منذ عصر ما قبل التاريخ، شهد العالم عددا من الأوبئة التي شكّل قليل منها تهديدا لوجود الإنسان فشملت الطاعون الأسود بالبندقية، السل، الكوليرا، الأنفلونزا الإسبانية، فيروس نقص المناعة البشرية، إيبولا، زيكا،  “ميرس كوف” و “سارس كوف”، و بالرغم من ذلك، لم يتسبب أي منهم في إغلاق الأرض مثلما فعل “كوفيد 19”، وهو المرض الناجم عن فيروس “سارس كوف 2”. وقبل ظهور الجائحة الحالية، وجه العلماء تحذيرا لصناع القرار بأن “كوفيد 19” باعتباره جائحة، سيضرب المعمورة في أي وقت و بأن على الجميع الاستعداد لهذا الأمر. عندما ظهر “كوفيد 19” في شهر ديسمبر من سنة 2019 بووهان في الصين، بدأ النقاش حول إن كان الأمر يتعلق بعمل بشري مفتعل أم لا، إلى أن أجاب العلماء على هذا السؤال من خلال تحديد تسلسل الجينوم لـ “سارس كوف 2” و خلصوا إلى أنه نشأ بصورة طبيعية ويكون قد أتى من حيوان البانغولين. وقد بدأت الحكومات حول العالم في تحضير نفسها للمرض سريع الانتشار.

الدكتور محمد بوجلال. مركز الملك عبد الله العالمي للأبحاث الطبية، جامعة الملك سعود بن عبد العزيز للعلوم الصحية. مدينة الملك عبد العزيز الطبية. وزارة الصحة. الرياض. المملكة العربية السعودية.
ويتألف كل مجلس وبائي، معين من  طرف علماء، بغرض الحصول على رأيهم بخصوص ما يجب القيام به وتقديمه من إحاطة يومية، لتثقيف السكان بالاعتماد على الحقائق العلمية. وسرعان ما بدأ الجميع يطلبون المساعدة من العلماء ويتعمقون أكثر في ماهية “كوفيد 19” لفهم طبيعته البيولوجية ولماذا نحتاج إلى التباعد الاجتماعي وغسل اليدين وارتداء الأقنعة. حتى والدي وأمي البالغان من العمر 97 عاما، بدأوا في فهم بعض بيولوجيا الفيروس وتحدياني بأسئلة حول تشخيصه، ولماذا لا يوجد علاج له ولماذا نحن بحاجة إلى 14 يومًا من الحجر الصحي.
لقد دخل العلماء في سباق وبدأوا في العمل دون توقف لاكتشاف سارس كوف 2 المتسبب في مرض كوفيد 19 والذي له أعراض مشابهة لفيروس كورونا المرتبط بالمتلازمة التنفسية الحادة الشديدة (SARS-CoV) ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية .(MERS-CoV) وثلاثتها تنتمي إلى عائلة الفيروسات التاجية المغلفة وتُصنف ضمن فيروسات الحمض النووي الريبي أحادي السلسلة إيجابي الاتجاه (+ssRNA). في مختبراتنا على مستوى مركز الملك عبد الله العالمي للأبحاث الطبية، وبالاعتماد على خبرة عملنا على “ميرس كوف”، قمنا بسرعة بوضع برنامج لاكتشاف أدوية لإعادة استخدام أدوية وكذلك تجريب اختبارات تشخيصية جديدة. تجري حاليا جدولة أحد اكتشافاتنا لإجراء تجربة سريرية على مريض “كوفيد 19”.
 لقد اكتشف العلماء أن “كوفيد 19” ينتقل بشكل أسرع وينتشر أكثر وسط السكان مما يجعله أكثر عدوانية. وقد أخذ العالم نصيحة العلماء على محمل الجد، ففي 12 مارس 2020، أعلنت منظمة الصحة العالمية بأن “كوفيد 19” أصبح جائحة، ما تسبب في إغلاق الاقتصاد العالمي من أجل تأمين حياة الأشخاص. كمثال، فإن تقديرات خسائر شركات الطيران العالمية ارتفعت إلى 314 مليار دولار بسبب فيروس كورونا، لكن جميع قطاعات الأعمال تتّحد لوضع حياة الإنسان في المقام الأول على حساب أرباحها كما تتابع عن كثب ما يوصي به العلماء.
رعاية المرضى المعرضين للخطر
اكتشف العلماء أن SARS-CoV2 المتسبب في “كوفيد 19” يستخدم الإنزيم المحول للأنجيوتنسين 2 (ACE2) ومستقبل بروتييز السيرين الغشائي TMPRSS2 على سطح الخلية لدخول الخلايا. يضعف الفيروس جهاز المناعة في الجسم من خلال خلق “عاصفة السيتوكين” التي تتلف عددا من الأنسجة وخاصة الرئة وتجعل المريض غير قادر على التنفس. ويُستخدم نظام الإنزيم المحول للأنجيوتنسين بشكل أساسي، من طرف عضلة القلب للعمل بشكل صحيح، وبالتالي فإن أي تغيير في هذه الآلية البيولوجية سيؤدي إلى مضاعفات في القلب والأوعية الدموية والموت. بناء على هذه الاكتشافات، نصح العلماء جميع مقدمي الرعاية الصحية بالاهتمام أكثر بالمرضى المسنين الذين يعانون من ضعف في جهاز المناعة، ومرضى القلب والأوعية الدموية ومرضى السكري المعرضين لمضاعفات عدوى “كوفيد 19”.
إضافة إلى ذلك، من بين السكان المعرضين لخطر الإصابة بـ “كوفيد 19”، النساء الحوامل إذا اشتبه في إصابتهن أو تأكدت إصابتهن بالفيروس. يؤدي الحمل و كذلك الولادة إلى حالة معينة من الاضطراب المناعي في الجسم مما يجعل الأم و الجنين عرضة للعدوى و المضاعفات، و كلاهما يتطلب رعاية خاصة من أجل تحسين معدل بقائهن على قيد الحياة و سلامة أطفالهم.
يوصي العلماء كذلك بالاعتناء بالمرضى المصابين بالأمراض النادرة، الذين يعانون من ضعف المناعة بسبب الأمراض الوراثية التي لا تؤثر فقط على الأطفال و لكن على البالغين أيضا. و الأمر نفسه بالنسبة لمرضى السرطان الذين يخضعون للعلاج الكيميائي، إذ يجب أن يحظوا برعاية طبية خاصة. كما ينظر العلماء إلى الأفارقة باعتبارهم من السكان المعرضين للخطر، لذلك فهم يحتاجون إلى رعاية خاصة سيما لحماية الأطفال. و لقد تم بالفعل إجراء تسلسل الجينوم لفيروس “كوفيد 19” المنتشر من أفريقيا و بدأت الجهود على المستوى الدولي تطالب بتقديم الدعم للقارة الأفريقية.
و لحماية السكان الأفارقة، تفاعل العلماء من جميع أنحاء العالم بالإجماع مع مقترح الطبيبين الفرنسيين اللذين اقترحا إجراء البحث السريري بخصوص مرض الفيروس التاجي 2019 (COVID-19) في الدول الأفريقية، و تم التلميح إلى أن الأخلاق و معايير السلامة لاختبار اللقاحات و العلاجات في هذه الدول، تُعد أقل مما هي عليه في البلدان الأخرى. لقد اعترض العلماء على هذا الأمر و استنكروا استعمال السكان الأفارقة كخنزير لإنقاذ الثروات.
و يسابق العلماء الزمن بالتعاون في ما بينهم، و ينشرون اكتشافاتهم بسرعة للعثور على علاج فعال و لقاح ضد “كوفيد 19”. يقوم العلماء حاليا بنشر البيانات و يتيحون مراجعتها مسبقا دون تسجيل براءات اختراع في مواقع الويب مثل bioRxiv (“الأرشيف الحيوي”). و في وقت قصير نسبيا، أصبح هناك بالفعل أكثر من 100 لقاح قيد التطوير، قليل منها أظهر فعالية في التجارب ما قبل السريرية و هي آمنة في المرحلة الأولى من التجارب السريرية و في طور الانتقال إلى المرحلتين الثانية و الثالثة. بغض النظر عن العِرق و اللون و المعتقد الديني، تذهب القيادة العلمية دائمًا إلى أولئك القادرين على تقديم و توفير حلول لحياة آمنة. إن ترشيح الرئيس  ترامب للدكتور منصف السلاوي، و هو عالم أدوية أمريكي بارع من أصل عربي إفريقي مسلم، لقيادة جهود الولايات المتحدة الأمريكية لتطوير علاجات ضد “كوفيد 19”، يُشجع جميع العلماء على التفوق و خاصة أولئك القادمين من العالم النامي.
باختصار، أن يكون المرء عالما فهذا عمل مُشرف لأنه يأتي في المقدمة كلما كانت البشرية في حاجة إليه، و هو محفز على أن يكون جميع العلماء الشباب و الموهوبين طامحين أكثر للاهتمام بالبحث الطبي الحيوي لحماية الحياة و الحفاظ على استمرار الجنس البشري.

الرجوع إلى الأعلى