الانفجار التكنولوجي استباح الأدب
* كورونا  إنذار للإنسان كي يراجع الكثير من السلوكات والمفاهيم
يقر الشاعر كمال أونيس بأن الشعر تراجع أمام سطوة السرد في العالم العربي  بسبب تغير الظروف الاجتماعية والسياسية، لكنه يبقى في نظره سيد الفنون، ويعتبر انتشار وباء كورونا إنذارا للإنسان كي يراجع الكثير من السلوكات والمفاهيم، إلى جانب قضايا أخرى تطالعونها في هذا الحوار.
حاوره: عبد العزيز نصيب
النصر: الشاعر كمال أونيس،  ما رأيك لو بدأنا هذا الحوار بسؤال طريف: لماذا تكتب؟
أكتب  لأنّي  لا أقدر أن أفعل شيئا آخر أتوحّد به غير صهيل قلم على سرج ورقة, أكتب  لأن بي جوعا غامضا يركض في داخلي  يستصرخ الإنسان البكر التائه في راهن إسمنتي بليد.
أكتب لأن الذي علّمني  منذ طفولتي على الصدق  والسير على بياض الصراحة أحال وجهة بوصلتي - دون أن يدري- إلى بياض القرطاس  وحبر الكلمات.
أكتب لأنّ الجنون الذي يربض  في متاهات روحي  مزهوا   بوهج   التجلّي لا يجيد   الرقص   إلا على إيقاع   حرف مجنون يحتضنه بكل محبة هذا الكون..
أكتب لأن فعل الكتابة   وحده من يستردني إلى ذاتي ويغرقني   بروعة  اللحظات  في   غموض لذيذ   وحالم  ويمنحني  ترخيصا  لأصرخ  مختالا : أنا الكائن الموجود  المدهش,
أنا الحقيقة  هنا , في قمة انبهارها ..
أكتب  لأن الحزن الذي  توشمّ  في ذاكرة الروح والقلب  منذ طفولتي , لا يستطيع أن يعانقه بحنان  جارف إلا شلاّل حرف على مصبّ ورقة.
أكتب وأكتب لأنقذ ما تبقّى من هسيس ذاكرة  جميلة مازالت  تربتّ على كتف الروح متضرّعة بخوف أن تنحني بخشوع  لعناق  ذاتها البريئة..
أكتب  لأنّ في داخلي وطنا بأكمله من الحبّ يتدفق من كل الجهات  لو أطلقت العنان له  لفاض  سخاء وحنانا وعطرا على  كل العالم..
أكتب لأنّ لي قلبا  بحجم كلمة وروحا بعبق قصيدة .أكتب لأنّي. لا أستطيع إلا أن أكتب.
النصر:هل تتذكر إرهاصات اللحظات الأولى وأنت تتورط في شرك اللغة  وفخ القصيدة ؟
عندما بدأت أحبو على غيمة الكلمات ذات عمر  لم أكن في الحقيقة أدرك هذا الغامض البهي الذي بدأ يهز أوتار البراءة الأولى في د اخلي لم أكن أعي كنه هذا السحر الذي بدأ يجتذبني  بمتعة وشهية إلى لعبة الحروف كنت كلما حلّ غروب الشمس  أو أدركت شروقها  على حين غرّة  تتساقط  على مساحة قلبي مبهمات يلتقطها لساني  تمتمات  غير مفهومة  تريد أن تتحول  إلى جمل وعبارات غير عادية.
كانت الأشياء و الناس والعالم حولي.. يبدو لي جميلا كنت مفعما بفرح غير عادي.. بشيء ما .. يجذبني إلى نفسي  لألتقط  هذه المشاهد صورا بالكلمات  وكأنني أريد أن أوقّف اللحظة كي لا تهرب منّي .. و أقتنصها فيما يشبه لعبة ما .. كانت الكلمة  وعاءها المعتّق  برحيق رائع أدركت بعد عمر من الزمن  أن هذه اللعبة المبهرة تسمى القصيدة.أقول في ذلك هذا النص بعنوان تمتمة:
لم أدّعِ يومًا بأنّيَ شاعرٌ
أصلُ الحكايةِ  كلِّهَا
أنّي شعرتُ في دمي خفقا  يقوّضُ أضلعي
حاولت  أن أتبيّنَ  الهمسَ الذي  يجتاحني
تمتمته  بين شفاهي غامضا  كرّرته ُ وأعدتهُ
وشهقت إيقاعا جميلا مبهمًا  وجداولاً  تنسابُ  في شكل حروفْ
فكتبتها  في نشوة حبلى بألوان الفرحْ
ونسيتُ في تيهِ الذهولْ
أنّ الذي  دوّنته  قطعًا  من الروحِ  التي  تنسلُّ  من كلِّ الفصولْ
وعرفتُ عمري أنّني  لخّصتهُ بقصيدةٍ  وقصيدةٍ.
النصر: شعراء يؤكدون: «كورونا» دفعنا للتفرغ وكتابة القصائد والتواصل مع المثقفين حول العالم، فماذا يقول الشاعر كمال أونيس؟
أعتقد أن الكتابة تتجاوز المواعيد وتقفز على الظروف, أقصد لحظة الإبداع في حد ذاتها ,لهذا أظنني صادقا إذا قلت أن لحظة الإبداع تشبه إلى حد كبير الضيف الذي يأتيك في اللحظة نفسها التي كانت بوصلة حدسك تنتظر طرق الباب ,الكتابة الحقيقية لا تعترف بالمواعيد والأوبئة والثورات هي لحظة توهج حرة لفكرة ما, خاطرة ما  تسربت إلى وعيك, لحظة الكتابة تشبه لحظة طوارئ قصوى ترن أصواتها في عمق الروح  لتبدأ في التشكل فكرة وهاجة متقدة تصنع النص المدهش الهادف والممتع والجميل..لهذا أصدقك القول بأن جائحة كورونا لم يكن لها أثر مباشر بالنسبة لي  كتابة وقراءة .
النصر: ما الذي يفعله الشعر «في زمن الأوبئة» أمام اجتياح كورونا للعالم؟
الشعر في زمن الأوبئة أو غيرها لا يكون فعله مباشرا, القصيدة ليست مرسوما سياسيا  يرسل ليطبق فورا ولا أمرا عسكريا وجب تنفيذه على أرض الواقع في حينه, الشعر يفعل أولا في النفوس التي تتذوقه, أقصد قارئيه ومدمنيه الذين يؤمنون بفعل الحرف والمجاز واللغة على الروح والعقل والمشاعر, وفعل الشعر لا يكون مباشرا  يكفي  لقصيدة ما أن تمتع قارئا  تدهشه  تبكيه أو تفرحه يكفي لقارئ أن تحوله القصيدة من حالة إلى حالة مغايرة , فعل القصيدة هو ملامسة الزوايا المخفية البعيدة والمظلمة في روح الإنسان.    
النصر: لقد توقف الكثيرون عند هذه الجائحة معوّلين عليها في رد الإنسان إلى إنسانيته بعد أن أخذته الحياة الحديثة في لهاث وحركة تخلو من المشاعر، فهل عالجت ذلك في كتاباتك؟
أصدقك القول أن كورونا كانت زائرا مفاجئا على الإنسانية بأكملها, ومع الأسف كانت زائرا مخيفا ومرعبا وإرهابيا خطيرا يستطيع أن يخنق أنفاسك بعد أيام  معدودة, وككل الناس هزت مشاعر الخوف كياني خوف هادئ لكنه حقيقي  وصرت أتابع الأخبار والتحليلات حول هذا الوباء الذي فتك في أقصى لحظات  ذروته الآلاف في أوروبا وإيطاليا واسبانيا ..والولايات المتحدة .. لم يكن على هذا العبد الضعيف ألا أن يخضع لقدرة الله في خلقه وكونه و كان لابد لصوت العلم والطب أن يعلو ولا يعلى عليه، و مما لاشك فيه أن هذا الوباء سيكون إنذارا حقيقيا للإنسان كي يراجع كثيرا من مفاهيمه الثقافية  الهشة ويدرك أن العلم ضرورة حياتية ويؤمن  أيضا بقدرة الله الجبارة في تغيير نواميس الكون متى ما شاء .
النصر: تراجع صيت الشعر عموما في العالم العربي، وما عادت له تلك الحظوة التي كانت، في نظركم ما أسباب هذا التراجع؟
فعلا عندما ننظر إلى ما ينشر ويطبع ويروج له عبر مساحات الإعلام الورقي أو شبكات التواصل الاجتماعي ندرك أن دور مساحة الشعر تقلصت كثيرا ومنحت نصيبا واسعا  للفن السردي خاصة الرواية، أعتقد أن الأمر تشكله أسباب عدة أولها المتغيرات الجذرية التي حولت عالمنا إلى قرية صغيرة بفعل التكنولوجيا والانترنيت ثانيها اختلاف الظروف السياسية والاجتماعية عما كانت عليه في العقود السابقة  وبات الإنسان أكثر هدوءا وراحة وتماثل إلى عقله وفكره باحثا عن تفسيرات لأسئلة الحياة التي أصبحت أكثر تعقيدا  مما يتناسب في نظري  مع الفن السردي ..وثالثها تداخل الشعر مع النثر - القصيدة النثرية -  مما جعل الأمر يلتبس على القارئ وتركت الساحة لمن هب ودب لأن يصبح شاعرا ...إلى جانب ما انتاب  الشاعر العربي  من شعور مر بالخيبة بعد فشل الانتفاضات الشعبية العربية في العقد الثاني من هذا القرن .
النصر: هل حاول الشاعر كمال أونيس، أن ينتقل من الكتابة في الشعر إلى مجالات أدبية أخرى؟   
 عندما تورطت في لعبة اللغة كنت منذ البداية أميل إلى الشعر لأني أراه سيد الفنون الأدبية, الشعر يقول لك المشاعر والأفكار بشكل مكثف وممتع وجميل على أنغام التفعيلات التي أعتبرها أوتار الروح الراقصة ,تعطيك القصيدة عالمها وخواطرها ومتعتها في نص واحد قد لا يتجاوز مقاطع  أو أبياتا مما تعطيه لك قصة أو رواية في كامل فصولها، مع ذلك أعترف بفعل النثر الأدبي ولي فيه نصوص أعتز بها كثيرا.
النصر: هل تعتقد أن الشعر كان له دور فعال في صنع الحراك ، والحراك العربي السياسي والثقافي في العالم العربي بصفة عامة، بحكم أنك عايشت تجارب عديدة وأجيالا مختلفة من الشعراء؟
الشعر واحد من الروافد الثقافية الكثيرة  التي تؤدي دورا عميقا في تشكيل الوعي الفردي للإنسان في المجتمع ,وككل تلك الروافد الثقافية فإنه دوره لا يكون مباشرا  وسريعا ولا يكون آنيا يظهر أثناء الحدث ثم يختفي, إن تشكيل الوعي لا ينضج إلا على نار هادئة كي يؤتى أكله المثمر..ويحتاج إلى سنوات وربما إلى عقود بأكملها كي نرى نتائجه في أرض الواقع ..لهذا لا أبالغ إن قلت لك أن ما شهده الوطن العربي في العقدين الأخيرين من ثورات شعبية ضد الديكتاتوريات السياسية..ما هو إلا نتيجة منطقية للاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي وكبت الحريات الجماعية والفردية, ومن ذلك الحراك الجزائري المبارك والسلمي الذي أبهر العالم بأكمله شرقا وغربا, إن أي ثورة في العالم لابد لها من مرجعيات ثقافية سابقة  يرتكز عليها الوعي الجماعي للشعوب المقهورة والمستعبدة ومن تلك الروافد الثقافية القصيدة والشعر الذي يحرض عقول الناس مرورا بملامسة  مشاعرهم وعواطفهم .
النصر : نظرتك لمستقبل المشهد الثقافي في الجزائر والوطن العربي في ظل التحولات الجديدة؟
أعتقد أن المشهد الثقافي الجزائري خاصة والعربي عامة يسير في اتجاهين مختلفين ..أولها مشهد ينم عن نظرة واعية عميقة للأحداث وقراءة عميقة لمعطيات الواقع والمستقبل هو مشهد لفئة من المثقفين برزت في السنوات الأخيرة  (مفكرون شعراء روائيون فنانون تشكيليون إعلاميون) بمختلف مشاربهم الإيديولوجية والسياسية وحتى الدينية والجميل في هذه الفسيفساء الرائعة هو توافقها بشكل ينم عن وحدة النظرة للواقع وحتمية التغيير بالرغم من اختلاف الآليات والوسائل ,رؤية تسير بشكل هادئ وعميق لكن دون مهادنة ولا رضوخ ولا مساومة، ثانيها اتجاه يميل إلى إمساك العصا من وسطها، فلا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء ..وإن شئت اتجاه ثالث وهم ما يمكن أن نسميهم بالمثقفين المدجّنين الذين يميلون حيث الريح تميل ..وهم أنموذج للمثقف الجبان الذي يفضل مصلحته الفردية والمنصب على قول كلمة الحق و قراءة الواقع قراءة موضوعية تكون فيها حرية الإنسان هي جوهر الكتابة والهدف الاسمى لها .
النصر: كيف تتصور آفاق المشهد الشعري العربي في المستقبل في ظل هيمنة التكنولوجيا، وكثـرة التحديات؟
أعتقد أن التحولات التكنولوجية المعاصرة قد أحدثت متغيرات سريعة ومبهرة في شتى المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وقد أخذت المساحة الثقافية نصيبها الوافر  من هذا التحول سواء بالنسبة  لطبيعة الفنون في حد ذاتها أو طرق التعبير أو فرص النشر والطبع فقد بات سهلا و مسموحا لأي كاتب أو شاعر أن ينشر ما شاء ومتى ما شاء وأصبحت الجرائد والصحف  والمواقع الالكترونية تنشر لمن هب ودب على صفحاتها دون تدقيق ولا تمحيص المهم في كل ذلك هو ملء مساحاتها الورقية أو الالكترونية . ومع أن هذا الأمر لا يمكن منعه أو حجبه إلا أن ذلك لا يخفي أبدا أفضال وايجابيات هذا التدفق التكنولوجي والوسائط الاجتماعية وصرنا نرى مواقع الأدب الالكترونية وما يطبع من دواوين وروايات قد أبرز من جانب آخر مواهب فذة عميقة في كتابة الرواية والقصة والقصيدة التي أبرزت لنا شعراء يمتلكون من الرصيد اللغوي والمعرفي وعمق الرؤية الفكرية والجمالية ما ينم عن مستقبل شعري أراه واعدا وفاعلا وهادفا وجميلا.
 النصر: تتوشح أغلب قصائدك بطابع الحزن, أحيانا يكون حزنا إنسانيا عاديا، وأحيانا يتوشح بنزعة فلسفية وصوفية عميقة.. ما السبب يا ترى في هذه النزعة التي تكاد تكون خاصية من خصائص الشعر عند كمال أونيس؟
أعترف  أنني أكتب عن الحزن  كثيرا منذ أن خطت أناملي  أول خربشة على البياض في لعبة الكلمات وأنا أكتب بحزن..
أحيانا  يكون حزنا بريئا  يأتي من عمق الروح بعفوية الإنسان البسيط أحيانا يأتي ممتزجا بفلسفة ورؤية صوفية ، حتى عندما أكتب عن الوطن أو المرأة أو الأرض أكتب بحزن  يلامس الحزن كياني وأوصالي .وجوانحي  ماضي وحاضري  وما تبقى من العمر  والكلمات متأكد أنني سأكتب عن الحزن وبحزن..
أكتب  وأرى في الحزن نشوة ربما لا يراها غيري..أكتب عن الحزن وأنا أشعر بفرح  حد الثمالة أحيانا،  وأحيانا أكتب بحزن وعن الحزن وكأن الحرف ينسل من خلايا الروح سكاكين  من الوجع ونزيفا من العمر.
أكتب عن الحزن ولا أتصنعه هو يطرق أبوابي  دوما.. يزورني على غفلة من نفسي يتسلل عبر مسامات الكلمات بعفوية وحب أكتب عن الحزن وبلمسته وحبره ودمه لأنه الوحيد الذي يجعل كلماتي بلون الفرح وطعم.الحقيقة .. أكتب بحزن وعن الحزن لأني لا أريد أن أكتب عن فرح كاذب يتيم تتيه فيه حقيقتي وتضيع فيه نشوة روحي .

الرجوع إلى الأعلى