية و الاقتصادية و حتى السياسية كانت أشدّ وخامة مقارنة بالنواحي الاجتماعية، هذه الأخيرة التي قد لا يعدو تأثّرها بالأوبئة عن كونه مجرّد تأثّر «ظرفي» يتزامن فحسب و مرحلة انتشارها، أي أن أنماط حياة الناس ستتغيّر بصفة مؤقتة فقط نتيجة القيود المفروضة على تحرّكاتهم  و توقّف العمل و تعليق مختلف أشكال الحياة، مما قد يُسفر عن بعض الاضطرابات في أنماط العيش، فتطفو على السطح بعض الظواهر و المشكلات الاجتماعية و النفسية أثناء تلك الفترة، ثم تبدأ الحياة الاجتماعية في العودة تدريجيا إلى سابق عهدها و آنف طبيعتها بمجرد استتباب الوضع و انجلاء الأزمة.
 و عليه فإن القول بأن «كورونا» سيرسم نقطة فاصلة بين مجتمعين مختلفين قد يكون فيه قدر كبير من المغالاة، و لو رجعنا فقط إلى تاريخ تغيّر المجتمعات لاكتشفنا أنه توجد عوامل أخرى أكثر قوة و حسما من حيث قدرتها على إحداث تغيرات نوعية إن لم نقل جذرية في أنماط الحياة و العلاقات، و حتى العادات، التقاليد و المعايير الاجتماعية، و التي من أبرزها «العامل التكنولوجي»، إن لم نقل أبرزها على الإطلاق، هذا الأخير الذي لطالما تحكّم بقوى التغيرّ عبر العصور، مما جعل العديد من رواد نظرية الحتمية التكنولوجية في التغيّر، على غرار Lewis Henry Morgan يعتبرون التكنولوجيا أهم و أقوى عامل في عملية التغير الاجتماعي دون منازع، و أن كل مرحلة من مراحل تغيّر المجتمع الإنساني كانت مرتبطة دائما باختراع مادي جديد. و بالفعل، لو استعرضنا مختلف مراحل تغير المجتمعات عبر التاريخ، لوجدنا أن الوسيلة التكنولوجية كانت دائما تعد العامل الأساسي لتحوّلها و انتقالها بين الحِقب التاريخية، انطلاقا من العصر الحجري القديم، بعد اكتشاف الانسان لتقنيات استغلال الأرض و تدجين الحيوانات، مما أدى الى انتقال المجتمع الانساني إلى ما يسمى بـــــ «العصر الحجري الجديد»، مرورا بابتكار الانسان للتكنولوجيا الخاصة بالتّعدين، الأمر الذي سمح بالتحوّل الى «العصور المعدنية»، وصولا إلى اختراع الآلة البخارية على يد  james watt منتصف القرن الثامن عشر، مما قفز بالعالم إلى «عصر الصناعة»، ثم توالت بعد ذلك الابتكارات التكنولوجية في شتى المجالات و انتشرت بسرعة فائقة، خاصة في مجال الإلكترونيات ثم المعلوماتية و الاتصالات، مما أدى إلى حلول عصر جديد لُقّب بـــــ «عصر المعلومات»، هذا الأخير الذي عُكست في ظلّه كل المفاهيم الحضارية و قُلبت في كنفه جميع الموازين السوسيو-ثقافية. و اليوم، حتى في عِزّ وجود «كورونا» تُواصل المعلوماتية إحكام قبضتها على أنماط حياة الأفراد و علاقاتهم الاجتماعية و الأسرية في عقر منازلهم التي أجبروا على البقاء بين أسوارها، حين برزت الحاجة إلى شبكة الانترنت بشكل لم نشهد له مثيلاً من قبل، بعدما غدت ملاذهم الوحيد للتنفيس عن روتين الحجر المنزلي المفروض عليهم حتى أجل غير معلوم، مما أدى إلى ارتفاع رهيب في نسب استخدام الانترنت وكذا تصفّح مواقع التواصل الاجتماعي و الاشتراك فيها خلال هذه الآونة، الأمر الذي قد يُفضي لاحقا إلى ارتفاع نسب الإدمان على الانترنت و استخدام الوسائط الاتصالية الحديثة، و ما قد ينجم عن ذلك من انعكاسات سلبية على الأسرة عموما و على التوافق النفسي، الاجتماعي، الدراسي و المهني للأفراد.
فضلا عن لجوء العديد من المؤسسات إلى طُرق العمل عن بعد، لاسيما قطاع التعليم، مما سيعزّز لاحقا من حتمية و هيمنة التكنولوجيا على أشكال الحياة الجديدة و المستقبلية في ظلّ هذا المجتمع المعلوماتي الذي فرض على الانسان صعوبة الانتماء إليه دون التحكم بأدواته المعلوماتية و الاتصالية التي تربطه بالمجتمع و تجعله عضوا فاعلا فيه دون ضرورة الارتباط بحيّز فيزيقي معين. و كأن «كورونا» لم يفتأ اليوم يؤكّد للعالم أن القوة التي لطالما تحكّمت و ما زالت تتحكّم في زمام عملية التغير الاجتماعي تتمثل في «التكنولوجيا»، لاسيما تكنولوجيات المعلومات و الاتصالات الحديثة NTIC، هذه القوة التي من المستبعد أن تتخلى عن شراهتها و أنانيتها في الاستحواذ والسيطرة على أنماط حياة الأفراد و الأسر و على عملية التغير الاجتماعي لمختلف المجتمعات مهما كان نوعها.
و على الرغم من ذلك، من المتوقّع أن تطرأ على مجتمع ما بعد «كورونا» بعض التحولات الكمية في نسب و معدلات انتشار بعض الظواهر الاجتماعية بمختلف المجتمعات عبر العالم، نتيجة التداعيات المختلفة لهذه الأزمة الصحية، خاصة الاقتصادية منها، على غرار انتشار البطالة، بعد احتمالية فقدان أعداد كبيرة من الأشخاص لوظائفهم حسب العديد من الخبراء الاقتصاديين، مما قد يؤدي الى تفاقم بعض المشكلات الاجتماعية و إلى زيادات في نسب انتشار بعض الظواهر المرضيّة التي قد تهدّد أمن و سلامة الأفراد، الأسر و المجتمعات، كالتفكّك الأسري بنوعيه المادي و المعنوي، العنف بشتى أشكاله، الانحراف و الجريمة بمختلف أنواعها.
 من جهة أخرى، من المحتمل أن تتعرض بعض حركات التغييـــر السياسي الى نوع من التلكّؤ و الفتور لاسيما إذا طالت مدة الأزمة، فضلا عن إمكانية فقدانها لتعبئتها الشعبية و تراجع حماستها و اندفاعها، خاصة إذا أظهرت الحكومات جهودا جادّة في تسيير هذه الأزمة و الوقوف مع مواطنيها جنبا إلى جنب من أجل التذليل من وطأة الوضع عليهم، من خلال مختلف الإجراءات التسهيلية المتاحة لفائدتهم في شتى المجالات، الأمر الذي قد يُسهم في تهادُن و اصطلاح الشعب مع الدولة، هذه الأخيرة التي سيكون من الصعب عليها بالمقابل أن تتخلى عن سلطتها الجديدة بعد انتهاء الأزمة.

الرجوع إلى الأعلى