«أعرف طعم الفقر جيّدا، فقد عشت فيه جلّ حياتي، في صغري كنت أبيت وإخوتي في غرفة واحدة لا تلفاز فيها، وكانت والدتي تسرد علينا القصص لإمتاعنا وتسليتنا ولم تتوقع حينها أنّها بصنيعها هذا تثير ملكة الخيال لدي وتنميها، كم كانت حياتنا جميلة آنذاك، لحظة واحدة منها بثقل كنوز الدنيا ما فيها، كلّ شيء في ماضينا رائع طفولتنا ألعابنا ومدارسنا، حتى ناس البليدة في تلك الفترة كانوا مختلفين عن الآن كانوا ذواقين للفن وذوي حسّ جمالي، كانوا أغنياء بثقافتهم وأخلاقهم، فحتى لو جردّوا من أموالهم ظلّ جوهرهم أصيلا... ليته يوجد كتّاب يركزون على جوهر الإنسان، يحكون  عني وعنك وعن الآخرين، نحتاج ذلك لأن الإنسان اليوم خرج  من دائرته الإنسانية وتحوّل الى مسخ، وبالكتابة عن هذا التشوّه العميق سيعاد له جوهره المفقود».

l  أ.سارة وشفون

وأنا اصيغ هذا المقتطف من حوار أجراه الفنان العميق ببساطته صالح أوقروت مع الصحفي رؤوف بوهالي على هامش فعاليات مهرجان وهران الدّولي للفيلم العربي، كنت أتحرى الأمانة في نقل المعنى الحقيقي لا الحرفي لقوله، حاولت أن لا أحرّف قصده في تشخيص أزمة الدراما الجزائرية بندرة نصوص جيّدة تعنى بالإنسان وهمومه، وتحفر في عمقه لرصد كل انفعالاته وتقلبّاته، نصوص تكون بمثابة جرعة هواء نقي يستنشقها المتلقي بعد أن اختنق لسنوات طويلة بأعمال تتحدّث عن كلّ شيء وأي شيء إلاّ عنه هو.
لكن قبل التفصيل في أزمة النصوص علينا أن نتفق أننّا لا نمتلك صناعة درامية قائمة بذاتها بل نمتلك تجارب درامية موسمية منها ما مرّ وكأنّه لم يكن، ومنها ما علّق في ذاكرة المتلقي لجودتها وهذه النوعية قليلة جدّا، ومنها ما علّق في ذاكرته أيضا لأنّها تطفح بكل رث وركيك وهذه النوعية هي الأكثر بروزا في المشهد الفني، والأكثر خلقا لحالة من الإحباط واليأس لدى المتلقين والمهتمين بالشأن الدرامي على حد سواء، وكأنّ الأمل في دراما جزائرية جيّدة يشبه الأمل في بيضة الدّيك.
في هذه السنة بالتحديد تم تقديم أعمال لم تكتب فقط خارج الواقع الجزائري بل كتبت خارج أي واقع آخر لأنها اعتمدت على ثيمات معلبة ومختومة، كمتلازمة سندرلا التي تجعل من رجل أعمال ثري يقع في غرام فتاة فقيرة وطيبة، أو ثيمة الفتاة الذكية البشعة التي تستطيع بجمال روحها أن تكسب ود مديرها في العمل. وأعمال أخرى اعتمدت قصصا نمطية خاوية تفتقر للإدهاش والتشويق وتعرف نهاياتها سلفا لأنها شوهدت من قبل في أعمال سابقة.
أعمال هذه السنة بالتحديد رفعت الرهان وأكثر من أي وقت سبق عن ضرورة تجويد   النصوص الدرامية، خاصة وأنها كتبت على مقاس نجوم شبكات التواصل الاجتماعي ولخدمتهم، والأصل أن يخدم الممثل  الشخصية لا العكس، إن ما يحصل عندنا هو التطاول على حرفة الكتابة الدرامية والاستهانة بها من طرف أشخاص تعوزهم الموهبة والكفاءة لا يرون فيها سوى مصدر رزق وفي أحسن الأحوال مجرد «بريستيج»، أشخاص خيالهم محدود وقدرتهم على ابتكار عوالم سردية جدّ ضعيفة، بصياغة أخرى علينا إعادة تعريف السيناريست بالشخص الذي يمتلك الرغبة والقدرة على الحكي لا الشخص الذي يتوهم ذلك فيقع في فخ الثرثرة واللّغو.
السيناريست هو من يمتلك ثقافة وفكرا وقضية يدافع عنها بألسنة شخصياته، وهو نفسه من يحب هذه الشخصيات ويتعاطف معها وإن كانت منبوذة في السياق الدرامي وذلك بإبراز كل أبعادها وتناقضاتها، السيناريست هو من ينتقد عمله قبل أن ينتقده الآخرون، هو من يقسو على نصوصه قبل أن يقسو عليه المتلقي، وهو أيضا من يطوّر من أدواته كلّما سنحت له الفرصة لذلك.
إن صناع الدراما الجزائرية اليوم في مأزق كبير ومتوارث منذ عقود ولا يمكنهم الخلاص منه إلا عن طريق الانفتاح على عالم الأدب الجزائري والاقتباس من مدونته الروائية، عليهم استغلال هذا الكنز لأنه ملاذهم الوحيد للخروج من منحدر لا تبدو له نهاية، ففيه فقط سيجدون ما ينقصهم من تنوع مواضيع، وتتعدد قضايا وحبكات محكمة، عليهم أيضا التقاط الإلهام من كلّ ما يحيط بهم من تراث وقصص شعبية، ومن معايشة الواقع ومعرفة لغة الشارع وهموم المواطنين وترجمتها في أعمال تعبر عنهم، أعمال تعوّض خيبتهم في الأفلام الجزائرية التّي لا تشعرهم بالغربة فحسب بل بالوحشة لأنّها لا تشبه سوى مخرجيها، مخرجون تشرّبوا من سينما المؤلف الفرنسية فراحوا يصنعون أفلاما تعبّر عن توجهات مدرستهم السينمائية يحصدون بها الجوائز العالمية ولا يحصدون بها قبولا جماهريا في وطنهم.
وتجدر التنويه إلى وجود جزئية مهمّة جدّا على كتاب الدراما الجزائرية عدم إهمالها مستقبلا وهي الوعي بأنّ خصائص الجمهور الذّي يتوجّهون له اليوم قد اختلفت تماما عن الماضي، وأن صورة المتلقي التقليدي الذي يجتمع مع أسرته حول التلفزيون لمتابعة مسلسل بعد أذان المغرب قد تلاشت وحلّت محلّها صورة متلقي يضع سماعات في أذنيه ويشاهد ما يريد ووقت ما يريد عبر شاشة هاتفه أو محموله، متلقي انتقائي ومنفتح على مختلف أنواع الدراما الغربية والعربية، وله معاييره الخاصة التي تمكنه من المقارنة بين الإنتاج المحلي والإنتاج الأجنبي، وغالبا ما تنتهي هذه المقارنات باحتقار الإنتاج المحلي والاستهزاء به وأحيانا بالخجل منه لأنّه لا يرقى إلى مستوى تطلعاته.
كل ما سبق ذكره لا ينفي وجود مواهب جزائرية في مجال الكتابة الدرامية بإمكانها النهوض بالقطاع، بل على العكس تماما هي كثيرة ومبعثرة في كل شبر من هذا الوطن، لا ينقصها سوى أن ينفض عنها غبار التهميش وأن تفتح في أوجهها أبواب شركات الإنتاج، وأن يتم إرشادها للطريق الصحيح بتكوينها في ورشات سرد درامي يشرف عليها نخبة من المؤلفين الجزائريين وغير الجزائريين ممن لهم خبرة في هذا المجال، كل هذه الخطوات ستمنحنا موجة جديدة من الدراما نحافظ بها على ما تبقى من ذاكرتنا الاجتماعية والسياسية والعاطفية.
كلّنا نحمل حسرة ثقيلة تكتم الأنفاس لما آلت له الدراما الجزائرية، وندرك أن الخلاص بيد الكاتب المثقف المفكر ذو النفس الطويل والإيمان الراسخ بجدوى الفن والجمال، وبيد من يدعم هذا الكاتب ويحارب معه كتفا لكتف من أجل مستقبل درامي أفضل ركيزته الأساسية نوعية النصوص المقدمة والمواضيع المطروحة فيها، مطبقين بذلك القاعدة الذهبية للمخرج البريطاني ألفرد هيتشكوك: «لتصنع فيلما عظيما تحتاج لثلاثة أشياء: السيناريو، السيناريو، والسيناريو».
الأستاذة سارة وشفون، باحثة مختصة في السيميولوجيا بكلية الاعلام والاتصال بجامعة صالح بوبنيدر- قسنطينة

الرجوع إلى الأعلى